ليس الوضع الاقتصادي عاملاً حاسماً، على ما يبدو، في توليد ارهابيين. إنه أحد العوامل، خصوصاً، في العالم العربي، أما في المَهاجر الغربية، فهناك عوامل إضافية قد تسبقه، في مقدمتها "المعازل" التي يجد المهاجرون / اللاجئون القادمون من بلدان العالم الثالث أنفسهم فيها. وهذا أمر على الأوروبيين أن يتصدوا له. تلك مهمة عاجلة لمن تحدَّثوا عن سياسة الاندماج التي انتهت إلى ما يشبه "الغيتو". لكن هناك عوامل أخرى علينا نحن الذين نعيش في الغرب (فارّين على الأغلب من جحيم بلداننا) أن نتصدّى لها. لنأخذ الانتحاري الليبي الشاب سليمان العبيدي مثالاً: لا تنطبق عليه الظروف الاقتصادية السيئة التي تدفع شباناً إلى رمي أنفسهم الى التهلكة، ولا الظروف الاجتماعية التي تعيشها الجاليات العربية / الإسلامية في بلجيكا (مثلا) وضواحي المدن الفرنسية الكبرى، ففي مجتمع يعلن نفسه متعدّد الثقافات، كالمجتمع البريطاني، ليس هناك ادماج بالقصر، ولا دفع المهاجرين إلى معازل تميزهم عن غيرهم من سائر المواطنيين. هناك، بالطبع، ما تسمى "المدن الداخلية" وهذه مختلطة، تجد فيها أبناء البلاد "الاصليين" والمهاجرين سواء بسواء. وهذه يطبعها طابع الفقر والجريمة والتهميش الاجتماعي وتشكل مصدر قلق حكومي لأسباب لم يكن الإرهاب من بينها. في تحليل قضية الانتحاري الليبي الشاب نجد أن "الثقافة" لعبت الدور الأبرز في دفعه إلى فعلته الإرهابية الشنيعة. فهو ابن رجل ليبي كان ينتمي (والبعض يقول لا يزال) إلى قوى تكفيرية، فرّ من مشانق القذافي في تسعينيات القرن الماضي إلى بريطانيا، ولكنه لم يُحدث مراجعة لفكره وتصوره للأنا والآخر في مكانه الجديد، بل لعله أوغل في "الفكر" التكفيري. ونحن نعرف هؤلاء الذين يقتلون أنفسهم للوصول إلى الغرب وعندما يوطدون أقدامهم فيه يوسعونه شتماً واحتقاراً، معتصمين ب "طهارة" الأنا في مواجهة "نجاسة" الآخر. هؤلاء نعرفهم ونعيش بينهم في بريطانيا تحديداً، وسبق أن كتبت لهم وعنهم، مراراً، ولكن من دون فائدة تذكر. فمع تصاعد الصراع على منطقتنا التي لم تخرج، قط، من حسابات الغرب السياسية والاقتصادية تتصاعد الاحتقانات الداخلية عند عدد لا بأس به من مهاجرينا /لاجئينا، ويخلطون بين غربين: المؤسسة والناس. من يرمي "التوما هوك"، ومن يتظاهر من دون كلل تضامناً مع قضايانا. في جوِّ كهذا، على الأغلب، عاش سلمان. والده نفسه يتحدر من "فكر" تكفيري، عاش، وعائلته، على أموال دافعي الضرائب، كما يفعل كثير من المهاجرين / اللاجئين في البداية على الأقل.. يعني أن المواطنين البريطانيين الذي سيفجِّر ابنه نفسه في أبنائهم وبناتهم هم الذين أعالوا رمضان العبيدي الفارّ من مشنقة القذافي. التطوّر الأخطر في قضية سليمان العبيدي أنه الانتحاري، أو الإرهابي، العربي الأول في بريطاينا. وبهذا يسجل سابقة. فمن قبل كان يقوم بأفعال كهذه مسلمون من أصول آسيوية. ¬كانت تبدو الجالية العربية أقل تطرفاً دينياً من الجاليات الآسيوية المسلمة، وهذا طبيعي، في رأيي، من منظور المركز والأطراف. فالمركز (حسب ما تراكم لدي من ملاحظات قد تكون موضع مقال قادم)، أكثر اعتدلاً في فهمه وسلوكه الديني من الأطراف التي قد تكون محرومة من "تنوّع" المركز، الذي يمتاز على الأطراف بامتلاكه زمام اللغة العربية التي لا فهم للقرآن، قطعاً، من دونها. ثم تذكروا أن "فكر" التطرف الإسلامي جاء أصلاً من الأطراف سواء كانت عربية (كالسعودية) أو غير عربية مثل باكستان. فليس سيد قطب سيد التطرف الديني. إنه تلميذ الباكستاني أبي الأعلى المودودي. وهذه قضية أخرى على كل حال. يسجّل سليمان العبيدي، إذن، سابقة كونه أول انتحاري عربي في بريطانيا، ولكن ليس أول من يفجّر نفسه وسط أناس بعيدين كل البعد عن غرب المؤسسة، غرب تقسيم العالم العربي، ووعد بلفور، واحتلال فلسطين وما جرى من دم غزير/ النهر الوحيد الذي ينبع من قلب العالم العربي/ تحت ذلك الجسر الذي لا يزال قائماً إلى اليوم. لكن، ما علاقة أولئك المراهقين الذين ذهبوا إلى الغناء والرقص بأن تقصف أعمارهم في مستهلها؟ هذا سؤال آخر، ربما يجد جوابه في عقدة مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"! عن "العربي الجديد"