كنتم من المشاركين ضمن الندوة الدولية ببروكسيل حول الموقف الإسلامي من العنف، ما الحاجة للوقوف المتكرر أمام الموقف الإسلامي من العنف في عدد من المناسبات الدولية، وهل يمكن الحديث عن"تموضع غير مريح" للموقف الإسلامي أمام الغرب؟ ندوة بروكسيل كانت تجمع عددا من أتباع الديانات الأخرى، وليس المسلمين فقط، وقد كانت مناسبة للتعرف على وجهات نظر المتدينين خلال الأوراش والنقاشات التي دارت فيها. لكن الملاحظ أن الجميع كان مهتما بوجهة نظر المسلمين دون غيرهم، لأنهم هم المتهمون بالتطرف، بل إن أحد البوذيين تساءل عن موقعه في الندوة طالما أنه غير معني كبوذي، وهذا خطأ كبير جدا يعبر عن سوء الفهم. لقد أصبح الدين والقومية اليوم مختلطين، والتعصب القومي يصبح دينيا والعكس كذلك في بعض التجارب، وهذا ما يحصل في بورما وسريلانكا مثلا تجاه المسلمين. لقد كان يقال بأن البوذية ديانة متسامحة وروحانية، لكن العنف الذي تمارسه ضد المسلمين يدل على أنها لا تقل عنفا عن غيرها. وفي ما يتعلق بالمسلمين تؤكد الإحصاءات أن العنف الصادر عنهم أقل من العنف الصادر عن غيرهم في العالم، بل إن الإرهاب الذي يرتدي الزي الإسلامي يشكل المسلمون أول ضحاياه قبل غيرهم. هناك قضايا يجب إعادة النظر فيها، وهذا ما حاولت ندوة بروكسيل أن تؤكده، وهي أن الإسلام رسالة تسامح، وهو الدين الأكثر تسامحا تجاه الآخرين مقارنة مع غيره من الأديان والفلسفات الروحانية، لكن التركيز الكبير على العنف الصادر عن المسلمين أو عن الإسلام هو ما يلقى الترحيب به على الصعيد الدولي إعلاميا، وأنا أتذكر عبارة قالها صحافي أمريكي، وهي أن تكون مسلما في الواقع أفضل من أن تكون مسلما في قناة "فوكس". بعد مرور عقود على نشأة موجة العنف الموجه بالدين الذي وصل ذروته مع تنظيم داعش، هل يمكن الإقتراب من التشخيص المسعف على وضع تصور لمحاربة هذا العنف، أم أن الأبعاد المتداخلة للظاهرة تضع كافة الجهود أمام الباب المسدود؟ نحن اليوم أمام موجة جديدة من العنف على المستوى العالمي، والعنف الإسلامي جزء من هذا العنف الذي تحول إلى رأسمال خطير في الحضارة المعاصرة. ما يهم الغرب هو إدانة الآخرين والتغطية على مسؤولياته في هذا العنف المنتشر عبر العالم، فالغرب لم يراجع سياساته الاستعمارية القديمة ولا يزال يتصرف بنفس المنطق مع الشعوب الأخرى، من منطلق تفوقه الثقافي والعسكري والسياسي. لقد بدأ العنف الديني في العصر الحديث مع المسيحية وليس مع الإسلام، والحروب الدينية المسيحية التي استمرت مائة عام دليل واحد فقط على التاريخ الدموي، وعندما أرادت المسيحية أن توحد نفسها كان عليها أن تجد عدوا آخر من غير المسيحيين، لذلك بدأت الإبادات الجماعية في صفوف الحضارات الهندية والآسيوية والإفريقية باسم الدفاع عن المسيح. لكن الغرب عندما يتحدث عن العنف الديني يريد توجيه اللوم إلى الإسلام فقط، وينسى هذا التاريخ كما ينسى ما يقوم به المسيحيون في إفريقيا وآسيا ضد المسلمين وغير المسلمين اليوم. إن ما يقوم به تنظيم داعش الإرهابي هو نفسه ما يقوم به المسيحيون المتطرفون في إفريقيا الوسطى مثلا، لكن لاحظي أن الضحايا في الجانبين معا هم مسلمون. وما يحصل اليوم من تنامي العنف باسم الإسلام يعود إلى عاملين رئيسيين، العامل الأول ثقافي، وهو تشويه الإسلام والإساءة إلى المسلمين عبر العالم، والعامل الثاني يرتبط بالسياسات الغربية. لا ينبغي أن ننسى أن التطرف الإسلامي في أول مراحله قبل أن يتعولم قد تم بدعم أمريكي في أفغانستان، وفي المرحلة الثانية انطلق من احتلال العراق، وما يجري اليوم هو نتاج احتلال العراق في جزء كبير منه، ونتاج السياسة المنهجية التي اختطها الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر. فأبعاد الظاهرة الإرهابية معقدة، لكن عوض الانكباب على تفكيك هذا التعقيد يطرح الغرب المسألة بكل بساطة، وهي أن المسلمين هم المسؤولون عن العنف. هل يوجد فرق بين رد الفعل الغربي الرسمي والشعبي أمام الهجمات الدموية التي تحمل توقيعا إسلاميا، بعبارة أخرى هل ترسخ الأعمال التخريبية للقناعة القائلة أن " الإرهاب صناعة إسلامية" بين صفوف الرأي العام الغربي؟ هذا صحيح، فقد تم تركيز هذه الصورة خلال عقود من الزمن. لقد مرت صورة الإنسان العربي والمسلم في الغرب بعدة مراحل، قبل أن تصل إلى المرحلة الحالية التي أصبح فيها الإرهاب صناعة إسلامية فقط. هذه الصورة تعود إلى قرون مضت، فقد كان المسلم في التصور المسيحي يدل على الشخص الذي يتبع ديانة شيطانية، لأن الإسلام كان يعتبر هرطقة تستوجب المحاربة، وبعد غزو المسلمين للأندلس أصبح المسلم يعني المتوحش، وكانت كلمة سارازان تعني المسلم الهمجي، وفي العقود الأولى من القرن الماضي كانت صورة العربي والمسلم صورة المحتل، لأن العقلية الغربية كانت تتذكر احتلال العثمانيين لفيينا ومعركة بواتييه، وبعد اكتشاف البترول أصبحت صورة العربي والمسلم تعني الشخص الثري الذي لا يعرف سوى المال والنساء، وهكذا، فالمسلم دائما لديه صورة سلبية جدا في الثقافة الغربية. واليوم هو يحاول استغلال ما تقوم به جماعات إرهابية تشكل أقلية للإساءة إلى المسلمين ككل، لأنه يبحث عن أي عنصر مساعد لترسيخ هذه الصورة السلبية. ويحضرني هنا تصوير جيد للدكتور عبد الله بوصوف، أمين عام مجلس الجالية، وهو رجل محنك وخبير في شؤون الإسلام في أوروبا، فهو يقول بأن المسلمين ضحية الصورة الجماعية التي رسمت لهم في الغرب، بمعنى أن هناك رؤية للمسلمين ككتلة واحدة، بحيث لا يستطيع المواطن الغربي التمييز بين مسلم متطرف ومسلم عادي، نتيجة وجود هذه الصورة الجماعية. وفي المقابل لا نجد أي جهد من لدن المسلمين اليوم للتعريف بالصورة الحقيقية لهم كجماعة وأتباع دين بعيد عن التطرف والعنف، ومن المؤسف القول بأن جماعة كداعش مثلا هي التي نجحت في تسويق الصورة التي تريد للإسلام كدين عنف وإرهاب، بينما فشلنا نحن وعددنا أكثر من مليار نسمة في تسويق الصورة الحقيقية، لقد انتصر الإرهابيون علينا إعلاميا بخلق الصورة التي يريدون عنا. انطلاقا من 11 سبتمبر إلى اليوم والغرب يتلقى ضربات متوالية في عقره داره، وعلى يد أبنائه بالنظر إلى جنسية الانتحاريين الذي يحاول التبرأ منهم من خلال الإحالة على الأصول،هل يمكننا اليوم الحديث عن غرب مفرخ للإرهاب؟ لقد تغيرت المعادلة اليوم بشكل كبير، وهذا ما يتطلب مقاربات جديدة لظاهرة العنف باسم الإسلام في الوقت الحاضر، والخروج من الأطر النمطية في تحليل الظاهرة. فلأول مرة أصبح المتطرفون يأتون من البلدان الأوروبية وليس فقط من العالم العربي والإسلامي. هناك شبان كثيرون يتوجهون من أوروبا نحو الجماعات المسلحة في العراق وسوريا، وهم فئتان، فئة المسلمين ذوي الأصول العربية والمسلمة الذين ولدوا وتربوا في أوروبا، وهناك فئة الأوروبيين الذين لهم أصول أوروبية لكنهم اعتنقوا الإسلام والتحقوا بالجماعات الإرهابية، والفئتان معا أوروبيتان. إن أوروبا تحاول التهرب من مواجهة هذه الحقيقة عبر الحديث عن قضية الأصول، لكن كيف يمكن الحديث عن أصول شخص ولد في قلب فرنسا أو بلجيكا مثلا وتربى وتعلم بها، فقط لأن والديه من بلد عربي؟، هذه المسألة مثلا لا نجدها في أي حالة أخرى، إذ لا أحد يتحدث عن الأصول الأولى لشخص مسيحي أو يهودي إذا اقترف جريمة معينة، وفي إسرائيل يعيش اليهود القادمون من شتى بقاع العالم، لكن لم نسمع في أي وقت عن شخص حوكم في جريمة قتل أو إرهاب مثلا ضد الفلسطينيين أنه من أصول بلغارية أو بولندية أو غير ذلك. هناك سياسة مقصودة للإساءة إلى الإسلام والمسلمين، من خلال تشويه صورة بلدان عربية معينة كحالة المغرب مثلا، حيث يتم التذكير دائما بأن متطرفا ما ذو أصول مغربية، بالرغم من أنه لم يترب داخل المغرب ولم يتعلم في مدارسه، فأوروبا تمارس سياسة الإدانة فقط عوض الانكباب على فهم الظاهرة للتعامل معها. عقب كل عملية إرهابية تشهر كل الأطراف ورقة الإدماج، فإلى أي حد يتحمل كل طرف مسؤولية تعثر عملية الإدماج، وهل أصبح من السهل التلويح بهذه"الورقة الوهم" لامتصاص غضب الجيل الثالث والرابع ؟ عبارة الإدماج استعملت بطرق مختلفة في أوروبا بحسب السياقات السياسية والدوافع الحزبية، ولا أحد يعرف ما المقصود بها بشكل دقيق. البعض يعتبر أن الإدماج يعني إدماج المسلمين في الثقافة الغربية السائدة، والبعض يرى أنها تعني الاعتراف بالعلمانية، وآخرون يربطونها بتخلي المسلمين عن تقاليدهم وثقافتهم من أجل الدخول في قالب جديد. فمفهوم اليمين للإدماج ليس هو مفهوم اليسار، وهما معا ليسا نفس مفهوم اليمين المتشدد، أو غير المتدينين. لقد تعرض المهاجرون المسلمون الأوائل لمختلف أنواع التهميش والإقصاء في أوروبا، وهذه الخلفية التاريخية والاجتماعية انتقلت إلى الأجيال الجديدة التي ولدت داخل أوروبا، الأمر الذي فجر مشاعر الغضب واليأس ورغبة الانتقام، بسبب غياب سياسات حقيقية لإدماج هذه الأجيال والاعتراف بها كجزء من مكونات المجتمع الذين تعيش فيه، وحديث فرنسا اليوم مثلا عن تجريد المتطرفين من الجنسية أو طردهم، رغم أنهم فرنسيون، يعني في جانب منه أن فرنسا لا تعترف بهم كجزء من المجتمع، فهي لا تلوح بنفس التهديد في وجه الفرنسيين المتطرفين، لكنها توجهه إلى المتطرفين الفرنسيين الذين ولدوا من آباء عرب، وهذا وحده يجعل الجيل الثالث والرابع من المهاجرين يشعر بأنه لا ينتمي إلى البلد الذي هو فيه، وهذا يتناقض مع شعار الإدماج. إلى أي حد يمكن للجالية المسلمة خاصة تلك المتحدرة من بؤر التوتر المصدرة لصور جد سلبية عن الإسلام، المساهمة في إعادة الثقة بين الغرب والإسلام عوض التحركات الموسمية لرؤساء جمعيات يحتكرون الحديث باسم الدين ويعملون وفق أجندات وتمويلات دول معينة؟ إن الأمر يهم أوروبا بدرجة أساسية قبل غيرها، ويهم السياسة التي كانت تنهجها في الماضي تجاه الإسلام. يجب أن لا ننسى بأن البلدان الأوروبية كانت تتساهل مع الإسلام الراديكالي في العقود الماضية، ومع بلدان الخليج لمصالح اقتصادية، وتفتح الباب أمام ترويج نوع من الفكر الديني، وبناء المساجد وانتشار الأئمة والعلماء المتشددين في الجمعيات والمؤسسات الدينية داخل أوروبا، وتوزيع الكتب المتطرفة، وهذا كله كان يتم تحت أعين الحكومات الأوروبية، وتوزيع المال بسخاء على مؤسسات معينة، واليوم هي تحاول التنكر لهذه المسؤولية وتحميلها لبلدان عربية لا مسؤولية لها في الموضوع. ولتغيير دفة الأمور اليوم على أوروبا أن تتيح مساحة أوسع للمدارس المعتدلة في التدين، مثل المدرسة المغربية، وعلى المؤسسات الدينية أن تعيد التركيز على وضعية الإسلام في أوروبا، لصياغة خطاب ديني متسامح ومعتدل، ووضع فقه جديد للمسلمين فيها يناسب أوضاعهم. إن إعادة الثقة بين الغرب والإسلام مهمة متبادلة، فالغرب عليه أن يساهم في ترسيخ الصورة الإيجابية للمسلمين والإسلام، والمسلمون عليهم أن يساهموا في التقريب بين القيم الإسلامية الحقيقية والقيم السائدة في الغرب، فالغرب ليس كله شرا، ولا يجب النظر إليه كعالم من الكفر كما يفعل البعض، فهناك الكثير من القيم الليبرالية التي هي موجودة في الإسلام. إدريس الكنبوري: باحث في الحركات الإسلامية والمسألة الدينية