مازال رئيس الحكومة يلوح بعصا الربيع العربي وبما آل إليه مصير بنعلي ومبارك والقذافي، ومازال بنكيران يبعث الرسائل الواضحة والمشفرة إلى كل من يعنيهم الأمر، رغم مرور ستة أشهر على وصوله إلى رئاسة الحكومة، وهي مدة كافية لكي يضبط إيقاع أوتاره مع السلطة، وأن يصل معها إلى توافقات صلبة حول منهجية الاشتغال، وحول خارطة الطريق، وحول أنجع الأساليب لحل المشكلات الطارئة، وسوء الفهم الناتج عن اختلاف التقديرات وتباين زوايا النظر إلى الملفات، علاوة على الإشكالات المرتبطة بالدستور الجديد الذي يتعلم الجميع استعماله والانضباط إليه والتوافق مع روحه الغامضة. في تجمعه الخطابي في أكوراي بنواحي مكناس، نهاية الأسبوع الماضي، بعث بنكيران رسائل مباشرة وأخرى مشفرة هنا وهناك، وقال وردد أمام أتباع حزبه جملته الشهيرة. «أنتم لم يأت بكم أحد إلى الحكومة.. الشعب هو من وضع ثقته فيكم»، وفي مجلس المستشارين فعل نفس الشيء، وأعاد التذكير برياح الربيع العربي، وبأن بلادنا «لم تقطع الواد ولم تنشف أرجلها بعد»... إلى متى سيظل بنكيران يلوح بهذه العصا التي تصلح في المعارضة أكثر من الحكومة؟ لا أحد يملك جوابا. عندما تشتد الضغوط على بنكيران لا يعرف أحد ولا حتى من المقربين منه ماذا سيكون رد فعله، وكيف سيتصرف؟ نعم هو يعرف أن المواجهة خط أحمر، وأن التوافق هو السبيل إلى استمراره في منصبه، لكنه، في المقابل، لا يريد أن يخسر شعبيته داخل الحزب وخارجه، ولا تصدقوا كلام بنكيران عن زهده في الشعبية. العكس هو الصحيح، بنكيران مصر على رعاية شعبيته وسقي شجرتها في كل وقت وحين. طريقته التلقائية في الكلام، وبعده عن لغة الخشب حتى وإن أغضب منه الآخرين، وبقاؤه في منزله المتواضع وعدم الانتقال إلى بيت الدولة الفاخر، وعدم أخذ التعويضات التي يخولها له القانون، وحرصه على البقاء قريبا من الحزب ومن البسطاء... كلها تصرفات محسوبة، وإشارات يريد أن يعوض بها عما يخسره في حقل التدبير المعقد للملفات الكبرى. بعد الدستور الجديد اعتقد كثيرون أن المغرب سيتجاوز مشاكل الحكم وسيتفرغ لمشاكل التدبير la gestion، لكن لا يبدو أن الأمور تمشي على هذا المنوال، وترديد حكاية بوزوبع عن أصل الفساد في المغرب، من قبل بنكيران، يقول الشيء الكثير. في إحدى الجلسات العاصفة في آخر مجلس وزاري سيحضره عصمان كوزير أول، قال أحمد عصمان، الذي كان يتمرد على دار المخزن بين الفينة والأخرى رغبة منه في التموقع في الوسط، في مشهد سياسي حاد لم يكن يسمح لأحد بالجلوس في الوسط، (قال) للحسن الثاني: «Votre Majésté.. le pays est mal Gouverné» (جلالة الملك.. البلاد تحكم بطريقة سيئة). فرد عليه الحسن الثاني بسرعة: «le pays est mal géré»، (البلاد تدار بشكل سيئ)، ورفع الجلسة وانسحب غاضبا. في صباح اليوم الموالي اتصل مولاي أحمد العلوي بعصمان وأخبره بأنه لم يعد وزيرا أول في حكومة جلالته. دار الزمن دورته وأعطى الحق لعصمان على حساب سيده. ودارت الأيام ومازال السؤال أعلاه يتردد بين الفينة والأخرى، وحتى رئيس حكومة المغرب الحالي، الذي يجلس على ثاني أكبر كرسي في الدولة، مرة يجيب عنه بلسان الملك الراحل الحسن الثاني ومرة بلسان أحمد عصمان.. ياللمفارقة !