لم يتأخر رد الملك محمد السادس على بلاغ الأمانة العامة لحزب المصباح، الذي دعا إلى التعامل الإيجابي مع قرار القصر إزاحة بنكيران من على رأس الحكومة، وإرساله إلى تقاعد مبكّر. جاء الجواب عصر الجمعة، حيث استقبل الجالس على العرش الطبيب النفساني سعد الدين العثماني، وعينه رئيسا للحكومة مكلفا بفك عقدة البلوكاج، ما يعني أن القصر لا يريد بنكيران، لكنه مازال متشبثا بحزب العدالة والتنمية، الذي في حوزته ورقة التمثيل الشعبي، إذ إن نزوله إلى المعارضة مكلف الآن، والأحزاب الأخرى أفضلها معاق لا يقدر على الحركة دون مساعدة الدولة ورعايتها. الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية حاولت أن تمسك العصا من الوسط (دارت الخاطر للملك ولبنكيران).. للملك قالت إن يد المصباح مازالت ممدودة رغم أن قرار إبعاد الزعيم ضربة مؤلمة، لكن الحزب الملكي المحافظ تجرع السم، واعتبر وقال إنه سيتعامل مع القرار الملكي بطريقة إيجابية. أما بنكيران، فحاولوا أن يضمدوا جراحه، وكتبوا فقرة طويلة في حيثيات تبرئته من تهمة الوقوف خلف البلوكاج جاء فيها: «تؤكد الأمانة العامة أن الأمين العام للحزب لا يتحمل، بأي وجه من الأوجه، مسؤولية التأخر في تشكيل الحكومة، وأن المسؤولية عن ذلك ترجع إلى الاشتراطات المتلاحقة خلال المراحل المختلفة من المشاورات من قبل أطراف حزبية أخرى، ما جعل تشكيل حكومة تتوفر فيها مواصفات القوة والانسجام والفاعلية، كما ورد في الخطاب الملكي لدكار، متعذرا». أما بخصوص المستقبل، فقالت الأمانة العامة للحزب: «إن مثل تلك الاشتراطات (المقصود اشتراطات أخنوش) هي التي ستجعل تشكيل الحكومة -في حال استمرارها- متعذرا أيا كان رئيس الحكومة المعين. وتجدد بالمناسبة تأكيدها أن المشاورات المقبلة يجب أن تراعي المقتضيات الدستورية، والاختيار الديمقراطي، والإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال الانتخابات التشريعية». بلاغ الأمانة العامة لحزب المصباح لا يخلو من تناقض، فإذا كان بنكيران بريئا من تهمة الفشل في تشكيل الحكومة، وأن أخنوش ومن تبعه، باشتراطاتهم غير المنطقية، هم السبب في تعطيل خروج الحكومة، فكيف يكون التعامل إيجابيا مع قرار إعدام بنكيران سياسيا؟ بلاغ الأمانة العامة للمصباح مثل قاضٍ برأ المتهم من الجريمة، لكنه حكم عليه بعقوبة قاسية… طبعا التناقض لا يشكل مشكلة في عالم السياسة المحكوم بالبرغماتية، خاصة في بلادنا، إذ إن المنطق لا يشتغل دائما في الحقل السياسي، حيث يحتكم الفاعلون لميزان القوة، وليس للدستور أو القانون أو المنطق. كان المراقبون ينتظرون من حزب المصباح أن يعتذر عن قبول إعادة تعيين واحد من أبنائه في رئاسة الحكومة، لأن بنكيران لم يكن يمثل نفسه، بل كان يمثل حزبا ومؤسسات وخطا سياسيا وبرنامجا ومنهجية، وفوق هذا يمثل مشروعا وضعه بنكيران تحت عنوان: «الإصلاح في ظل الاستقرار والتوافق بدل الصراع مع الملكية»، ثم إن بنكيران هو الأمين العام للحزب، وإذا لم يكن يعبر عن روح الحزب فمن سيمثلها؟ وإذا كان الدستور يعطي الملك الحق في تعيين أي فرد يحمل بطاقة الحزب، فإن الأخير من حقه أن يقول لا، وأن يعتذر عن قبول إزاحة زعيمه من المنصب، خاصة إذا كان هذا الزعيم قد حقق نصرا مدويا في ثلاثة انتخابات (2011 و2015 و2016)، وصار نقطة قوة كبيرة في سمعة الحزب وإشعاعه. إن الموقف السليم الذي يخدم مصلحة البلاد والمشروع الديمقراطي والاستقرار الحقيقي كان يقتضي، من حزب المصباح، أما النزول إلى المعارضة، ولعب دور لا يوجد اليوم من يلعبه، أو الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها لإعادة هيكلة المشهد السياسي، لأن الحقل الحزبي تسمم، واعتراه البوار، ولم يعد صالحا لأن تشكل عناصره حكومة منسجمة، مادام قادة الأحزاب فقدوا استقلاليتهم، وأصبحوا مثل القطع الخشبية في رقعة الشطرنج. كتب محمد الأشعري، في يوليوز 2014، على أعمدة هذه الجريدة مقالا تحت عنوان: «سياسة اعطيني نعطيك»، كان خلاصة تجربة ما سمي بالتوافق والبعد عن القطيعة، نقرأ فيه: «وكم مرة سمعت من بعض قادة الاتحاد الاشتراكي أن أسوأ شيء يمكن أن يحصل لنا هو أن نتخاصم مع الملك، لأن التأخير الكبير الذي حصل في بناء الديمقراطية يرجع، بالأساس، إلى أزمة الثقة التي كانت بين يسارٍ يعتبر أن «لا إصلاح للحكم إلا بزواله»، وحكم يعتبر اليسار مجرد متآمرين يتوجب محقهم، وهؤلاء القادة اقتنعوا، بعد إعادة جسور الثقة، بأن الإصلاح، أي إصلاح، يجب أن يكون مع الملك وليس ضده، وهي قناعة على قدر كبير من الحكمة والواقعية، لولا أن المسار السياسي المرتبط بتطبيقها في أرض الواقع أدخل المغرب في جمود مزمن، بسبب الخوف من الخصام، وبسبب التحلل من القواعد، تجنباً لأي اصطدام مفترض أو وهمي، والاحتكام إلى التوافقات الهشة، والترتيبات الفوقية، حتى أصبح الخطاب عن الديمقراطية في تعارض مستمر مع الممارسات المرتبطة به، ولم يعد الفاعل السياسي مناضلاً ديمقراطياً، بل ‘‘خبيراً'' في تلفيق التبريرات لكل المواقف، حتى انهارت جسور ثقة أخرى، لا تقل جوهريةً، هي جسور الثقة مع الشعب». وبخصوص منهجية التوافق التي اعتمدها اليسار مع القصر، يقول وزير الثقافة السابق: «كل المجتمعات التي نجحت في بناء ديمقراطية حقيقية نجحت في ذلك بالتفاوض الصبور والحكيم الذي يضع القواعد، فيرفض كل طرف أن يلعب خارجها. لا يمكن لأحد، مثلاً، أن يصبح عمدة بالترتيبات الفوقية، ولو كان أقلية الأقليات في النتائج الانتخابية. لا يمكن لرئيس حزب أن يصبح رئيسا للبرلمان وحزبه في الرتبة الخامسة. لا يمكن لأحد أن يصبح عضواً في حزب بعد أن يستوزر باسمه. لا يمكن لحزب أن يقبل تحالفاً ضد الطبيعة، ولا أن يقبل بخسارة هنا مقابل ربحٍ هناك. كل هذه الممارسات ليست تفاوضاً، بل هي ‘‘مساومة''، وإعمال لقاعدة ‘‘اعطيني... نعطيك''، في ارتباط بالمصالح الخاصة، وليس بمصلحة وطنية مشتركة». انتهى الكلام وبدأ كلام آخر.