انتحار «لحسن بوخلفي»، مندوب الصحة بالراشيدية بالسكن الوظيفي القريب من مقر المندوبية الإقليمية، والذي اتخذه ملجأ ل «عزلته» بعيدا عن أعين زملائه وعائلته، خلف الكثير من الأسئلة حول الأسباب والملابسات، وتحول إلى حديث الخاص والعام بهذه المدينة الهادئة وفتح الباب أمام القيل والقال. وقد حاولت « اليوم24» إماطة اللثام عن أسباب هذا الحادث المؤلم الذي شهدته هذه المدينة الهادئة «أرجوك اتركه ينام في قبره بسلام.. لقد تعب كثيرا ويريد أن يرتاح»، كانت هذه عبارة إحدى النساء، التي كانت بقرب البيت الذي انتحر فيه «لحسن بوخلفي»، مندوب الصحة بالراشيدية الأسبوع الماضي، لما انتبهت إلى أن صحافي «أخبار اليوم» يلتقط صورا للمكان الذي عثر فيه على جثة الرجل، الذي تحول إلى «حديث العام والخاص» بهذه المدينة الهادئة بجنوب شرق المغرب. وقد أجمع كل من التقتهم «اليوم24»، من النادل وسائق الطاكسي ومستقبل الزبناء بالفندق وغيرهم، على القول «إننا نحب الطبيب بوخلفي.. «كان حنونا على المرضى، فهو منا ابن دوار الجرف بضواحي الرشيدية، نطلب له الرحمة والمغفرة.. انتحر دفاعا عن صحتنا.. لقد مات لنحيا نحن». حدث هذا في ذلك الثلاثاء المشؤوم 21 يناير الجاري، وتقول إحدى الممرضات التي عملت تحت مسؤوليته عن هذا اليوم، «كنت قد وصلت لثوي إلى مقر عملي، وبينما كنت أتحدث مع زميلة لي تعمل بمستشفى مولاي علي الشريف، لمحنا الطبيب وهو يركن سيارة المندوبية من نوع « كونغو» أمام السكن الوظيفي، حيث حيانا وبادلناه التحية، ثم اتجه مترجلا نحو الزنقة المجاورة للشارع، وعاد بعدها ودخل إلى الدار حوالي الساعة التاسعة صباحا تاركا السيارة بالخارج، إلى أن علمنا حوالي الساعة الثالثة والنصف بخبر انتحاره، بعد أن تجمهر الناس أمام باب الدار»، وتضيف أن ذلك صادف حضور زوجته «رشيدة» لتسأل عنه بمقر المندوبية، لتفاجأ بأن المنتحر هو زوجها، وشرعت في النواح والصراخ وهي تردد بحسب مصدرنا، « دارها .. دارها».
ضغوط لا تنتهي أمام «الفيلا» التي كان يقيم بها قيد حياته رفقة زوجته وثلاثة من أبنائه، كانت خيمة مخزنية مازالت منصوبة ومازال المعزون يتوافدون عليها لتقديم العزاء. هناك استقبلني أخوه الأكبر عبد الرحمان وشقيقه الأوسط الجيلالي ونجل الراحل الأكبر أيمن البالغ من العمر 19 سنة، بالإضافة إلى صهره محمد زنوحي، الجميع أبدوا رغبتهم في كشف ما أدى بمن وصفوه « شهيد الواجب» و « ضحية الوضع الصحي المتردي بالإقليم»، إلى الانتحار وإنهاء حياته بهذا الشكل الدرامي. «شوف السي الصحافي..أحنا نريد أن نتفادى سكب المزيد من البنزين على نار الوضع الصحي الملتهب بإقليم الرشيدية، ولكن انتحار أخينا استفزنا، ضعنا فيه وضاعت فيه زوجته وأبنائه الصغار»، يقول أخ الراحل الأوسط الجيلالي بوخلفي. ولنفهم ما جرى قبل انتحار مندوب الصحة، كان لابد أن نسمع من أهله وأقرب مقربيه، البداية كانت من أخيه الأكبر رجل التعليم المتقاعد والقيادي السابق بحزب الاتحاد الاشتراكي على عهد عبد الرحيم بوعبيد، إنه عبد الرحمان بوخلفي، والذي بمجرد ما خاطبته بسؤالي الأول، «رحل أخوك ورحل معه سر انتحاره، هل تعرف السبب؟»، لم يتأخر كثيرا في الرد وقال: «لا سر وراء انتحار أخي، فبحسب ما سبق له أن صرح لي به لمرات عديدة، آخرها في لقاء جمعني به منتصف يوم السبت ما قبل الأخير، قوله لي إن حالة قطاع الصحة بإقليم الرشيدية مزرية وحلولها مستعصية، وأن المستشفى الإقليمي مولاي علي الشريف مقبل على السكتة القلبية، بسبب النقص في الموارد البشرية». وأضاف أن «قسم الولادة بمستشفى مولاي علي الشريف كان النقطة التي أفاضت كأس غضبه، بعد أن تلقى موجة انتقادات وعتاب شديد من مسؤولي العمالة بالرشيدية والوزارة والصحافة، وجد نفسه وحيدا في مواجهة غضب الناس على الخدمات الصحية بالمستشفى الإقليمي الذي يأتي إليه مرضى وحوامل من 4 أقاليم: الرشيدية وتنغير وميدلت وبوعرفة، مما تسبب في إرهاق الأطر الطبية والصحية والتي باتت تهدد المندوب قيد حياته بإخلاء مقرات عملها عبر تقديم شهادات طبية للمرض، لأنهم تعبوا من العمل اليومي وبشكل مستمر حتى خارج أوقات العمل و الديمومة». ونقل الشقيق الأكبر عن المندوب المنتحر، أن هذا الأخير عاد متذمرا من لقاء الرباط الذي جمعه بمسؤولين من وزارة الصحة، يوم الجمعة 17 يناير الجاري، أي قبل 4 أيام من انتحاره، نظرا لما تلقاه من عتاب على الصور الصادمة التي تم تسريبها للصحافة عن حالة النساء بقسم الولادة، مما دفعه إلى وضع مفاتيح المندوبية على مكتب مسؤول بالوزارة رفض ذكر اسمه، لكن الوزارة رفضت وأمرته بمواصلة ممارسته لمهامه. ثم قال عبد الرحمن بنبرة حزينة: «عاد من الرباط...وآخر كلمة تفوه بها قبل أن نفترق مساء يوم السبت 18 يناير قوله لا أدري أخي هل سأتحمل جبل المشاكل القابعة فوق ظهري أم لا؟».
الأرملة تحكي رشيدة، أرملة لحسن، بدت متحسرة وجد قلقة على مستقبل أطفالها الثلاثة، أيمن (19سنة) و يوسف (17 سنة) ورحاب (12 سنة). وبعد تردد كبير قررت كشف المستور، وقالت: «يوم الاثنين 20 يناير، على بعد ساعات قليلة عن انتحاره، عاد زوجي مساء إلى البيت وهو في حالة انهيار تام، ولما سألته، رد بأن ممثلين عن نقابة معينة بقطاع الصحة بالرشيدية، كانوا في مكتبه واحتجوا بشكل كبير على إقدام زوجي بصفته المندوب على صرف وتوزيع التعويضات المادية الخاصة بسنة 2013 على موظفي وأطر ومستخدمي الصحة بالإقليم، بعد أن اتفقوا معه في اجتماع سابق على العملية، لكنهم تنكروا للاتفاق وطالبوه بإرجاع المبالغ التي صرفت من منحة التعويضات»، والتي قدرتها مصادرنا في 75 مليون سنتيم. بعد نقاش طويل مع ممثلي تلك النقابة بالرشيدية، بدا أن النقابيين متشبثون بموقفهم وعاتبوه عن صرف التعويضات لمن اعتبروهم «لا يستحقونها». «لقد ضغطوا عليه كثيرا، حيث وجد زوجي نفسه قد تورط في إرسال المبالغ المالية للممرضين والمستخدمين بالمراكز الصحية البعيدة والمستشفيات الواقعة خارج مدينة الرشيدية، وكذا إلى عدد من الأطر الطبية والتمريضية بالمرافق الاستشفائية بالمدينة، لكن الخطير في الأمر أنه لما وصل معهم في الحوار إلى الباب المسدود، انسحبوا وحملوه المسؤولية، وقالوا له: «بيننا وبينك القضاء»، قبل أن يهددوه بإدخاله السجن بتهم تبديد أموال عمومية. سكتت رشيدة قليلا، ثم قاطعها ابنها أيمن بقوله: « أبي فاجأنا بقوله لأمي على مسمع منا.. أنا إما نموت إما ندخل السجن، اندهشت كثيرا لكلامه ورديت عليه .. بابا واش كتقول.. مالك شنو درتي حتى تدخل السجن، فأجابني أولدي راه المشاكل ديال الخدمة كثرات.. وكلشي فوق راسي أنا عييت.. عييت.. وفعلا لاحظت أبي خلال الأيام الأخيرة يعاني من الأرق لا ينام ولا يأكل»، بحسب تعبير ابنه أيمن. واصلت أرملة المندوب الراحل، وقالت: « آه تذكرت، ليلة الاثنين الثلاثاء، تلقى مكالمتين هاتفيتين، الأولى في منتصف الليل من الطبيبة المولدة بالمستشفى الإقليمي مولاي علي الشريف، أخبرته بأنه ابتداء من يوم الثلاثاء 21 يناير ستضع شهادة طبيبة للمرض وأخبرته بضرورة إيجاد من يخلفها، لأنها أرهقت من كثرة استقبال النساء الحوامل من 4 عمالات، فيما هاتفته الممرضة المولدة «القابلة» في الساعة 3 من الفجر، وأشبعته عتابا وكلاما قاسيا على عدم تحركه لإيجاد حل لمعاناتهم مع ظروف العمل بالمستشفى، كما حكى لي في صبيحة يوم انتحاره، حيث تناول الفطور معنا وصلى ركعتين وارتدى ملابسه الأنيقة وخرج لحضور اجتماع بالعمالة وزيارة مركز الامتحانات الشفوية الجارية بمعهد تكوين الأطر التمريضية والتقنيين في الصحة، لكنه خرج ولم يعد».
النقابيون يوضحون اتهامات أرملة المندوب المنتحر، حملتها «أخبار اليوم» إلى النقابتين الأكثر تمثيلية بقطاع الصحة بإقليم الرشيدية، فكان أول من اتصلنا به هو إبراهيم فاطني، الكاتب المحلي للنقابة الوطنية للصحة التابعة للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، حيث نفى نفيا قاطعا وجود أي خلاف لنقابته مع الدكتور لحسن بوخلفي، مؤكدا أن المندوب الراحل، سبق له أن كلف رئيس الشؤون الإدارية والاقتصادية بالمندوبية، لتدبير اجتماع حول كيفية توزيع التعويضات الخاصة بسنة 2013، حضرتها النقابات الصحية التابعة ل«كدش» والاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني للشغل المقربة من «البيجدي» والنقابة المستقلة لأطباء القطاع العام، حيث مر الاجتماع في هدوء بعد أن تم انتقاد منهجية 2012، وتدارك عملية احتساب التعويضات بشكل استباقي لسنة 2014، حيث تم التراضي والاتفاق حول الطريقة المسطرة لتعويضات2013 . من جهته، قال محارزي الحسن علوي، الكاتب العام الإقليمي للجامعة الوطنية للصحة بالرشيدية العضو بنقابة الاتحاد المغربي للشغل، « نحن لم نهدد أحدا ولم نتوعد أي أحد، مارسنا عملنا النقابي، وطلبنا لقاء مع المندوب صبيحة، يوم الاثنين 20 يناير الجاري بمقر المندوبية، حضره من نقابتنا نائبي سفيان حمدي و 9 من رفاقه، ومن جانب الإدارة محمد الراشدي، مدير مستشفى طب العيون ومقتصد المركز الاستشفائي الإقليمي، حيث طالبت نقابتنا بإحضار محضر الاجتماع الخاص بعملية توزيع التعويضات والذي لم نوقع عليه، كما طالبنا بالكشف عن لوائح المستفيدين، وهو ما عجز المسؤولون عن الاستجابة له، مما دفعنا إلى الانسحاب من الاجتماع، وتحميل المسؤولية لرئيس الشؤون الإدارية والاقتصادية الإقليمي لحسن بوجيجة والذي تغيب عمدا عن الاجتماع؛ حتى يتملص من مطالبتنا له بإحضار المحضر الخاص بالتعويضات، يقول المسؤول النقابي بنقابة مخاريق بالصحة بإقليم الرشيدية.
الأسئلة العالقة في انتظار نتائج التشريح الطبي ومحتوى الرسالة التي وجدت بجيب البذلة التي كان يلبسها قيد حياته، لاشك أن أسئلة عديدة تحوم حول واقعة انتحار مندوب الصحة بالرشيدية، تنبئ بأن الآتي أصعب ومثير في مسار الأبحاث التي تجريها السلطات القضائية والأمنية لفك لغز وفاة المسؤول الأول عن الصحة بالإقليم، والتأكد من عدم وجود أي فعل جرمي وراء الحادث، خصوصا وأن أشقاء الراحل يجمعون على أنه كان اجتماعيا، يمارس كرة القدم ولعبة الورق «الرامي» مع شقيقيه عبد الرحمان والجيلالي بمنزل أحدهما، كما أنه سبق له أن رسب 3 مرات في الشهادة الابتدائية، ولم ييأس ولم ينتحر، فيما كشفت تصريحات زوجته ونجله الأكبر أيمن أنه كان يعاني خلال الأيام القليلة من انتحاره، من الأرق والإمساك عن الأكل، وأنه شارد الذهن، أكثر مؤخرا من الشكوى عن عجزه في تدبير قطاع الصحة بالإقليم، مما يفسر تعرضه لانهيار عصبي قاده إلى الإنتحار. وتعيب عائلة المندوب المتوفى على السلطات الأمنية والقضائية بطء أبحاثها، حيث علقت العائلة على هذا التأخير، بقولها أن «أخبار اليوم» كانت أول جهة اتصلت بهم بعد الحادث، واستفسرتهم حول ملابساته وخاضت معهم في تفاصيل واقعة اكتشاف جثة مندوب الصحة معلقة بالسكن الوظيفي القريب من مقر عمله.
هكذا تم اكتشاف الجثة أول من اكتشف جثة بوخلفي هو الشاب «محمد حداني»، عون خدمة بمصلحة التجهيزات الأساسية والخدمات المتنقلة بالمندوبية الاقليمية للصحة بالرشيدية»SIAP»، والتي يرأسها في نفس الوقت المندوب المنتحر، حيث كان عون المصلحة جد مقرب من الراحل مصدر ثقته، لدرجة أنه كان هو من يتكفل بحاجيات بيت الطبيب بوخلفي، يقول ل«أخبار اليوم» وهو يعيد سرد ما جرى، أن «زوجة المندوب، رشيدة اتصلت به هاتفيا يوم الحادث حوالي الساعة ال11 ونصف صباحا، وسألته عن مكان زوجها، فأخبرتني أن أخاه الجيلالي يريده في أمر مستعجل، طلبت مني رقم هاتف المندوبية لتسأل عنه، فأخبروها بأنه ذهب إلى اجتماع بمقر العمالة، وبحلول منتصف النهار، اتجهت نحو المندوبية لإيصال البريد الخاص بها، فانتبهت إلى وجود سيارة المندوب مركونة بأمام السكن الوظيفي الفارغ، سألت عنه في المندوبية فلم أجده، وسألت سائقي المصلحة عنه، فأكدوا أن سيارات المندوبية كلها موجودة بمرأب السيارات. وأضاف عون المصلحة، ذهبت إلى منزلي وأخذت وجبة غذائي وعدت إلى العمل، لأجد اتصالا هاتفيا آخر من زوجة المندوب تسأل عنه، وتقول أنها تتصل بهاتفه الذي يرن لكن بدون أن يجيب على مكالماتها، حينها سألت ثانية موظفي المندوبية فأكدوا لي بأنهم لم يروه، فأخبرتهم أن مفاتيح السكن الوظيفي توجد بحوزتي، سأذهب إلى هناك لأرى إن كان موجودا بالدار مادام أن سيارة المندوبية التي يقودها بنفسه موجودة أمام باب الدار منذ الصباح، وجدت الباب الخارجي للدار مفتوحا، بحثت في عقر الدار التي تتوسط حديقة صغيرة، فلم أجده، فكرت في إلقاء نظرة على محيط الدار، لأفاجأ بمكانها الخلفي، بالطبيب لحسن بوخلفي معلقا بحبل موصول إلى قطب حديدي بدرج السلم المثبت على حائط الدار، أخذت هاتفي واتصلت على الفور بالطبيب اهروش بحميد، رئيس قسم الأوبئة ب «SIAP»، وقلت له «راه المندوب شنق راسو»، ثم خرجت إلى أمام الدار وأنا أصيح «أعباد الله الطبيب قتل راسو..» وماهي إلا ثواني معدودة حتى حضر عدد من موظفي المندوبية والمركز الصحي عبد الله الصحراوي يتحلقون حولي وأنا أصرخ، فاندفعوا إلى داخل الدار وعاينوا جثة المندوب معلقة». وأوضح مكتشف جثة المندوب المنتحر، إن «ممثل النيابة العامة خلال حضوره، قام بمعية المسؤول الأمني بالمدينة ورئيس مصلحة الشرطة القضائية، على تفتيش جثة المندوب، وحجزوا هاتفين من نوع «نوكيا كلاسيك»، ورسالة وجدوها بجيب بذلته، اطلعوا عليها في عين المكان وغادروا قبل أن يأمروا عناصر الوقاية المدنية بوضع الجثة في كيس وحملها إلى المستشفى الإقليمي مولاي علي الشريف».