بموت نيلسون مانديلا فقدت إفريقيا رمزا آخر من رموزها الكبار الذين لا ينكر أحد أنهم ناضلوا في فترة من حياتهم بصدق من أجل تحرير شعوبهم، وإن انجرف عدد منهم فيما بعد إلى الاستبداد بسبب تملق محيطهم في الغالب. في هذه الورقة نتذكر جميعا بعضا من أهم هؤلاء الزعماء الذي نحتوا أسماءهم عميقا في جسد القارة الإفريقية مانديلا.. لم يكتف بهدم الظلم برحيل الزعيم الأممي نيلسون مانديلا، يكون العالم قد دخل مرحلة يتم أخرى، فالإنسانية حقا تائهة وحمقاء، بدون إشعاع نبل شخص غير عادي، أوشك أن يكون نبيا .بغياب مانديلا فيزيائيا، تطوى بشكل نهائي صفحة آخر من تبقى من سلالة سياسة لن تكررها الوقائع بكل تأكيد مرة أخرى، على الأقل بنفس القداسة. طينة نادرة من البشر نجد في طليعتها مانديلا إلى جانب غاندي وغيفارا. الثلاثة، يجسدون بكل المقاييس الطهر والنقاء الآدمي في أعظم وأجمل تعبيراته. إنهم، متصوفة السلطة، الذين أرسوا بنضال أسطوري جدارا أخلاقيا بين الإنسان وسمّ السلطة، ثم العفن والمستنقع. هزم غاندي الأساطيل العسكرية للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بروحه الكونية التي تنبعث من جوفها الشمس. غيفارا أدرك كرسي السلطة بالحديد والنار، لكنه سرعان ما اكتشف أن أحلامه بحجم البشر، فتخلى وغادر. مانديلا حكم ثلاث سنوات، فقط ليوزع أثناءها كل صباح هنا وهناك قيم التسامح، مرمما ما يمكن ترميمه بين السود والبيض، فاطمأن على أن بلده، أخذ فعلا مساره الصحيح، ثم عاد إلى بيته. هو نفس الأفق الذي ابتغاه لمجريات الربيع العربي، كي لا ينتهي إلى ما انتهى إليه حاليا في مصر وتونس وليبيا ولما لا سوريا؟ مؤكدا عبر رسالته الشهيرة إلى الشعوب العربية المنتفضة، أن :(إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم)، وبالتالي إلحاحه على ضرورة تجاوز الكراهية والأحقاد، بالإسراع نحو سيادة ديمقراطية سلمية. مانديلا الذي أرادت له عنصرية البيض داخل بلد كنت تشاهد فيه كل مكان عبارة :( ممنوع دخول الكلاب والسود)، أن يقضي سبعة وعشرين حبيس إحدى زنازين سجن «فكتور فستر»، لم يستغل موقعه الجديد كرئيس، كي يشعلها حربا انتقامية، بل بادر بحكمة المتصوفة، إلى تأسيس لجنة الحقيقة والإنصاف سعيا منه لمداواة جروح ذاكرة السود نحو البيض، لكن مع خلق فسحة أمل للتعايش بين الجنسين، تحت سماء وطن واحد رحيم يضمن حق الجميع في الحياة. يخاطب مانديلا شعوب انتفاضة الربيع، بقوله :( لقد خرجتم من سجنكم الكبير)، غير أن استثمار ما ضاع من الزمان قصد بناء دولة المستقبل، يقتضي بحسبه تبني إستراتجية ذكية، تتمثل في الالتفاف على رموز النظام السابق الماسكة بالمفاصل الكبرى للدولة، بهدف احتوائها وإدماجها في سياق ما بعد التغيير، بغية قطع رؤوس الفتنة وتجنب الحروب الأهلية، ثم سد المنافذ أمام أشكال العرقلة التي قد يلتجئ إليها المتربصون بالعهد الجديد… عندما دفن مانديلا في قرية «كونو» بجوار أجداده، بناء على وصيته، تضمنت شاهدة قبره جملة وحيدة :(هنا يرقد رجل، قام بواجبه). شذرة، اختزلت في ومضة نيتشوية كل ما كتب ويكتب وسيكتب عن رجل، لن يقال بصدده، كان ذات يوم عابر سبيل، بل هو للسرمدي اسمه: تاتا ماديبا.
توماس سانكارا.. غيفارا إفريقيا؟
إنه تشي غيفارا إفريقيا، كما يحلو للبعض وصفه. سانكارا لا ينتمي جيليا إلى الرعيل الأول من رموز التحرير الإفريقي، غير أنه يصعب التأريخ لهؤلاء دون ذكره، لأن مشروعه السياسي ينهل من المبادئ الكبرى التي وضعوها، فكان هذا سببا كافيا للحكم بقتله من قبل المخابرات الأمريكية والفرنسية بدعم لوجيستيكي من إفريقيين، خاصة نائبه وحليفه ورفيق دربه «بيليز كامباوري» الذي انقلب عليه يوم 15أكتوبر1987. ولد سانكارا سنة 1949 خلال حقبة لازالت بوركينافاسو ترزح تحت الاستعمار الفرنسي .اقتفى بخطى والده فالتحق بالجيش الذي سيلعب دورا مفصليا في تفاصيل الحياة السياسية بعد الاستقلال سنة 1960. رقي سنة 1980إلى رتبة رائد، في وقت دخل فيه البلد دوامة الانقلابات العسكرية، فكانت إحداها سببا لوصوله إلى كرسي الحكم سنة 1983، لكنه سيتخلص من بذلة العسكري الديكتاتور، ممتطيا صهوة الفارس الثوري. سانكارا الذي ابتدأ حياته العسكرية في سن التاسعة عشر، غدا رمزا للمقاومة وخطيبا متفوها وقائدا إفريقيا هيمن على مخيلة الشباب المتعطش إلى مناهضة الاستعمار الغربي. كانت أولى خطواته، تغيير اسم بلده «فولتا العليا»_ التوصيف الاستعماري القديم_ إلى اسم جديد يحمل كل معاني النبل، إنه «بوركينافاسو» أو بلد المستقيمين أو المغاوير. قيل، بأن الكلمة التي أسرعت بالاستخبارات الغربية إلى إصدار قرار تصفيته، عندما خاطب يوما محفل الأممالمتحدة :(لقد جئتكم من بلد27400 كلم2، حيث سبعة ملايين من الأطفال والنساء والرجال يرفضون من اليوم الموت جهلا وجوعا وعطشا). بالفعل، فقد شرع سانكارا منذ وصوله السلطة في وضع خطوات برنامج طموح يهدف إلى تأميم المصادر الاقتصادية لبلده وتوظيفها لرفاهية الشعب، ضاربا بعرض الحائط تعاليم خبراء البنك الدولي. أولى عناية خاصة للتعليم والزراعة وحارب الرشوة والانتهازية. عرف عنه تواضعه الجم، متخليا عن كل مظاهر الأبهة، بل يعتبر أول قائد إفريقي يتخذ موقفا اجتماعيا من ظاهرة ختان الفتيات، فكان محبوبا من طرف الشعب؛ أما سياسته الخارجية فقد اتجهت إلى دعم الوحدة الإفريقية، والتصدي للقوى الاستعمارية في مقدمتها فرنسا، التي استنفرتها باستمرار شعارات سانكارا المناهضة للإمبريالية. النقيب سانكارا بالكاد انطلق مشروعه حينما اغتاله صديقه «كمباوري» يوم 15أكتوبر1987، مدعوما من قبل فرنسا. هكذا، استمر حكمه فقط أربع سنوات، لكنه دخل التاريخ الإفريقي من أوسع أبوابه، مجاورا قائمة كبار صانعيه.
باتريس لومومبا.. الموت مرفوع الرأس ربما اعتبر مصير لومومبا شبيها في مناحي بما تعرض له المهدي بن بركة، بحيث كان لومومبا الشاب الإفريقي الأسود البسيط الذي عمل بداية موظفا في البريد، ملاحقا من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية وخلفها الموساد طبعا، ثم الاستخبارات البلجيكية وحلف الناتو، فكانت نهايته بشعة للغاية، تنم عن كل معاني الجرم، اعتبرها بعض الباحثين أهم اغتيال سياسي خلال القرن العشرين. تهمة لومومبا أنه برؤيته السياسية التحررية سيقف لا محالة سدا منيعا أمام أطماع الدوائر الامبريالية نحو ثروات الكونغو الغنية. يقول في رسالته إلى زوجته قبل إعدامه بوقت قصير:(خلال نضالي من أجل استقلال وطني لم أشك لحظة واحدة أن القضية المقدسة، التي أوقف لها رفاقي وأنا، حياتنا كاملة، ستنتصر في النهاية .ما أردناه لبلادنا، حقها في حياة شريفة، وفي الكرامة الكاملة والاستقلال من دون قيود…لم تدفعني الهجمات الوحشية ولا المعاملة القاسية ولا التعذيب إلى التوسل طلبا للرحمة، لأني أفضل أن أموت ورأسي عال، وإيماني راسخ، وثقتي بقدرة بلادي ثابتة، على أن أعيش في عبودية وازدراء للمبادئ المقدسة). ولد لومومبا سنة 1925 ، تعلم وعمل في البريد. التحق عام 1955 بالحزب الليبرالي البلجيكي موزعا لمطبوعاته. أسس مع زملائه حركة وطنية كانت تؤمن بالوحدة الإفريقية تأثرا بنكروما الغاني، كانت أقوى الحركات السياسية في الكونغو، حظي لومومبا بشعبية واسعة، وقاد مواجهات ومظاهرات مع البلجيكيين أدت إلى اعتقاله لمدة ستة أشهر، ثم أفرج عنه كي يساهم في إنجاح مفاوضات مائدة مستديرة عقدت في بروكسيل حول تقرير مصير الكونغو، أعقبتها انتخابات عامة فاز بها حزبه بالتحالف مع آخرين، وانتخب لومومبا رئيسا للوزراء، لكن بعد عشرة أسابيع من انتخابه انقلب عليه الجيش بقيادة «موبوتو سيسي كو». بعد تعذيب وحشي، ربطوا لومومبا إلى جذع شجرة وأمطروه بوابل من الرصاص، دفنوه على عجل، ثم نبشوا قبره في اليوم التالي وأذابوا جثته بالأسيد، بل كسر أحدهم فك لومومبا منتزعا بعض أسنانه ليحتفظ بها، ربما تدر عليه مالا وفيرا في مزاد للتحف!
جوليوس نيريري.. رافع لواء الوحدة الإفريقية هو من أشهر السياسيين الذين أنجبتهم القارة السمراء خلال فترات المد التحرري، المرتبطة زمنيا برغبة جل الدول الأفريقية، التخلص من سطوة الاستعمار الغربي. لم يكن فحسب مجرد رئيس لبلد صغير اسمه «تانزانيا»، بل أحد أكبر رموز وحدة الأفارقة ودعاتها منذ1963، ملوحا دائما بشعار:(إننا نؤمن بالوحدة الأفريقية، إيماننا بإفريقيا ذاتها)، مدافعا عن قضايا الأفارقة في مختلف أروقة المحافل العالمية، ومن أبرز نشطاء حركة عدم الانحياز خلال سنوات الخمسينات والستينات؛ مما جعله يحظى بسمعة دولية.ولد نيريري سنة1922، تلقى تعليمه الأولي في بلدة «موسوما»، ثم انتقل إلى «تابورا الثانوية التابعة للكنيسة الكاثوليكية. سافر صوب انجلترا من أجل إكمال دراسته في كلية أدنبرة». حين عودته، اشتغل بالتدريس، وقد عمل بتفان حتى يقضي على الأمية المنتشرة بين أفراد وطنه، غير أن انغماسه في السياسة اضطره كي يتخلى عن التعليم متفرغا إلى العمل النضالي. أسس سنة 1954 حزب الإتحاد الوطني الإفريقي الذي تبنى دعوة التحرر السلمي، واستطاع استقطاب العناصر المثقفة في بلاده مركزا على ضرورة التخلص من كل أشكال التمييز والقبلية التي كرستها السياسة البريطانية. أصبح عام 1960 رئيسا للوزراء، تمكن من توحيد المجموعتين الجغرافيتين «تجانيقا» و «زنجبار»، الخاضعتين للسلطة البريطانية، فأسفر الأمر عن تكوين دولة تنزانيا، التي صار نيريري رئيسا لها عام .1964اتجه عمله نحو تحسين الأوضاع المجتمعية لأبناء شعبه، وبناء الاقتصاد الوطني ورفع مستوى التعليم وتوفير الرعاية الصحية للجميع. مشاريع تفانى في سبيل تجسيدها على أرض الواقع إلى غاية سنة1985، حينما تخلى طواعية عن الرئاسة.
كوامي نيكروما.. لسان الحرية
على منوال سيرة مانديلا ونيريري، عندما يذكر اسم نيكروما، تقفز بسرعة إلى أذهاننا مواصفات خاصة: بدوره كان أول رئيس لبلده غانا المستقل وقتها، المساهمة في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية والنضال في سبيل تحقيقها، مكافحة الاستعمار، إخراج حركة عدم الانحياز إلى الوجود بجانب عبد الناصر وتيتو ونهرو وشون لاي، تنمية الوعي القومي ومناهضة النزاعات العرقية والقبلية، تعميم التعليم، إقامة نظام اشتراكي يتوخى تحقيق حياة كريمة للشعب، انطلاقا من بناء مرتكزات للتصنيع وإحداث ثورة زراعية، كما أدخل إلى بلده نظام الضمان الصحي والاجتماعي..،إلخ.
أحمد سيكوتوري.. النقابي الأسمر شخصية سياسية مرموقة ليس فقط على الصعيد الإفريقي، لكن كذلك العربي والإسلامي، نسج علاقات ود وأخوة مع كل الزعماء العرب، لاسيما جمال عبد الناصر الذي سميت باسمه أكبر جامعة في غينيا، وبالضبط العاصمة كوناكري، أقصد «جامعة جمال عبد الناصر». سيكوتوري القائد الفذ الذي ناضل من أجل تحرير القارة الإفريقية، هو أيضا صاحب مؤلفات عديدة..، أبرز عناوينها: «إفريقيا والثورة»، «إفريقيا في مسيرة النهضة»، «الثورة والدين»، «التجربة الفنية والوحدة الإفريقية»، «الجماعات العرقية والحزب والمسألة القومية»..، إلخ، كما خلف تراثا من المحاضرات والندوات، بحيث ركز مثل سنغور على ضرورة رد الاعتبار لقيم الثقافة الوطنية وإثرائها، فجسد بين هذا وذاك نموذجا واقعيا لفعل سياسي متحضر، تمرد على الوضع الذي أرادته القوى الاستعمارية لإفريقيا، أي مجرد منجم صحراوي شاسع يزود التجمعات الاقتصادية الأوروبية والأمريكية بالمواد الأولية. ولد سيكوتوري المنحدر من أسرة فقيرة مسلمة يوم 9 يناير 1922 بقرية «فرانا»، وهو حفيد الزعيم الإفريقي «ساموري توري» الذي قاد حملة وطنية لمقاومة الاستعمار الفرنسي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. لم يبق طويلا داخل حجرات الدراسة، فقد طرده المستعمر نتيجة إضراباته، وبالتالي سيسلك مسلك العصاميين. اشتغل في البريد، فأبان عن حس نضالي كبير، جعل منه رئيسا لاتحاد العمال بغينيا، ثم انتخب ممثلا لبلده في الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1951 وعمدة لكوناكري عام 1956، وأول رئيس لغينيا المستقلة عام 1958 . انسحبت فرنسا مخلفة وراءها بنية مدمرة قوامها الفقر والبؤس، بحيث تعمد المستوطنون قبل رحيلهم إلى تخريب المؤسسات الغينية، فضلا عن وقف باريس لمساعداتها. لماذا سيكوتوري رفض تماما المشروع الذي روج له دوغول، المتعلق بتوحيد المستعمرات الفرنسية تحت اسم «الرابطة الأفرو-فرنسية؟ ليواصل نضاله مع حزبه «الحزب الديمقراطي الغيني» صارخا في وجه العقاب الفرنسي :(إننا نفضل الفقر في ظل الحرية على الثروة مع العبودية). اتجه نحو العمق الإفريقي بهدف بناء علاقات مميزة، مركزا على الشخصية والروح الإفريقيتين، وبذل جهودا لافتة في سبيل تثبيت قواعد السلام، نستحضر مثلا عربيا وساطته لم تنجح للأسف، من أجل وقف نزيف الحرب المدمرة خلال سنوات الثمانينات بين العراق وإيران، في إطار جهود منظمة المؤتمر الإسلامي التي كان من مؤسسيها سنة 1964 . حصل سيكوتوري على العديد من الجوائز اعترافا بدوره المتميز، منها: «لينين للسلام» شهر ماي 1961، وقلادة النيل من يد عبد الناصر خلال زيارته إلى مصر، ثم دكتوراه فخرية في التاريخ الإسلامي من جامعة الأزهر تقديرا لدوره في مقاومة الاستعمار... إجمالا، مهما قلنا على هذه العينة من البشر، فاللغة تظل يتيمة يتما برحيل هؤلاء، هم لم يموتوا ولن يموتوا، بل أحياء يحرسون على ما استطعنا سبيلا إلى شفافيتنا الحالمة.
أحمد بن بلة.. الوجه التحرري للجزائر
يستحيل على أي مؤرخ لأهم أحداث سنوات الستينات، حيث المد التحرري العالمي في أوجهه، غض الطرف عن ثورة المليون شهيد الجزائرية، ولا عن شخصية دولية من عيار أحمد بن بلة، أحد الوجوه التاريخية ليس فقط لجبهة التحرير الوطنية، بل لبناء سياسي لإفريقيا، كان سيأخذ منحى مغايرا تماما لإفريقيا في وجه العملاء، والديكتاتوريات، والانقلابات اليومية، والفساد، والمجاعات، والحروب والفقر، والجهل… أحمد بن بلة من مواليد 25 دجنبر 1916، توفي يوم 11 أبريل2012، نشأ وترعرع وسط أسرة فلاحية متواضعة تنتمي إلى بلدة «مغنية»، شارك في الحرب العالمية الثانية ضمن القوات الفرنسية ضد ألمانيا النازية، فأبان عن شجاعة استثنائية، حتى إن الجنرال ديغول قام بمكافأته عربونا على تقديره. اتصف بن بلة بالثورية والتواضع والهدوء والوطنية الصادقة، وصفات أخرى مميزة أهلته كي يكون زعيما فوق العادة. إنه عروبي، ناصري، اشتراكي، مبتسم وبشوش، لا يلتفت كثيرا إلى البروتوكولات الشكلية. عندما وصل بن بلة إلى رئاسة الجزائر تبنى إستراتجية على الصعيد الداخلي تمثلت في : 1 -البحث عن موارد للدولة الجزائرية الخارجة للتو من آثار حرب عصابات طويلة مع الاستعمار الفرنسي. 2 - سعيه إلى إقامة بنية تحتية. 3 - إعطاء الأولوية لتعريب المؤسسات الإدارية والتعليمية من خلال استيراد مدرسين عرب، لاسيما من مصر. -4 الخوض في تجربة التسيير الذاتي، زراعيا وصناعيا، مستلهما التجارب الصينية والكوبية واليوغوسلافية. أما خارجيا، فقد مدت الجزائر في عهده يد العون لكل الثورات التحررية في العالم، إلى حد وصف الجزائر بأنها «قبلة للثوار»، ثم دعمه لحركة عدم الانحياز، بحيث أيام قليلة قبل تنظيم أكبر محفل دولي وقتها، أي المؤتمر الأفرو-آسيوي، وقع الانقلاب العسكري بقيادة العقيد هواري بومدين بدعوى أن بن بلة خرج عن خط الثورة وصار ديكتاتورا يستأثر بالسلطة. لذلك، لابد من تصحيح «المسار» كما جاء في بيان بومدين، ثم ألقي بالرجل في غياهب سجن انفرادي لمدة خمس عشرة سنة، وبالضبط يوم 30أكتوبر1980 . انقلاب لم تتضح ربما كواليسه إلى اليوم. فهناك، من يشير إلى وجود أطراف خارجية بغية عرقلة مشروع المؤتمر، وبالتالي فأيادي الأمريكان والغربيين حاضرة. البعض الآخريفسره بصراع داخلي على السلطة بين رفيقي الدرب بن بلة وبومدين، وإن قيل بأن عهد الثاني هو في الحقيقة مجرد امتداد للأول. بومدين دعم بن بلة وهيأ له أسباب الوصول إلى السلطة، لكنه وقف ضده عندما استشعر أنه بدأ يضرب نفوذه ومركزه. استغل بن بلة سنوات سجنه الطويلة كي ينكب على الدرس والتحصيل والإطلاع على الفكر الإسلامي، رغم تدخل العديد من الشخصيات المرموقة دوليا: كعبد الناصر وديغول وكاسترو وسيكوتوري ونيريري بتقديم التماس لبومدين كي يطلق سراح أول من تلا بيان اندلاع الثورة الجزائرية عبر أثير إذاعة القاهرة، غير أنه صمم على رفضه. فترة السجن تزوج بن بلة بالناشطة السياسية زهرة سلامي،الصحفية الجزائرية في مجلة الثورية الإفريقية، الماوية المعارضة سابقا لنظامه والمناصرة لخصمه أحمد بوضياف، وقد تقاسمت معه يومياته داخل المعتقل لفترة سبع سنوات. بعد إطلاق سراحه، غادر متجها إلى باريس، فعاود ممارسة نشاطه النضالي مؤسسا حزبا سياسيا معارضا سنة 1984 هو «الحركة من أجل الديمقراطية»، مطالبا بحياة ديمقراطية تنهض على احترام حقوق الإنسان. يشرح بن بلة بشكل سريع ما عاشه، بين طيات مقالته الشهيرة «هكذا عرفت تشي» (ترك تشي غيفارا الجزائر وهو ما تزامن مع الانقلاب العسكري الذي وقع يوم 19 يونيو 1965، ووضعي تحت الحراسة. رحيله عن الجزائر وقتله في بوليفيا، ثم اختفائي لمدة خمسة عشرة سنة، ينبغي تأمله في إطار سياق تاريخي للارتداد، بعد فترة انتصارات النضالات التحررية تقهقر، دق ناقوس الحزن بعد القضاء على لومومبا وأنظمة العالم الثالث التقدمية، كما الحال مع نيكروما، كايتا، سوكارنو وناصر.. إلخ).