خلافا للتحليلات التي ترى أن مسار الانتخابات الرئاسية الفرنسية يؤشر على ظهور تقسيم جديد يقرر بناء عليه الناخب الفرنسي الاختيار بين الانفتاح على العالم أو التقوقع على الذات عوض يسار أم يمين، يرى هذا الرأي الأكاديمي من الموقع الإعلامي الحصيف "ذي كونفورسايشن"، أن ثنائية يمين/ يسار تنبعث من جديد مع الرئاسيات الحالية، مقدما بعض الأسباب التي "تُوهم" بأن هذه الثنائية التاريخية في طريقها إلى الزوال. قيم اليسار وقيم اليمين.. من الثورة الفرنسية إلى انتخابات 2017 بيير بريشون* مصطلحا اليمين واليسار مصطلحان عتيقان بما أنهما يجدان بدايتهما في تاريخ الثورة الفرنسية. سنة 1789، وقع نقاش داخل الجمعية التأسيسية حول ما إذا كان يجب أن يُمنح الملك في المؤسسات الجديدةلفرنسا حق نقض القوانين الجديدة، وإذا ما كان يجب أن يكون هذا الحق مطلقا أم مؤقتا. لحظة التصويت على هذه المسألة، وقف المساندون لحق النقض المطلق للملك على يمين رئيس الجمعية، أي على الجانب النبيل للجمعية التأسيسية حسب التحديدات المسيحية: إذ يُعتبر من شيم النبل الوقوف في يمين الأب تماما مثل الوقوف في يمين الإله. بالمقابل، وقف من يطالبون بحق نقض محدود على يسار رئيس الجمعية. هكذا أخذت جغرافيا القاعة بعدا سياسيا: على اليمين المدافعون عن الملكية التي تحفظ للملك عدة سلطات، وعلى اليسار من يريدون تقليص تلك السلطات. في القرن التاسع عشر، تطور استعمال هذا القاموس المجازي ليمتد إلى تصنيف المواقف السياسية للبرلمانيين. إنها صيغة تتمثل إيجابياتها في كونها بسيطة، وبالتالي تختزل الأفكار السياسية المعقدة في تصنيف ثنائي. كما أن هذا التصنيف، يمين / يسار، يسمح للمتحدث بتحديد التيار الخيّر الذي ينتمي إليه والتيار الشرير الذي يذّمه. وانطلاقا من هذا التصنيف، ظهرت تصنيفات فرعية لمعرفة مدى تموقع فاعل سياسي معين على اليمين أو على اليسار. وبذلك سيبدأ الحديث عن "تحالفات يمينية" و"تحالفات يسارية" و"تحالف وسط اليمين" و"وسط اليسار"، و"أقصى اليمين"، و"أقصى اليسار".. حرب قسّمت فرنسا شطرين على مدار العقود، تطور حجم القضايا التي صارت جزءا من الحديث السياسي. في كل قضية أو نقاش، صار بإمكان المتابع الوقوف على موقف أو أكثر لليسار، وموقف أو أكثر لليمين، إضافة إلى مواقف وسطية وأخرى متذبذبة. فإذا كان تقسيم المشهد السياسي إلى يمين ويسار كان يضع، في بداية القرن التاسع عشر، أنصار الملكية المطلقة في مواجهة أنصار الملكية الدستورية، فإنه سيضع، في مرحلة لاحقة، مساندي نموذج الجمهورية المحافظة في مواجهة المطالبين بجمهورية عصرية ستتبنى القوانين الكبرى للجمهورية الثالثة من حرية الصحافة والحريات النقابية وقانون الطلاق والحريات الجمعوية.. ومع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، سيجد الاختلاف بين اليسار واليمين تعبيره في الانقسام بين أنصار فرنسا الوفية لدينها الكاثوليكي وأنصار علمنة الدولة، وهو ما يعرف تاريخيا ب La guerre des deux France . بعد ذلك، وبداية من سنوات 1930 سيجد هذا التضاد بين الطرفين تعبيره في المسألة الاقتصادية، بين يمين يدافع عن الليبرالية ويسار يدافع عن الاشتراكية. أما اليوم، فقد صارت رهانات النقاش السياسي أقل تقيدا بقضية بعينها. ولا زال النقاش الاقتصادي يفصل اليمين عن اليسار حتى وإن تغيرت الحلول الليبرالية والاشتراكية المقدمة حاليا مقارنة مع تلك التي كانت مطروحة في الماضي. النقاش حول التحرر الأخلاقي شغل مساحة أقوى منذ سبعينات القرن الماضي، مع النقاشات التي تفجرت حول الإجهاض والطلاق والشذوذ الجنسي والزواج للجميع والقتل الرحيم. والأمر ذاته ينطبق على قضايا الهجرة والانفتاح على العالم من الانغلاق على التراب الوطني، وسياسة الحماية الاقتصادية والدفاع عن التقاليد الثقافية. تيارات يسارية عديدة وتيارات يمينية عديدة سبق للمؤرخ السياسي، ريني ريمون، أن تحدث عن ثلاثة تيارات يمينية: يمين سيادي ومعادي للثورة، ويمين ليبرالي، ويمين سلطوي متحكم (bonapartiste). ولا شك يوجد بون شاسع بين يمين محافظ، يميل للتسلط، ومساند لنموذج اقتصادي تحتفظ في إطاره الدولة بدور المقنن والحامي، ويمين ليبرالي في توجهه الاقتصادي ويبحث عن تحرير الشغل والديناميات المقاولاتية، القريبة من توجه الحزب الجمهوري. أما اليمين السلطوي، الذي كان مقربا في الماضي من الحركة الديغولية، فيمكن أن يجد تعبيره اليوم في حزب الجبهة الوطنية. وفي كل نقاش سياسي، يتم التمييز عموما على الأقل بين تيارين يساريين وتيارين يمينين. ففي مجال القيم الأسرية وزواج الشواذ مثلا، هناك أقلية في اليمين تعبر عن إباحة (permissivité) متنامية في مثل هذه القضايا، كما أن هناك أقلية في اليسار مترددة بخصوصها. وفي قضية الهجرة، الأمر ذاته يصح. السياسات الرامية للحد من تدفق المهاجرين لا تلقى إجماع كافة مكونات اليمين، كما أن سياسات الباب المفتوح لا تلقى إجماع مكونات اليسار. دون أن ننسى الوسط المواقف الوسطية تبقى صعبة التحديد لأن من يتبنونها يتأرجحون بين مواقف يمينية وأخرى يسارية حسب تقلب القضايا التي يخوضون فيها. فقد تجد من بين هؤلاء من يدافع عن العلمانية والحقوق الفردية (التي يدافع عنها اليسار تقليديا)، ولكن في الوقت ذاته هم مع الليبرالية في المجال الاقتصادي، أو كما تقول العبارة "قلوبنا مع اليسار وجيوبنا مع اليمين". بالمقابل، هناك من يساند السياسات الاجتماعية والحوار بين أرباب المقاولات والشغيلة، وفي الوقت ذاته يعارض الليبرالية الاقتصادية ويبقى متحفظا في القضايا الخاصة بالأسرة. فحتى لو كان بإمكاننا أن نحدد بعض تيارات اليمين واليسار والوسط التي تمثل حلقات فكرية على المدى الطويل، تبقى الحلول التي تقترحها متباينة من مرحلة إلى أخرى. إذ لا يوجد معيار موحد ودائم مرتبط بهذه الفئات المختلفة. بل لا يمكننا حتى القول، اليوم، إن اليمين مع النظام السائد واليسار مع التغيير كما يدعي البعض. ففيما يخص دولة الرفاه، نجد أن اليمين هو من يرفع لواء الإصلاح فيما اليسار يدافع عن المكتسبات الاجتماعية. لكن في كل فترة، تبقى تحديدات "يمين، يسار، وسط"، علامات تسمح بتصنيف الأحزاب ورجال السياسة والأفكار التي يدافعون عنها. رئاسيات تحيي ثنائية يمين يسار من الراجح جدا أن جزءا مهما من المشاهدين الذين تابعوا المناظرة التلفزية الأولى التي جمعت المرشحين للدور الأول من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يصنفون المرشحين الخمسة بشكل مماثل لما ذكر فوقه، كل على قدر معارفه السياسية، على سلم يذهب من اليسار إلى اليمين. جون لوك ميلونشون، مرشح فرنسا المتمردة يمثل شكلا من أشكال الاحتجاج الاجتماعي الذي يرفض التحالف مع اليسار الحكومي ويقترح برنامجا ينطوي على قطيعة أكبر مع المؤسسات ومع أوربا والسياسة الاقتصادية، مقارنة مع بونوا هامون، الذي يمثل الديمقراطية الاجتماعية. إيمانويل ماكرون، الذي شارك في رسم كثير من سياسات فرانسوا هولاند الاقتصادية، يقترح سياسات من النوع الوسطي. فهو في الآن ذاته مع السياسات الاقتصادية الليبرالية وإجراءات الحماية الاجتماعية، ومع إدماج المهاجرين وعدم التمييز تجاه الأقليات. تماما مثلما حاول أن يقوم به فرانسوا بايرو في انتخابات 2007 و2012، يحاول ماكرون اجتذاب ناخبي "يمين اليسار" و"يسار اليمين". بكلمات أخرى: الاشتراكيون الذين يجدون بونوا هامون متطرفا في توجهه اليساري، والجمهوريون أو أنصار الوسط الذي يجدون فرانسوا فيون متطرفا في توجهه اليميني. اليسار واليمين.. وجهان لعملة واحدة؟ وعليه فالقول إن اليمين واليسار وجهان لعملة واحدة يبقى في نهاية المطاف قولا خاطئا، لكن تحليل ما يخلف هذا الانطباع أمر يستحق العناء. بدأ هذا الانطباع يظهر بقوة في استطلاعات رأي تعود لسنوات الثمانينات من القرن الماضي. عدد متنام من الأشخاص باتوا يؤكدون أنه لا معنى للحديث عن أي فرق بين اليمين واليسار. ورغم ذلك، الأشخاص أنفسهم الذين يقولون بتشابه الضدين، يقبَلون بموقعة أنفسهم في سلم يتدرج من اليمين إلى اليسار، معبرين عن شكل من أشكال الهوية السياسية إما يمينا أو يسارا. وعلى حسب موقعهم في السلم المذكور، تختلف إجابات هؤلاء الأفراد حول عدد من القضايا السياسية. لكن بإمكاننا تفسير هذا التناقض. كثير من الأشخاص يشعرون أنهم أشد ميلا لليمين أو اليسار في تصوراتهم، بالتوازي مع اعتبار أن الحكومات تنفذ سياسات متشابهة حين تصل إلى السلطة. ينتظر هؤلاء إذن برامج سياسية واضحة قابلة للتعبير عن ذاتها في شكل مقترحات يمينية أو يسارية. لكن تجسيد هذه المقترحات يخيب آمالهم. وفي الحقيقة، تجد هذه الصعوبة في تنفيذ برنامج (وفيّ لتصور سياسي يميني أو يساري) تفسيرها في عدة أسباب منها: * تغير الظرفيات خلال مدة سريان الولاية الحكومية، ما يفرض ضرورة التأقلم مع المتغيرات (أزمة اقتصادية، هجمات…) إلخ. * مجموعة من جماعات الضغط تعلي صوتها وتحتج على تنفيذ بعض المقترحات، وتمارس ضغوطا يظهر في كثير من الحالات أنها ناجعة. * المجلس الدستوري قد يرفض أحيانا بعض القوانين. * في سياق العولمة والاعتماد الاقتصادي المتبادل، من الصعب على حكومة أن تضع سياسة متباعدة كثيرا عما يجري في العالم الذي تتفاعل معه. * بعض الوعود الانتخابية تقدم على أساس عائدها الانتخابي المفترض، دون تفكير في صعوبة تطبيقها. أو ما يعرف ببيع الوهم للناخب خلال الحملات، سواء داخل أحزاب اليسار أم اليمين. ختاما يمكن القول إنه وإن صح أن كثيرا من برامج المرشحين تكون تقنية، فإننا إذا نظرنا إلى ما وراء الأرقام والمعطيات التقنية الصرفة المشكلة لمتنها، سنجد أن القيم التي تلهم فحوى تلك البرامج تبقى سهلة التحديد. سنجد اختلافات كثيرة تحيل على قيم اليمين (الاقتصاد الليبرالي، والدفاع عن السيادة والمحافظة، والقومية..)، مقابل اختلافات أخرى تحيل على قيم اليسار (اقتصاد مقنن، الدفاع عن الحريات الفردية، الانفتاح على العالم…). *أستاذ علم السياسة بمدرسة العلوم السياسية بغرنوبل ترجمة عصام واعيس بتصرف عن موقع "ذي كونفورسايشن"