"وزير الصحة جاهل"، بهذه العبارة تصدرت الجرائد المصرية صفحاتها الأولى، فقد نَسَبَ الوزير المصري المقولة الخالدة: "التعليم كالماء والهواء" إلى الرئيس جمال عبد الناصر، بدل قائلها عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين! وقد احتج متعلم على اكتساح جاهل نتائج استحقاقات تمثيلية، فردّ علية مَنْ يزن الأمور عَنْ بعد قائلا: "أنت لا تستطيع أن تزكي سوى نفسك، أمّا من تُخاصِمه فَلَهُ اليَدُ الطولَى في مسقط رأسه وقدمِهِ! ويزكيه كل أبنائها!" لَمْ يَعُد الجهل عَيْباً، ولم يجد الجاهل حَرجاً في ما تَصدر عنه مِنْ أقوال وأفعال عَلَناً لا خفية! ولم تَمتد يَدٌ يَوْما لإزاحة جَاهل عَنْ مَنْصِب غَصَبَهُ، وَقَد يُباهي بِجَهْلِهِ المُتَعَلِمونَ فَلاَ يَقْوَونَ عَلَيه، فَقَد أصبح الجَهْلُ نُورٌ والعِلْمُ عَارٌ! لَمَسَ الكاتب السَّاخِرُ محمد مُسْتجاب جَهل النقاد، فنسب أُقْصُوصَةً كَتَبَهَا زَاعِماً أَنَهَا من أعمال ويليام شكسبير المجهولة، وانتظر حتى انتهت جوقة النقاد من ألحانها الكاذبة فَفضح المستور، وسقط في الفخ أدباء لاَمِعُون! على أنّ الأَخْطَر مِنْ آفة الجهل، ادِّعَاءُ العِلْم والمعرفة بالأشخاص والوقائع رِيَاءً وَكَذِباً، فقد نَلْتَمِسُ الأَعْذَار لِمَنْ لَمْ يَنَل حظاً مِنَ التّعليم وَيُسْأَلُ الذَّي بَوّأَهُ مَكانة لا يَسْتَحِقُهَا داخل المجتمع، وَمِنْ هذا الفصيل وَرَثَة المَهام التمثيلية الذين لا يجيدون سِوى البَصْمة أو التوقيع، بلا فَهْم ولا يَحزنون! أَمَّا الجهل عن سبق إصرار وترصّد، فيُغَطِّي الفئة التي نَالت قِسْطاً من التعليم، وحصلت على شواهد جامعية بشتى الطرق، وتربَّعَت عَلَى كَرَاسيها، هذه الفئة هي التي نَراهَا ونَسْمَعُهَا بإِعْلامنَا المرئي والمكتوب، ترفع المفعول بِهِ وتَنْصُب الفاعل، وتقول "الحوادق" بَدل الحديقة، وتنسب – مثل الوزير المصري أعلاه – أًقوَالاً وَأَفْعَالاً لغير أصحابها من باب الجهل أحيانا، ومن باب التزلفّ وصباغة "كُولُورَادُو" أحيانا أخرى! يَسهل جدا استغفال من انْحَسَرَت مَدارِكُه وتوقّفت، فصارت آلة صَمّاء تتحرك تلقائيا بالأزرار، فالأذكياءُ والماكِرون يُداعبونَ عُقول العصافير لِتحقيق مآربهم الخاصة، فَيَكْتُبُونَ عنهم سيرهم الذاتية، ويُرَشحُونَهم لِنيل جوائز الاستحقاق، فلم يبق إلاَّ أن يصنعوا لهم تماثيل لتخليد الجهل بِسَاحَاتِنَا العمومية! وقد ظن أحد المرشحين لنيل الدكتوراه في مادة قانونية أنه يمكن استغفال كل أعضاء لجنة الامتحان، فَذَكر برسالته أسماء مراجع وقرارات قضائية وهمية، فأمهلته اللجنة مدة لإثبات ذلك، فاتضح أنّه كاذب، ونال جزاءه! وفي سابقة طريفة، وفي معرض مُرافعته القيّمة أمام غرفة الجنايات زمنا، ذكر المحامي المحكمة بنظرية أحد الفقهاء قائلا: ".. سيدي الرئيس السادة الأعضاء.. إن هذه النظرية تعود للفقيه اليوناني الحكيم.. خِيطوسْ بيطُوسْ"، وقد سجَّل كاتب الضبط هذا الاسم بمحضر الجلسة، وتضمَّنَ القرار القَضَائِي إشارة إلى فَحْوى النَّظرية واسم صاحبها خِيطُوسْ بِيطُوسْ! ولم يكن هناك في واقع الأمر فقيها بهذا الاسم: لاَ خِيطُوسْ وَلاَ بيطُوسْ، فقد دأب هذا المحامي القدير، الذي انتقل إلى عفو الله، عَلَى اختلاق الأسماء والقوانين المقارنة الوهمية، وغالبا ما كانت تَسْلَمُ جَرَّتُهُ بفضْلِ مقولة الفقيه اليوناني "خِيطوسِ بيطُوسْ"!