«الأربعاء 9 أكتوبر 2002، خبر سيء، أسندت إلى وزير الداخلية الحالي، صاحب التحليلات السياسية التافهة، مهمة تشكيل الحكومة الجديدة، سيجد الكثيرون أعذارا شتى لهذه الخطوة :المشكلات الاقتصادية، الإصلاحات الملحة، التوتر مع إسبانيا، الأزمة المستعصية مع الجزائر.. إلخ، لكن كل هذه التأويلات لن تحجب الحدث الأهم، وهو أنها خطوة إلى الوراء، عودة إلى حكومة التقنوقراط». الحديث هنا لشيخ المفكّرين المغاربة، الفيلسوف عبد الله العروي، هذا الأخير لم يفكر كثيرا في انتقاء كلماته وهو يدبّج الجزء الخاص بمرحلة حكومة إدريس جطو في كتابه «خواطر الصباح» في جزئه الرابع. «أخطأ من قال إننا نسير على النهج الديمقراطي ولا نخاف أدنى نكسة، سجلت في هذا الكناش بعض الإجراءات التمهيدية لهذا التراجع، وقد يقول البعض إن ذلك كان مخططا قبل وفاة الحسن الثاني.. بدا الوقت مناسبا بعدما تمت الانتخابات في ظروف مقبولة، وكانت النتائج غير حاسمة. يستطيع الوزير الأول المعين أن يؤلف حكومة مع أحزاب الوسط مستغنيا عن اليسار وحتى عن حزب الاستقلال، وينهي بذلك فترة التناوب. سيقال إنها كانت فاشلة، لكنه لن يرتكب هذا الخطأ.. تناوب بدون تناوب. هذا ما ينتظرنا بدون شك»، يضيف العروي. حكم قاس كان الوزير الأول السابق، رئيس المجلس الأعلى للحسابات حاليا، قد خرج للردّ عليه عبر «أخبار اليوم» :«لا يمكنني مواجهة شخصية من هذا الحجم والوزن، وعلى هذا المستوى من المعرفة والعمق مثل المفكر عبد الله العروي، الذي بالمناسبة يشترك معي في الانتماء إلى المنطقة نفسها، أزمور، غير أنني أرى أنه من الضروري توضيح أنني لم أطلب شيئا، ولم يسبق لي أن طلبت أن أكون وزيرا أول، أو سعيت إلى أي وزارة، وأعتز وأفتخر بأنني تحملت المسؤولية في فترة دقيقة من تاريخ وطننا، وقد فعلت ذلك بكل ما استطعت وقدمت كل مجهوداتي»، يقول جطو. وأضاف أنه ابن الشعب :«ليس لدي حزب أو جهة تحميني، وكل الوزراء والهيئات السياسية التي كانت مع الأستاذ اليوسفي في حكومة التناوب، أكملت معي المسار، وهي نفسها التي دعمتني وأعطتني ثقتها، وعندما قدمت البرنامج الحكومي في البرلمان، زكّاني الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بقيادة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي». وزير أول برتبة موظف كبير طبيعة شخصية الوزير الأول، لما بعد تجربة التناوب القصيرة، إدريس جطو، وانحداره من فئة المقاولين ورجال الأعمال، كان وحده كافيا ليؤشر على انتقال الوزارة الأولى وحامل حقيبتها، من الدور السياسي إلى المهمة التدبيرية المتمحورة أساسا حول المجالات الاقتصادية والاجتماعية، «بل أصبحت للوزارة الأولى أبعاد مقاولاتية في التسيير، واختفت الرائحة السياسية التي فاحت بقوة في عهد السيد عبد الرحمان اليوسفي»، يقول مصدر من داخل البناية، التي يقيم فيها حاليا عبد الإله بنكيران، أي مقر رئاسة الحكومة داخل أسوار القصر الملكي. مصدر آخر قال إن جطو، رغم طبيعة شخصيته «غير المسيسة»، «عمل بذكاء كبير، وكانت له علاقات بالقصر الملكي، رغم أن هذه العلاقة عرفت انخفاضا وارتفاعا حسب السياقات والظروف، وتوازن اللوبيات الضاغطة ورضاها عن أداء الوزير الأول، والقرارات التي يتخذها أو السياسات التي يُعلنها». وأصبحت الوزارة الأولى في عهده من نوع آخر مختلف تماما عن تجربة اليوسفي، حيث بدأت عملية القص من اختصاصات الوزارة الأولى لفائدة مستشاري الملك، «رغم أن السيد إدريس جطو كان يعبّر عن انزعاجه كلما تم تجاوز ذلك الحدود المحتملة، وكان يحرص على إيصال انزعاجه إلى أعلى المستويات». وجدت الوزارة الأولى، في عهد التقنوقراطي جطو، نفسها في قلب الصراع المحموم الذي برزت آثاره للعيان في تلك المرحلة، بين معسكري «الحداثيين» و«المحافظين» في الدائرة الضيقة للملك محمد السادس. «هذا الصراع الذي كانت تصل إلينا بعض شراراته من خلال جمود بعض الملفات، أو حدوث تغييرات غير مفهومة فيها، أدى في نهاية المطاف إلى بث الروح في الممارسات العتيقة والطقوس القديمة في تعامل البلاط الملكي مع الوزير الأول»، يقول مصدر عايش تلك الفترة، موضحا أن «جطو أصبح يكتفي بتدبير الأمور اليومية، خاصة منها الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، مستفيدا من قنواته المتعددة داخل الديوان الملكي». وضع لم يجنّب جطو المتاعب «إذ أدت السمعة الطيبة والصيت العالمي اللذان اكتسبهما إلى إزعاج البعض في دائرة القرار، حيث أصبحت له مكانة كبيرة لدى الفرنسيين والشركاء الاقتصاديين الأجانب، وهو ما قد يكون عجّل بتقاعده»، يورد المصدر ذاته. من الداخلية مهّد طريق صعوده «إن التقنوقراطيين ضروريون، ونحن لسنا ضدهم، ولكن دورهم يقتصر على تنفيذ التوجيهات وتوفير الآليات والإمكانيات لاختيارات واضحة ومنبثقة من الإرادة الشعبية»، هكذا عبّر محمد اليازغي، في لقاء جماهيري نظّمه الاتحاد الاشتراكي بعين الشق بالدارالبيضاء بتاريخ 13 دجنبر 2001، عن رأيه في التقنوقراطيين ودورهم في اللعبة السياسية (الحكومية على وجه الخصوص). كان اليازغي حينها يعتقد أن زمن التقنوقراطيين، الذين تلقي بهم مظلة القصر على مقعد الوزير الأول قد ولّى. وفي ما يشبه الاطمئنان إلى هذا الاعتقاد، مضى «الكاتب الأول بالنيابة» للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية آنذاك في تنظيره لنوع من «التضحية» والقبول بوجود لاحزبيين في حكومة يقودها وزير أول منبثق عن «الإرادة الشعبية». لم يكن اليازغي ورفاقه، ولا أي من مكونات الطبقة السياسية المغربية، يعتقدون أن ما حدث في الثامن من ماي 1960 مع حكومة عبد الله إبراهيم، حين تمت إقالتها لتحل محلها حكومة يرأسها الملك بنفسه فيما تولّى ولي العهد آنذاك (الراحل الحسن الثاني) النيابة عنه في هذه المهمة، سيتكرر بعد أزيد من أربعة عقود مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي، مع فارق أن هذه الأخيرة أكملت ولايتها. لكن الملك محمد السادس، لم يذهب إلى حد تولي رئاسة أول حكومة تتشكل في عهده، بل اكتفى بالمناداة على الشخصية ذاتها التي كلفها، مباشرة بعد وفاة الحسن الثاني، برعاية مصالح الأسرة الملكية في مؤسسة «siger» التابعة لأونا، ليكلفها هذه المرة بإدارة وتسيير «شؤون» المغرب. «إن تعيين إدريس جطو يبين أن الملك يريد وزيرا أول وفيا، يستطيع أن يتعاون مع مختلف الأحزاب السياسية حتى لا تكون هناك توترات سياسية»، تعلق إحدى الصحف الإسبانية أياما بعد تكليف جطو بتشكيل فريقه الحكومي. وفي ما يشبه الانتصار للمقاربة ذاتها، راح الوزير الأول المختار خلال جولة اختيار التركيبة السياسية للحكومة، يطالب الأحزاب بمده بالأطر والكفاءات المتخصصة لتولي المناصب الحكومية، وهو ما سيحمل بعض الوجوه الشابة إلى رتبة وزير تحت قبعة حزبية نسجت على عجل. تقول بعض الروايات إن الحسن الثاني كان، خلال المفاوضات الأولى للتوصل إلى حكومة التناوب سنة 1993، قد طلب من عبد الرحمان اليوسفي احتضان إدريس جطو، في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية استعدادا لاستوزاره حتى لا يبدو عدد التقنوقراطيين كبيرا، خاصة أن الرجل معروف بتعاطفه مع حزب المهدي وعمر، لكن المكتب السياسي رفض عضوية جطو. تعثر المفاوضات وغضب اليوسفي، ورحيله عن المغرب، كل ذلك لم يكن ليعني صانع الأحذية المفضل لدى الحسن الثاني في شيء، حيث تسلم مهامه كوزير للتجارة والصناعة في حكومة كريم العمراني، ورغم رحيل هذا الأخير، ظل جطو رمزا للاستمرارية في «حكومة صاحب الجلالة»، حيث استمر في مهامه رفقة حكومة عبد اللطيف الفيلالي، بل أضاف إلى مجال اختصاصه الصناعة التقليدية والتجارة الخارجية. وعشية تنصيب حكومة التناوب الأولى، كان قد جمع في حقيبته قطاعات المالية والاقتصاد والصناعة والصناعة التقليدية. تحرّر الملكية في التدبير إذا كان تعيين جطو سنة 2002 وزيرا أول علامة فارقة في علاقة الملك محمد السادس بالحقل السياسي وكيفية تدبير الشأن العام، فإن علاقة عهده بالأحزاب السياسية اتّسمت بمرورها من عدة مراحل، أولاها تمثّلت في بعث ساكن قصر العلويين رسائل طمأنة إلى كل الأحزاب، وإنهائه عقودا من الصراعات والحروب الباردة والساخنة، كانت تجري بين أحزاب المعارضة والملك، فقد استقبل جل رؤساء الأحزاب في قصره، وكان يتعمد بعث رسائل تهنئة إلى كل زعيم انتخب أو عين من قبل قواعد الحزب في موقع القيادة، ليتحوّل الأمر إلى شبه تقليد سياسي، كما حرص على إشراك الأحزاب، ولو شكليا، في إعداد مشروع الحكم الذاتي في الصحراء، أحد أول مشاريع العهد الجديد في الشؤون الاستراتيجية. أما المرحلة الثانية في علاقة أعلى سلطة في البلاد بالأحزاب السياسية، فحسمها الملك عندما قال، في استجواب خص به جريدة «الشرق الأوسط» في يوليوز 2001: «بالنسبة إلى الشؤون الخارجية والدفاع والداخلية والشؤون الدينية والعدل، فهذه مسائل، دستوريا، تعود لي، لكن مع التنسيق طبعا مع الحكومة، لأنه لا توجد حكومة داخل القصر وحكومة خارج القصر». تصريح أعاد حينها عقارب الأحزاب السياسية إلى مكانها، وذكّرها بأن رقعة تحرك الوزراء والحزبيين لا تشمل القطاعات الحساسة في قلب السلطة، فكان مجيء إدريس جطو في خريف 2002 إلى الوزارة الأولى مؤشرا على رغبة الملك في التحرك دون قيود قد يرى نفسه ملزما بها مع وزير أول حزبي، فكانت حكومة جطو التي ضمت فريقا تقنوقراطيا أمسك بالداخلية والخارجية والأوقاف والصحة والشؤون الاجتماعية والأمانة العامة للحكومة، ما ترجم سياسة الاستفراد بالقرار السياسي الاستراتيجي، وترك التدبير اليومي «الهامشي» للوزراء المتحزبين، كي يذهبوا إلى البرلمان ويتحملوا نقد الصحافة وسخط الرأي العام… تدبير متعثر رغم «الكفاءات» حسن الطالع الذي رافق إدريس جطو، المدير العام السابق للمكتب الشريف للفوسفاط، خلال مغامرته الاستثمارية في عالم المال والأعمال، أخطأ موعده معه كوزير أول، رغم الطابع التقنوقراطي الذي اتسمت به حكومته، والذي يفيد الاعتماد على الكفاءات. فلم تكد حكومة جطو تبدأ عملها حتى تكالبت عليها الكوارث والنكبات، فمن الجثث المتفحمة لنزلاء إحدى المؤسسات السجنية، وحريق شركة لاسامير، وتفاعلات قضية «النجاة»، إلى فشل أول رهان اقتصادي للحكومة متمثلا في تعثر صفقة منح الرخصة الثانية للهاتف الثابت. كما أن توجهه إلى البرلمان قصد الإجابة عن قضية آنية، تتمثل في الفيضانات التي ضربت عددا من المدن المغربية في بداية ولايته، لم يشفع له أمام الصحافة المغربية بعدما اختار، في أول ظهور إعلامي له، الحديث إلى يومية «إلباييس» الإسبانية. ورغم إنجاز بعض المشاريع الكبرى، مثل ميناء طنجة المتوسط والبرامج السكنية الضخمة لإنجاز مائة ألف وحدة سكنية سنويا، والقضاء على السكن غير اللائق، وإبرام اتفاقيات التبادل الحر مع عدد من الدول العربية وتركيا والولايات المتحدةالأمريكية، فإن طريقة تدبير هذه الأوراش جاءت لتكرس الطابع التقنوقراطي لمؤسسة الوزير الأول الواقعة تحت نفوذ وإشراف المؤسسة الملكية. وظيفة تدبير «الانتقال الاقتصادي»، التي جاء جطو لإنجازها بعدما أنجز اليوسفي مهمة «الانتقال السياسي»، لم تمنعه من الخضوع لمنطق المحافظة على التوازنات الاقتصادية الكبرى المرسومة من قبل المؤسسات الدولية، فعمد إلى تقليد زملائه المقاولين في تسريحهم الجماعي للعمال، مجريا أكبر عملية شفط لشحوم الإدارة العمومية، تحت مسمى «المغادرة الطوعية»، بإشراف من وزيره في الوظيفة العمومية، وزير المالية حاليا محمد بوسعيد. أما العجز الدائم الذي تعانيه ميزانية الدولة، فقد وجد له جطو مسكنا فعالا هو الخوصصة. «كلمة التقنوقراط بالنسبة إلى إدريس جطو مبالغ فيها شيئا ما، لأنه، على كل حال، رجل له تجربة سياسية، حيث تحمّل مسؤوليات وزارية منذ التسعينات…»، يقول بنعبد الله في استجواب صحافي أياما قبل أن يصبح ناطقا رسميا باسم حكومة جطو. إلا أن حدود فعل الوزير الأول، وامتداد يد المؤسسة الملكية إلى قطاعات لم تكن يوما من اختصاص وزراء السيادة، مثل السياحة والتعليم والسكن… يطرح تساؤلات حول «التجربة السياسية» لإدريس جطو الذي لم يكن يجد غير «المبادرة الوطنية للتنمية البشرية» كجواب عن ملاحظات البعض على الحصيلة الاجتماعية لحكومته. وإن كانت هناك حسنة تحسب للرجل، فعلا، فهي تحقيقه نوعا من الاستقرار الاجتماعي بعد قيادته الناجحة لجلسات الحوار الاجتماعي مع المركزيات النقابية، ما أسهم في تقليص عدد الإضرابات، كيف لا وهو الذي أحسن دائما نسج علاقاته مع من يحتاج إليهم في تحقيق مصالحه، بابتسامته الخجولة وقدرته على إخفاء غضبه. خرج من الحكومة.. «ما خرج من عقايبها» خروج جطو من مكتب الوزير الأول بالمشور السعيد، مفسحا المجال أمام «عودة» المنهجية الديمقراطية بتعيين الاستقلالي عباس الفاسي وزيرا أول بعد انتخابات 2007، لم يكن عاديا، بل رافقه فصل سعيد وآخر قاس كاد يعصف به. الأول يتمثل في حصوله بعد انتهاء «خدمته» الحكومية على ما قدره سبعة هكتارات من أفضل الأراضي بمنطقة النخيل في مدخل مدينة مراكش، لمساعدته على «التخلص» من الديون التي تراكمت على شركاته أثناء فترة «الخدمة»، فيما كان الفصل القاسي عاصفة سببها تحويل مسار الطريق السيار قرب الدارالبيضاء ليتجنّب أرضا في ملكيته مخصصة لإقامة أحد مشاريعه الاستثمارية الخاصة. أطراف خفية أشهرت هذا الملف في وجه جطو بعد أشهر من مغادرته الحكومة، وكادت تجره إلى «البهدلة» في المحاكم لولا طرقه أبوابا لا يرد لساكنيها طلب أو أمر. كما أن جلّ التقارير التي صدرت في الفترة الأخيرة، بما فيها تلك التي أعدها المجلس الأعلى للحسابات الذي يرأسه جطو، تضع الفترة التي قضايا هذا الأخير على رأس الحكومة في موقع المسؤولية عن اختلالات مالية واقتصادية كبيرة.