طالما شَكَّلَتِ الخطابات الساخرة، واللاَّذعة أحيانا، من الذات ومن الآخر (النكتة نموذجا) في كل العصور والثقافات والإبداعات الإنسانية، سواء من خلال اللغة أو الصورة أو الرسم أو الفعل المُشَخَّص، واحدة من أهم وسائل التنفيس أو الترويح عن النفس وخصوصا في المجتمعات المأزومة اقتصاديا واجتماعيا، والمحكومة بالكثير من أشكال الكبت والضغط والقهر السياسي، وغياب الحد الأدنى من وسائل وفرص ومساحات الفرح وحرية التعبير. إذ ظَلَّتْ هاته السخرية بمثابة ذلك «النقد الموازي» الذي تمارسه فئات عريضة من المجتمع على ذاتها وعلى حاكميها، ثم على الكثير من الشخصيات العامة ذات الشهرة الواسعة في كل المجالات. إنها اللعبة الجماهيرية الأكثر انتشارا بين الجميع. وهي كذلك الوسيلة المتاحة للتعبير عن سيكولوجية الذات المقهورة والمُهمَّشة. إذ تكتسب هذه السخرية عمقها وصلابتها من مرارة الواقع، ثم بلاغتها وقوتها الحقيقيتين من ذلك الإحساس الدفين الذي يتغذى في الكثير من الأحايين من تلك الفوارق الاجتماعية الصارخة بين الأفراد والطبقات، أو حتى من تلك الأحاسيس التي قد يذكيها نوع من « الحقد الاجتماعي «. وللهامش العربي عموما، وضمنه الهامش المغربي، باعٌ طويل وقدرة هائلة على إنتاج كمية أو طاقة خلاَّقة من السخرية، قد تكفي لمواجهة ومحو آثار العديد من أشكال اليأس والاكتئاب التي تهدد هاته المجتمعات. إذ يكفي تصفح بعض مواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية ( الفيسبوك نموذجا )، للوقوف على بعض النوادر والنفائس التنكيتية التي تشفي الغليل وتجعل المرء «يستلقي على قفاه» من الضحك. وفيما يلي نماذج فقط، من هاته النكت السياسية والاجتماعية التي تَفَنَّن الهامش المغربي في صياغتها وتأليفها على شكل مقولات وصور وبطاقات: نقرأ على البطاقة الأولى ما يُشْبه المقارنة الساخرة بين حجم المطلب الاجتماعي في ثلاثة أقطار عربية ( مصر ولبنان والمغرب )، وما قد يعنيه أيضا هذا السقف أو الحد الأقصى للحلم أو المطلب المغربي: «غنّتْ أم كلثوم: أعطني حريتي وأطْلِقْ يدَيَّ .. وغنّتْ فيروز: أعطني الناي وغنِّي .. وغنّى الستَّاتي: اعْطِيوْني الْفيزا والباسبور». أما البطاقة الثانية، فتحاول أن ترسم بشكل ساخر ومفجع أيضا تلك القيمة الاعتبارية المُفتَرَضة أو المفقودة للمواطن العربي والمغربي من خلال جواز السفر: «مكتوب على أول صفحة من الجواز الأمريكي: حامل هذا الجواز تحت حماية الولاياتالمتحدةالأمريكية فوق أي أرض وتحت أي سماء» .. و»مكتوب على أول صفحة من الجواز البريطاني: ستدافع المملكة المتحدة عن حامل هذا الجواز حتى آخر جندي على أراضيها» .. و»مكتوب على أول صفحة من الجواز الكَنَدي: نُحرك أسطولنا من أجل حامل هذا الجواز».. أما ما كُتِبَ على أول صفحة من الجواز العربي والمغربي فهو ما يلي: «عند فقدان هذا الجواز يَدفع صاحبُه غرامة مالية» .. ثَمَّةَ أمثلة أخرى كثيرة وبليغة من هذا المتن الساخر المغربي، تضع اليد مباشرة على مكامن السخرية والعطب الاجتماعيين من قبيل: «التْقَضْيَة مَن لقريعة .. والتْصَاورْ فمُورُوكُو مُولْ» .. أو ذلك الرسم الساخر لفنان الكاريكاتور المغربي الشاب «توفيق الوطني» بعنوان «سَالينا»، حيث يَظهر الزعيم النازي الألماني «هتلر» ممسكا بسماعة الهاتف، وهو يخاطب أمه بعد فشل فريق «الرجاء» في الفوز بكأس «الموندياليتو» الأخير قائلا: «آلو الواليدة .. الحَفْلة سَالاتْ ..». هناك أيضا صورة تَظهر فيها مجموعة كبيرة من النساء والفتيات يزغردن، ومع الصورة تعليق مصاحب يقول: « تَخَرُّجُ الفوج الأول من الزَّغراتات» .. أو صورة أخرى تطل منها شخصية ساخرة ومُبتكَرة، أصبحت معروفة جدا في مجال «التَّقشاب» السياسي والاجتماعي العربي، توازي في شُهرتها شخصية «بَوزْبالْ» المغربي، تقول مخاطبة التلاميذ عند نهاية السنة الدراسية: «دِّيتُو الدْفاتَر لْمُول الزرِّيعة ولاَّ ما زالْ؟». هذا غَيْض من فيض، إلا أن أهم ما قد يصادفه المرء ضمن مجال السخرية المغربية أو العربية السوداء على الفيسبوك، هو ما دَوَّنَه الكاتب المغربي الساخر «أنور خليل» على إحدى بطاقاته: «مادام الجار يضع الأزبال أمام بيت جاره، فلنؤجل قليلا فكرة تغيير الأنظمة».