من حسنات قصة (عمر وفاطمة) أنها قربت وجهات نظر الإسلاميين والعلمانيين من قضية الحريات الفردية، التي كانت ساحة حرب ضارية بين الحداثيين والمحافظين، الذين كانوا يَرَوْن في القانون الجنائي المغربي خط الدفاع الأول والأخير عن القيم، متوهمين أن الدولة تتشدد إزاء الحريات الفردية والعلاقات الرضائية بين البالغين وتجاه المفطرين في رمضان دفاعا عن بيضة الأخلاق والقيم الإسلامية والسلوكيات الدينية فيما كان الحقوقيون والحداثيون يطالبون بخروج القانون الجنائي من بيت الحقوق الفردية، والقطع مع بقايا الدولة الدينية والمركزية في القانون الجنائي المغربي… لقد اندهش الكثيرون وهم يقرؤون للإسلاميين مرافعات عن بنحماد والنجار وحقهما في ممارسة حريتهما، وعدم جواز تدخل الشرطة القضائية في علاقة رجل بالغ بامرأة بالغة في مكان عام (من خلال قراءة المحاضر التي نشرت بطريقة غير قانونية وغير أخلاقية في الصحافة الصفراء، نقرأ أن الشرطة في بداية توقيف بنحماد والنجار في شاطئ المنصورية، لم توجه لهما أية تهمة، بل حذرتهما من التواجد في منطقة مهجورة خوفا على سلامتهما، وبعد ذلك سألت بنحماد عن علاقته بفاطمة، وهو السؤال الذي لا محل له من الإعراب لا في القانون ولا في السياسة الجنائية للدولة، ومن هذا السؤال والجواب عنه تحول الموقف إلى خيانة زوجية بعد أن قال بنحماد إن السيدة التي ترافقه زوجته، وهنا تجاوزت الشرطة القضائية مرة أخرى صلاحياتها وطالبته بعقد الزواج، فرد عليها بنحماد بأن الرابط بينه وبين فاطمة زواج عرفي لم يوثق بعد. هنا مرة ثالثة مرت الشرطة القضائية إلى فعل آخر غير مبرر قانونيا، ويحتاج إلى إذن من النيابة العامة بناء على وقائع صلبة وهو تفتيش سيارة المرسيدس التي يملكها بنحماد ومصادرة الهواتف وتفتيشها. وهنا فقط، عثروا في السيارة على قطعة قماش وصابونة و»كلينكس»، أي ما يفيد وجود ممارسة جنسية غير مكتملة، لكنها قد تشكل جريمة إخلال بالحياء العام لم تعاينها الفرقة الوطنية للشرطة القضائية في البداية، بل وصلت إليها- الجريمة – من خلال طلب عقد الزواج بين امرأة ورجل وتفتيش السيارة، وكلها أفعال لا يقرها القانون ولا السياسة الجنائية لوزارة العدل والحريات). لا يتطور الفكر القانوني في المجتمعات بمعزل عن الأحداث والأزمات والنوازل التي تهز كيانه، وتفتح الأعين على مشاكل النصوص القانونية، وعلى تجاوزات الممارسات القضائية والحقوقية، وقصة عمر وفاطمة قد تتحول إلى درس في تاريخ القانون الجنائي المغربي يُدرس في الجامعات غدا أو بعد غد، باعتبارها القصة التي فتحت الطريق نحو تغيير القانون الجنائي. فلننتظر إذن زوال الطابع (الفضائحي للقصة) حتى ندخل إلى تناول الطابع القانوني والحقوقي للنازلة، باعتبارها مناسبة للدعوة إلى إلغاء فصول الجرائم الجنسية الرضائية بين البالغين من القانون الجنائي المغربي (الفصول 490 و491 و492)، على اعتبار أن هذه الفصول وتطبيقاتها في الواقع لا تحقق الغرض منها لا اجتماعيا ولاحقوقيا ولا دينيا، وأنها تساهم في نشر الخوف في قلوب المعارضين، وفي تدمير البيوت الفقيرة وفي تشريد آلاف الفتيات كل سنة وخروجهن إلى الدعارة بعد دخولهن السجن بسبب علاقة عابرة وسد باب إصلاح (الأخطاء) في وجوههن… لنتأمل في الاعتبارات التالية: أولا: تدخل القانون الجنائي في العلاقات الجنسية الرضائية بين الرجل والمرأة البالغين يتم بانتقائية بين الأفراد والطبقات والظروف والأحوال، وأن نصوص القانون الجنائي المغربي يُتلاعب فيها لتؤدي أدوارا مختلفة حسب الظروف والأحوال. الأغنياء يعرفون كيف يخرجون من هذه الورطات، فيما الفقراء يودون ثمنا باهظا، علاوة على استغلال هذا الموضوع الحساس لردع المعارضين وتشويه سمعتهم وإعطاء سلاح للدولة غير الديمقراطية لبسط سلطويتها أكثر على المجتمع المحافظ. ثانيا: هذه النصوص بالنسبة إلى العلمانيين والحداثيين تتعارض مع فلسفة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب وتجعل من السلطة السياسية تتقمص عباءة السلطة الدينية والقيمية لتحدد للفرد ما يجب أن يفعله، وما لا يجب أن يفعله. وثالثا: هذه النصوص بالنسبة إلى المحافظين والإسلاميين بعيدة عن روح التشريع الإسلامي الذي وضع عقوبة قاسية على جريمة زنا المحصن، لكنه أحاط هذه الجريمة بضوابط وشروط إثبات تكاد تكون مستحيلة، حيث اشترط الفقه الإسلامي وجوبا أربعة شهود على الواقعة، ووجود حالة تلبس واضحة لا شك فيها، وإلا انقلب الأمر على الشاهد بتهمة قذف المحصنات، وهذا ما يجعل جريمة زنا المحصن جريمة ضمير وليست جريمة قانون جنائي… لسنوات طويلة لعب (المخزن القانوني) لعبة ذكية بين طرفي المجتمع الحداثي والمحافظ، حيث تضع الدولة قانونا جنائيا قاسيا وتحكميا وفضفاضا يعطيها سلطة كبيرة على المجتمع، وعلى الفرد في كل مناحي حياته التجارية والمدنية والجنسية والسياسية… (لاحظوا أن القانون الجنائي المغربي يتشدد وقت الأزمات السياسية وبعد الانقلابات والانتفاضات الاجتماعية، ويرتخي زمن الانفتاح السياسي والتوافق بين الدولة ومعارضيها). المخزن القانوني يقول للحداثيين في تبرير تشدد نصوصه القانونية وخاصة الجنائية: إن القاعدة في المجتمع محافظة، ولابد من أخذ رأيها ومشاعرها وتوجهاتها بعين الاعتبار، في حين إنكم أيها الحداثيون قلة القلة، وإنكم لا تمثلون قوة في المجتمع. ولهذا، فإن الحل هو نص قانوني يرضي الأغلبية، وتطبيق عملي يرضي الأقلية والخارج، وإن هناك سلطة ملاءمة غير محدودة ستبقى في يد النيابة العامة. ومع المحافظين يقول المخزن القانوني إن الدولة إسلامية في المغرب وإن دينها الرسمي هو الإسلام، ولهذا فالنصوص القانونية موجودة لتترجم هذه الهوية التي ترضيكم، لكن التطبيق شيء آخر. التطبيق يجب أن يراعي الظروف والأحوال في الداخل والخارج والسلطان هو صاحب السياسة الشرعية..هذا اللعب على الحبلين يعطي للمخزن نصوصا قانونية، بها يخنق الفرد والمجتمع ويصرف سلطويته متى أراد ووقت ما شاء. أما ازدواجية النص والتطبيق فتعطي للدولة هامشا تحل به تناقض الخطاب السياسي مع النص القانوني… ولأن المحافظين لا يتحاورون مع الحداثيين ولا يضعون دولة الحق والقانون والديمقراطية كأولوية في حياتهم بعيدا عن التخندقات الإيديولوجية، فان اللعبة تستمر وكل مرة يسقط واحد من المعسكرين… قال وزير العدل السابق الأستاذ العلمي المشيشي: «إن المشكلة في القانون المغربي هي العقلية القانونية للدولة المغربية، وهي عقلية تميل للزجر الجنائي عوض التنظيم المدني أو الإداري، وهذا مرض تسرب إلينا من الثرات القانوني للدولة الفرنسية الذي وضعه نابليون بونابرت، وكان هذا الإمبراطور مهووسا بالدولة المركزية، وكان طريقه إلى الحفاظ على هذه المركزية هو استعمال القانون الجنائي في كل شيء، في قانون الصحافة، وفي القانون التجاري، حيث كان التجار المفلسون يذهبون إلى السجن. لما دخل الفرنسيون إلى المغرب واستعمروه نقلوا إليه هذه العقلية، وما إن حصل المغرب على الاستقلال حتى خرج الفرنسيون وبقيت تركة نابليون في المملكة الشريفة، وهي المسؤولة عن جل المقتضيات الجنائية التي تعج بها قوانيننا، والحل هو مراجعة هذه العقلية. من هنا يبدأ الإصلاح».