لا توجد تقاليد في السياسة المغربية تسمح بتقييم موضوعي لحصيلة الحكومات المتعاقبة، قبل دستور 2011 لم تكن للمغرب حكومة بالمعنى الدقيق للكلمة، كان القصر هو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في ما تحقق وفي ما لم يتحقق، وكان الوزراء شبه موظفين كبار يتنافسون على تنفيذ قرارات سيدهم، والباقي تصريف للشؤون الجارية، وأفضل الوزراء كان بمرتبة مستشار وأحيانا لا يستشار… مرة، تجرأ أحمد عصمان، الوزير الأول السابق، في مجلس وزاري كان الملك الحسن الثاني يرأسه، وقال إن المغرب يحكم بشكل سيئ le Maroc est mal gouverné، فرد عليه الملك الحسن الثاني بسرعة وقال له إن المغرب يدار بشكل سيئ le Maroc est mal géré. بالطبع، الحكم كان في يد الملك، والإدارة في يد الحكومة، والفرق كبير بين الاثنين، لهذا لم تكن الحكومات في السابق تقدم حصيلة دقيقة عن عملها، بل تلجأ إلى الاختباء تحت جبة «حكومة صاحب الجلالة»، وبما أن الناس كانوا يعرفون أين توجد السلطة، فإنهم في الغالب متعوا جل الحكومات بأقصى ظروف التخفيف، كيف لا وجل الحكومات كانت تردد بلسان عباس الفاسي قولته الشهيرة يوم خرج من القصر الملكي وفي يده ظهير التعيين كوزير أول سنة 2007: «برنامجي هو خطب صاحب الجلالة». الآن هناك وضع مختلف شيئا ما، هناك حكومة منبثقة من صندوق الاقتراع، ودستور أعطى رئيس الحكومة سلطا مهمة، وهناك ووعي أكبر وسط الرأي العام الذي يقلد شعوب الدول الديمقراطية التي تطالب حكوماتها بالحساب عند كل نهاية ولاية لتعرف هل ستجدد التفويض لمن حكموا من قبل أم إنها ستتجه إلى اختيار بديل آخر من أحزاب المعارضة… لكن، وبما أن التمرين جديد على النخبة السياسية في الأغلبية وفي المعارضة، فإنها منقسمة إلى نصفين؛ الأول يعتبر أن الحكومة حققت معجزة ببقائها في السلطة طيلة خمس سنوات رغم الزوابع والزلازل والتماسيح والعفاريت التي كانت تكيد لها بالليل والنهار، وهذا رأي بنكيران الذي يركز على الحصيلة السياسية لحكومته، كحكومة أوقفت زحف الربيع العربي، وأعادت الهيبة إلى الدولة، وأوقفت سلسلة الإضرابات العشوائية التي كانت تضرب المرفق العام، وقلصت من صندوق المقاصة، وأصلحت صناديق التقاعد، رغم أن هذا الإصلاح لم يكن سهلا ولا شعبيا، في حين لا يرى الفريق الآخر إلا نصف الكأس الفارغ، فيعتبر حكومة بنكيران أسوأ ما خلق الله من حكومات، وأنها أفقرت البلاد والعباد، وأثقلت كاهل المغرب بالديون، وأضاعت آلاف مناصب الشغل، ولم تتجرأ سوى على الفقراء والضعفاء، فيما تحولت الحكومة إلى قطة أليفة أمام مراكز الفساد واقتصاد الريع، وأن بنكيران يغطي بشعبويته على ضعف إدارته للاقتصاد، وأن ما تحقق، على قلته، يرجع الفضل فيه إلى الملك الذي احتفظ لنفسه بسلط تنفيذية في الأوراش الكبرى والسياسات الاجتماعية. كلا التوجهين في تقييم عمل الحكومة غير دقيق. حكومة بنكيران أخذت قرارات جريئة لإصلاح المقاصة التي كانت تذهب إلى جيوب الأغنياء وشركات المحروقات التي كانت تسبح في بحر من ريع أموال الدعم، وأخذت قرارا بإصلاح صناديق التقاعد المعرضة للإفلاس أمام نقابات شعبوية تفضل مكاسب اللحظة على المصالح البعيدة للموظفين، واستطاعت هذه الحكومة أن تحجز نصف مقعد للفقراء في السياسات العمومية من خلال تخفيض ثمن بعض الأدوية، والزيادة في منح الطلبة، وتخصيص بعض المساعدات للأرامل والمطلقات وذوي الاحتياجات الخاصة… لكن هذه الحكومة لم تستثمر الوثيقة الدستورية كما يجب، ولم تدافع عن الحريات العامة والفردية، ولم تحقق إصلاحات فعالة في منظومة العدالة المعطوبة، ولم توفق في الاقتراب من إصلاح التعليم، وإحلال الحكامة في منظومة الأمن، ولم تقترب من الفساد المعشش في المنظومة الاقتصادية والمالية في الدولة، كما لم تجرب حلولا غير تقليدية لتخفيف البطالة والزيادة في دخل الفرد، وتكبير خبزة الناتج الداخلي الخام. مازال اقتصاد بلادنا، كما كان سابقا، رهينا بالأمطار وتحويلات المهاجرين وأعداد السياح الوفدين وثمن البترول.. أي أننا أمام اقتصاد غير متحكم فيه. الذين يقولون أن الحكومة لم تقم بشيء يزايدون لا أكثر، وجلهم لا بديل برنامجي له (اللهم إذا كان الترخيص لزراعة الكيف وتوسيع تجارة الحشيش هي الوصفة السحرية للإقلاع الاقتصادي!)، والأخطر من هذا أن العدميين الجدد أسهموا في عرقلة أكثر من مشروع إصلاحي بدعوى أنه مشروع انتخابي سيزيد من شعبية بنكيران، وسيصعب من مهمة «زحلقته» من السلطة في السابع من أكتوبر… وهكذا كل طرف يغني على ليلاه، فيما صوت العقل شبه غائب، وظني أن الذين سيذهبون إلى صندوق الاقتراع لن يدققوا كثيرا في هوية البرامج ولا في أوراق الحصيلة، سيصوت جلهم لاعتبارات سياسية في المقام الأول، ولهذا رأينا بنكيران ينقل المعركة إلى ملعب التحكم وبركة التماسيح وشجرة العفاريت.