اختار الملك محمد السادس يوما خاصا ليوقع على لائحة لا تضم سوى اسما فريدا للعفو استثنائيا عن السيدة خديجة أمرير. صدر العفو عن خديجة المحكوم عليها بالإعدام في ثاني غشت الجاري لتتنفس الحرية بعد طول اعتقال، عفو صدر في جو الاحتفالات التي تعم بلاط القصر، احتفاء بالذكرى ال 17 لتربع الملك محمد السادس على العرش. لاحظوا رمزية الحدث ودلالاته السياسية والإنسانية.. كان يمكن للعفو الملكي على خديجة أن يصدر بمناسبة عيد العرش، وهو اليوم الذي صدر فيه العفو الملكي عن 23 محكوما بالإعدام، وأن يذوب اسمها في لائحة المستفيدين من تخفيض العقوبات الحبسية أو الذين تنفسوا نسائم الحرية، لكن من الواضح أن ثمة مغزى وحكمة وراء الإرادة الملكية. فمن تكون خديجة؟ جرت العادة أن ينزع من هم في مثل وضعها إلى اليأس ومن ثم إلى محاولة الانتحار، كما تدل على ذلك الإحصائيات الخارجة من واقع السجون، لكن خديجة وجدت بعد سنة ونصف من الإحساس بالندم واليأس والإحباط في سجن عكاشة الكثير من السلوى في قراءة القرآن، اغتسلت في نهر دموعها وهي تتنقل من سجن إلى أخر من عكاشة في الدارالبيضاء إلى سجن طنجة ثم سجن العرائش.. حفظت ستين حزبا وحصلت على أعلى شهادة من المجلس العلمي في مدينة العرائش. حصلت على دبلوم في الخياطة ثم دبلوم ثان في الحلاقة خلال 22 سنة من السجن، تصالحت مع ذاتها، والذين يعرفونها يؤكدون أنها ربت عن بعد ابنها وابنتها التي لم يكن يتجاوز عمرها لحظة اعتقالها شهرا، والنتيجة أن الابن حصل على دبلوم بميزة مشرفة والابنة تتابع تعليمها الجامعي، وهما أول من كان في استقبالها أمام بوابة السجن رفقة الأمين العام للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان محمد الصبار، الذي تبنى هذا الملف. الذي حدث بعدها أن جزءا من المجتمع سارع إلى جلدها، حتى قبل وصولها إلى بيتها، أي خلال المسافة الفاصلة بين بوابة السجن في مدينة العرائش وبيتها في مدينة الدارالبيضاء.. لقد نبشوا في ماضيها ضدا على الحق في النسيان، وأعادوا محاكمتها من جديد، ومنهم من دعا الملك محمد السادس إلى إعادتها إلى السجن، وثمة من قارن ملفها بملف لا مجال فيه للمقارنة، وحاولوا نصب حائط بينها وبين خطوة عودتها إلى الحياة واندماجها في المجتمع وحقها في إعادة الاعتبار، رغم أنها قضت ثلثي العقوبة الحبسية، بعد أن استفادت من طلبات عفو سابقة، جعلت عقوبة الإعدام سجنا مؤبدا ثم سجنا محددا سقفه ثلاثون سنة.. خديجة التي دخلت السجن ليست تلك التي غادرته بعد 22 سنة من الاعتقال، لكن قسوة المجتمع تحاول اليوم أن تدخلها سجنا أكبر من ذاك الذي غادرته.. ذكروها أنها شاركت في جريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام رفقة الفاعل الأصلي، متناسين أن ملفها الاستثنائي خلا من أي خطأ طيلة مرحلة اعتقالها، ضاربين عرض الحائط حقها في الاندماج وصفح ذوي الحقوق وتسامح ولديها وحاجتهما إلى والدتهما، التي أبانت عن قدرة هائلة على الصمود أمام زنزانة الإعدام، التي تحطم أعتى السجناء .. أتذكر اليوم، وأنا أتابع ملف خديجة، ملف قتلة عمر بنجلون الذين استفادوا من عفو ملكي بعد أخذ رأي عائلة الشهيد عمر بنجلون، بعد أن قضى الذين تورطوا في اغتياله 25 سنة خلف القضبان، مع العلم أنه كان من الممكن أن يستفيدوا من العفو قبل قضاء ربع قرن من حياتهم في السجن، لو لم يتورطوا في عملية قتل حارس لحظة محاولتهم الهروب من السجن منذ سنوات خلت . حينما غادر الذين اغتالوا رمزا من رموز اليسار لم تثر هذه الضجة التي وجدتها خديجة أمام بوابة السجن، مع العلم أن ذوي الحقوق وأولهم جدة الأولاد، وهي أم الرجل الذي قتلته خديجة، كانت أول من سامحتها قبل وفاتها، وأول من حرصت على مد جسور الحب والود بين حفيديها وأمهما المعتقلة. خديجة هي الدليل اليوم على رسالة سياسية وإنسانية تتغذى من روح القيم الكونية وتعيد النظر في عقوبة الإعدام، وتجد لها مرجعا في قراءة منفتحة للإسلام، تتذكر قصة السيدة التي طرقت باب رسول الله (ص) وهي تطلب الرجم حد الموت، ومبررها أنها تحمل بين أحشائها جنينا يحمل عنوان خطيئتها.. لقد أصرّ يومها الرسول الكريم تحت استغراب ودهشة من حوله من الصحابة، أن يدعوها إلى الاستغفار وهو يحاول إقناعها أن تعود إلى بيتها فتضع مولودها، فإذا بها تعود من جديد بين يديه وهي تطلب إقامة الحد، فإذا به يطلب منها مرة ثانية أن تتفرغ لرضاعة ابنها حولين كاملين.. بقية القصة تعرفونها، وقد قال فيها الرسول وهو يصلي عليها احتراما وإجلالا وتقديرا بعد وفاتها، ما احتاج منه إلى شرح مفصل وشهادة عظيمة لخالد بن الوليد ولعمر رضي الله عنه. وفي الإنجيل، نجد قصة المرأة التي قال عنها يسوع: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر»، وكان يكفي أن يردد الجملة نفسها حتى ينسحب الغوغاء من أمامه كبارهم قبل صغارهم، حتى إذا بقي يسوع وحده مع المرأة رأسا لرأس، قال لها أين هم يا امرأة؟ أما حكم عليك أحد منهم؟ فردت: لا يا سيدي، ليفاجئها: اذهبي ولا تخطئي بعد الآن. لكل الذين تفننوا في إيذاء خديجة وأعادوا محاكمتها واعتقلوها في سجن كبير أقول: «من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بكلمة واحدة».