ساد الهرج والمرج داخل القاعة، استعصى الأمر على الشرطة، فاستجمع القاضي قواه وأمر باعتقال السيدتين اللتين لم تتوقفا عن الصراخ في وجهي بعضهما…كان مشهدا طريفا قلما يتكرر في محاكم المغرب، ذاك الذي شهدته محكمة الاستئناف بالدار البيضاء. كان يوم إثنين بالمحكمة التي تشهد عشرات الملفات التي تدرج بالقاعات الشاسعة لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء بشارع الجيش الملكي.. الباحة التي تتوسط القاعات الخمس، تشهد لغطا وصخبا كبيرين في العاشرة صباحا كعادتها.. وجوه مصفرة يبدو الرعب قد سكن أوصالها، وهي تحملق في كل الاتجاهات، وكأنها في لجة بحر مظلم.. في حين ترتسم على ملامح وجوه أخرى علامات البؤس وهي تستعطف أو تستفر محاميا بلباسه الأسود الأنيق، وهو يبعث رهبة في النفوس حين تنحني أمام هامته. في قاعة جانبية، تتكدس الأجساد فوق الكراسي الطويلة خلف مقاعد المحامين المعزولة.. تنحشر الأجساد في بعضها، وكل العيون مشدودة لهيئة الحكم التي تضع أمامها جبالا من الملفات، لتنتقل بين الفينة والأخرى إلى المحجز، حيث يقبع المتهمون في حالة اعتقال، يتابعون بإهمال ولامبالات مجريات محاكمة متهمين آخرين. كان الصمت المفروض تحت رعاية أمنية، يعطي للمحكمة سمْتها الخاص، وكانت عيون الشرطة داخل القاعة مركزة على مجريات القضايا، مع المسح الضروري بين الفينة والأخرى للحضور ليلا يسجل أحدهم مجريات الجلسات أو يلتقط صورا، وهو أمر ممنوع كليا في أعراف المحاكم المغربية. فجأة بدأت همهمات بين سيدتين، لم تثيرا الانتباه في البدء، لكن بعد مرور بضع دقائق، بدأت الكلمات تتوالى لتكسر سير المحاكمة العادي.. انتبه القاضي، رفع رأسه وركز عينيه على السيدتين، وطالبهما بالصمت، واحترام المحاكمة. لم تكد السيدتان تذعنان لأوامر القاضي، حتى انتفظت إحداهما مرة أخرى في وجه الأخرى، وأمسكت بتلابيبها، وكأنها سمعت أوامر القاضي بالعكس، حيث رفعت من وثيرة صراخها في وجه الأخرى التي يبدو أنها تكن لها العداء أيضا.. وضع لم تتقبله السيدة الثانية، لتبرز مؤهلاتها أيضا في الصراخ، لتنتقل السيدتين إلى عالم لا يعترف بالمحكمة ولا بالقاضي ولا بالأمن، فقط عالم له علاقة بالصراح والغضب اللامتناهي.. وهو الغضب الذي أنهاه القاضي الذي فشلت محاولاته في الضرب بيده على منصة الحكم، ولا الصراخ في وجه السيدتين، ولا حتى تهديداته باعتقالهما.. لتنجح قبضة الشرطة داخل المحكمة في اعتقال السيدتين تطبيقا لتعليمات القاضي رئيس الجلسة، وسحبهما إلى غرفة الاعتقال.. ورغم سحبهما من طرف الشرطة فلا زالت السيتان تهددان بعضهما وتتوعدان بفعل كذا وكذا، وهما لا تعلمان أنهما سيقضيان على الأقل 48 ساعة رهن الاعتقال الاحتياطي تطبيقا لتعليمات النيابة العامة، لإزعاج والتأثير على سير المحاكمة.