يجري الحديث منذ شهور طويلة في المغرب عن كون أموال الدعم تصرف في غير محلها، ويستفيد منها من ليس لهم الحق. وفي إطار هذا النقاش نورد هنا نظرة على التجربة النيجيرية المريرة مع دعم المحروقات وطرق الاحتيال التي ينهجها الكثير من النافذين للاستيلاء عليها، كما جاء في دراسة أعدتها جمعية «إعلان بيرن» السويسرية قبل شهور استدعى البرلمان النيجيري رودني غافشون (rodney GAVSHON) ممثل شركة «فيتول»(VITOL) السويسرية العملاقة المتخصصة في تجارة المحروقات ليدلي بشهادته، بخصوص الشبهات التي تحوم حول تواطؤ هذه الشركة وأخريات مع مقاولات نيجيرية محلية لاستغلال الأموال الهائلة التي تخصصها نيجيريا لدعم أثمنة المحروقات. وبعد أن حاصره البرلمانيون بوقائع وأسئلة حول العديد من الخروقات التي تشير بقوة إلى تورط «VITOL» في عمليات مشبوهة لاستغلال أموال الدعم الهائلة، التي تخصصها نيجيريا لهذا القطاع، اكتفى غافشون بالقول وبصوت خافت لا يكاد يسمع إنه «لا يتوفر على كل التفاصيل»، ولكن البرلمانيون واصلوا ضغطهم على ممثل هذه الشركة السويسرية، قائلين إن عليه الإقرار بأنه لم يكن يجهل تماما ما سموه «عمليات السرقة التي تتم في واضحة النهار أموال الدعم النيجيرية»، فما كان غافشون إلا أن يصمت ويترك محامي الشركة للرد قائلا: «هذه مسألة مهمة..، ولكن «VITOL» لم تساعد أي كان على خرق أي قانون... إن «VITOL» مزودا وليس مستوردا، وبهذه الصفة فهي تكتفي بتلبية طلبات هؤلاء المستوردين». وهنا يعني الشركة النيجيرية التي تتوسط في استيراد ما يحتاج السوق النيجيري من محروقات. وهذه هي المفارقة التي تسببت في فقدان ملايير الدولارات سنويا. رغم أن نيجيريا تعتبر أحد أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم وليس في إفريقيا وحدها، فهي مضطرة لاستيراد 80 في المائة من حاجياتها من المنتوجات النفطية المكررة من بنزين وكيروزين وغازوال. والسبب في هذه المفارقة العجيبة هو كون معامل التكرير الأربعة التي يتوفر عليها البلد تعاني من عوائق بنيوية كبيرة، وحتى لو كانت تشتغل بأقصى قدراتها، فإنها تبقى عاجزة تماما عن تلبية حاجيات البلاد، التي يصل عدد سكانها إلى نحو 175 مليون نسمة، من هذه المواد النفطية.
حيل الاختلاس ولتفادي اشتعال الأوضاع في هذا البلد الذي يعيش في توتر مزمن، أقامت الحكومة النيجيرية منذ سنوات طويلة نظاما لدعم استيراد المحروقات؛ حتى يتسنى طرح هذه المنتوجات في السوق بأثمنة في متناول السكان. وتشير جمعية «إعلان بيرن» السويسرية في تقرير لها حول خروقات هذا الدعم إلى أن هذه الحكومة خصصت له في 2003 مثلا، نحو 3 في المائة من الناتج الداخلي الخام للبلاد؛ أما في 2006 فقد تم تعديل هذا النظام جزئيا، ولكن هذا لم يحد من الخروقات الكثيرة التي يشكو منها. بل إن عدد من تقارير الافتحاص تؤكد أن الدعم النيجيري للمحروقات كان هدفا لإحدى أكبر عمليات الاختلاس في القارة الأفريقية. وتشير التقارير الدولية والمحلية إلى أن حوالي 6.8 ملايير دولار(حوالي 6000 ألاف مليار سنتيم) تم اختلاسها بفضل هذا النظام مابين 2009 و2011 فقط، ويمثل هذا المبلغ الرهيب ربع الميزانية العامة للبلاد. ولم تتمكن الدولة لحد الآن، من استرجاع سوى 6 في المائة من الأموال التي تم تقديمها في إطار الدعم. ولعل من أسباب هذا الفساد، الذي يضع نيجيريا في المرتبة 139 من أصل 179 دولة على سلم ترانسبارنسي للبلدان التي تنتشر فيها الرشوة، كون المحروقات المكررة يتم استيرادها وفق نظام معقد يعتمد على الوسطاء المحليين. وحسب تقريرين محليين (واحد للغرفة السفلى للبرلمان النيجيري وآخر لرئاسة البلاد)، فإن حوالي 70 مستوردا وفاعلا محليا يشتبه في تورطهم في هذه الاختلاسات الكبيرة. وتقوم «الشركة النيجيرية الوطنية للنفط» (NNPC) باعتماد «مستوردين» محليين للنهوض بمهمة شراء المواد النفطية المكررة من الشركات العالمية، وبالخصوص السويسرية. ومن الطرق المعتمدة لتهريب الدعم، أن تصرح الشركة المستوردة بأنها اشترت شحنة كاملة، ولكنها في الواقع لا تسوق في نيجيريا سوى جزء صغير منها؛ أما الباقي فتبيعه في السوق العالمية أو السوق السوداء، فتستفيد في الآن نفسه من الدعم، ومن الربح الناتج عن عملية إعادة البيع. أما الطريقة الأخرى المعتمدة للاستفادة من الدعم دون وجه حق، فتتمثل في قيام شركات بالتصريح بأنها اقتنت شحنات كاملة من النفط بينما هي لم تدخل ولو نقطة واحدة من تلك المنتوجات النفطية إلى الأرض النيجيرية. وهناك، طريقة ثالثة تتجلى في تزوير الوثائق البحرية ودمغها بتاريخ اليوم أو الأيام التي يكون فيها سعر النفط مرتفعا في السوق الدولية، للحصول على دعم أكبر من ذلك الذي كان سيتم الحصول عليه لو تم التصريح بالسعر الحقيقي. وكانت السفارة الأمريكية في «أبوجا»، العاصمة النيجيرية قد أشارت منذ 2004 إلى أن موردين محليين وشركات سويسرية متواطؤون في هذه التجاوزات، وضرب مثلا بوثائق حصلت عليها، تشير إلى 73 شحنة ضخمة من المحروقات لم تقض سوى يوم واحد للوصول إلى نيجيريا، من الخليج العربي أو فينزويلا وهو أمر مستحيل عمليا.
بعيدا عن العيون وحتى تجري هذه العمليات كلها كان على المختلسين العمل بعيدا عن عيون ومراقبة السلطات النيجيرية، ولهذا كانت عمليات البيع والشراء بين الشركات المتاجرة في المواد النفطية والموردين المحليين تجري في الخارج، على عكس القانون النيجيري الذي ينص على ضرورة أن تتم تلك العمليات في المياه النيجيرية أو في موانئ البلاد. وقد جرت في سنة 2011 لوحدها 857 عملية خارج البلاد، وبالخصوص في كل من البنين والطوغو القريبتين. وتسمح هذه العمليات التي تتم في الخارج للموردين المحليين بالحصول على مخصصات الدعم بالدولار الأمريكي وليس ب «النيرا» (العملة النيجيرية). وبهذه الطريقة يحمون أنفسهم من تقلبات سعر الصرف التي يتحمل نيرها في آخر المطاف البنك المركزي النيجيري. وهناك، سبب آخر لإجراء تلك العمليات في المياه الدولية، ويساهم في تعميق الاختلاسات، مثلا: تقوم حاملات النفط التي تكتريها الشركة السويسرية «VITOL» والمقاولات الدولية الأخرى (سويسرية في أغلبها) بالرسو في مينائي «لومي» (عاصمة الطوغو) أو «كوتون» (عاصمة البنين)، وهناك تتم تجزئة شحنتها إلى شحنات صغيرة تنقلها إلى بواخر أخرى صغيرة. وهذه طريقة جيدة لخلط الأوراق.هكذا، من أصل 857 عملية جرت في 2011، تمت 308 عملية منها: عبر ثلاث بواخر أو أكثر، وهذه العمليات التجزيئية هي التي دفعت بعض البرلمانيين النيجيريين إلى اتهام الشركات الدولية المتاجرة في المواد النفطية بالتواطؤ الواضح مع الموردين المحليين، للحصول على أموال الدعم بطرق غير قانونية بالمرة.
شخصيات نافذة ورغم أن الجزء الأعظم من المختلسين مازالوا أحرار طلقاء- وربما سيظلون كذلك إلى الأبد- فإن السلطات النيجيرية نجحت في متابعة عدد منهم، ووجدت عند بعضهم وثائق بحرية مزورة تحمل طابع شركة «Mercuria Trading N.V» أو «Mercuria Energy Trading SA». فهذه هي حالة شركة «Ax Energy» النيجيرية التي زورت كل الوثائق الضرورية للحصول على الدعم، مع العلم أنها لم تستورد ولو نقطة واحدة من المحروقات. ويواجه عدد من مسيري هذه الشركة المحاكمة بتهم اختلاس حوالي 6.8 مليون دولار (حوالي 6 ملايير سنتيم)، ومن بينهم عبد الله علاو، وهو نجل عبد العزيز أريسكولا علاو، رجل الأعمال الفاحش الثراء وأحد القادة المسلمين النافذين جدا في البلاد(يشغل منصب نائب رئيس «المجلس الأعلى النيجيري للشؤون الإسلامية»، وهو هيئة قوية جدا في البلاد). كما أن» Mercuria « سملت مواد نفطية إلى شركة «Eterna Oil and Gaz» المتابعة بتهمة التصريح الكاذب بأنها استوردت أكثر من 33 مليون لتر من البنزين. ويشرف على هذه الشركة «محمود توكور»، نجل «الحاج بامنغا توكور» رئيس حزب الشعب الديمقراطي، الذي يوجد في الحكم منذ 1999. ومن الشركات النيجيرية الأخرى المشتبه في تورطها هناك: «MRS Group» التي لم تدل بأي وثيقة تثبت أثمان العمليات التي قامت بها ما بين 2010 و2011، بل إن المتخصصين يشكون في صحة أكثر من 30 صفقة أجرتها هذه الشركة، قيمتها أكثر من 100 مليون دولار، ويوجد على رأس هذه المؤسسة «الحاج سايو دانتاتا»، وهو من أقارب «أليكو دانغوت»، الذي يعتبر أغنى رجل في إفريقيا. وهذا نموذج فقط من الشخصيات التي تستفيد من الدعم الذي تخصصه الدولة النيجيرية حتى يكون سعر المحروقات في متناول الفئات المتوسطة. ولعل هذا النموذج النيجيري من شأنه أن يبعث على التساؤل حول المستفدين حقا من الدعم الذي يتلهم الجزء الأكبر من مخصصات صندوق المقاصة. حضور سويسري قوي والغريب في كل هذا أن الشركات السويسرية هي التي تهمين على توريد المحروقات إلى السوق النيجيرية. وأظهر تقرير شركة متخصصة في تتبع مسار حاملات النفط في غرب القارة الإفريقية، أن كلا من شركات «غلينكور» (GLENCORE) و «ترافيغورا» (TRAFIGURA) و «فيتول» (VITOL) و «ميركوريا» (MERCURIA) و «غانفور» (GUNVOR)، وكلها مقاولات سويسرية مهمة كان لها حضورا بارزا في هذه المنطقة. إلى جانب هذه الشركات العملاقة، توجد مؤسسات أصغر حجما وأكثر غموضا، مثل: شركة «أركاديا إنيرجي» (ARCADIA ENERGY) أو «نيميكس بيتروليوم» (NIMEX PETROLEUM). وقد دعت السلطات النيجيرية هذه الشركات السويسرية كلها إلى التعاون معها لضبط المختلسين، وأمام رفضها لجأت هذه السلطات إلى العدالة السويسرية. ففي أكتوبر 2012، بعثت وحدة الجرائم المالية والاقتصادية بالشرطة النيجيرية ب «إنابة قضائية» إلى السلطات السويسرية تطلب فيها الحصول على وثائق محاسباتية من تلك الشركات حسب معلومات حصلت عليها جمعية «إعلان برن»: VITOL و LITASCO و GUNVOR و ARCADIA ENERGY وpetrade pressleto. والغريب أن هذه الشركة الأخيرة كانت مجهولة تماما، ولا أثر لها على السجل التجاري السويسري، ولكن مقرها يوجد على الأرجح في العنوان ذاته الذي تستقر فيه VITOL .