يحتفظ التاريخ السياسي الراهن، للعلاقة بين بنكيران و»20 فبراير»، بركام من الأحداث والتفاعلات والتفاصيل والمفارقات، يمكن بصعوبة إعادة تركيبها في صورة غاية في التعقيد. قد يكفي للتدليل على ذلك القول ببساطة إن الزعيم الإسلامي في البداية كان من أشد خصوم «20 فبراير»، قبل أن يصبح، بشكل مفارق، من أكبر المستفيدين من حراكها. لقد اعتبر من موقعه كأمين عام للعدالة والتنمية، منذ بداية توالي دعوات التظاهر المنطلقة من الفضاء الأزرق، أن استدعاء الشارع مغامرة سياسية غير محسوبة النتائج، في ظل محيط إقليمي هائج، واستطاع أن يقنع قيادة حزبه بتقديره الخاص للموقف السياسي تجاه النسخة المغربية من الربيع العربي، رغم أن جزءا من أعضاء الأمانة العامة لحزبه كان لديهم رأي مخالف. التفكير في هذه العلاقة قد يقتضي منهجيا التمييز بين لحظتين حاسمتين، لحظة الموقف المناهض للاحتجاج السياسي الذي دعت إليه هذه الحركة، ثم لحظة استثمار المساحات السياسية الواسعة التي فجرتها هذه الهبة الشبابية، خاصة بعد خطاب 9 مارس. في اللحظة الأولى، انطلق بنكيران في ما يشبه مواجهة مفتوحة مع دينامية 20 فبراير، عبر تصريحات صحافية ولقاءات مباشرة مع أعضاء حزبه في أكثر من مدينة. كان بنكيران حينها مدفوعا بتصوره للسياسة كفعل قيادة وليس كمجرد تماه مع الشارع، وفي قرارة نفسه كان يشعر بأنه قد عثر من جديد على معركة يخوضها باقتناع في مواجهة التيار الجارف، وهو أمر تعوّد عليه ولو من منطلق «الأقلية» الحزبية أو الحركية. عناصر تحليل الموقف بالنسبة إلى بنكيران لم تكن بعيدة عما كان قد أعلن عنه العديد من القادة السياسيين آنذاك، تحت يافطة عنوان جاهز هو الدفاع عن الاستثناء المغربي، وفي التفاصيل كانت تبرز حجج المقارنات بين التجربة المغربية وبين الحالتين التونسية والمصرية، من حيث الشرعية المؤكدة للمؤسسة الملكية، والحيوية النسبية للحياة السياسية، والاشتغال «المتميز» لآليات الوساطة الحزبية والنقابية والمدنية . لكن الفرق كان يكمن في النبرة التي أعطاها بنكيران لهذا الموقف، وفي طبيعة الحزب الذي أنتج هذا الموقف، وهو حزب كان يملك بحجمه السياسي والتنظيمي القدرة على التأثير في موازين القوى . في خلفية الموقف، لم يكن بالتأكد التفكير في العلاقة مع المؤسسة الملكية بعيدا عن الحسابات، ذلك أن بنكيران المؤمن في عمق أفكاره بمركزية المؤسسة الملكية في النظام السياسي المغربي، يبقى في نفس الوقت مقتنعا بالحاجة الماسة إلى التجاوز النفسي والسياسي لحالة سوء الفهم التاريخي بين الإسلاميين والسلطة، وهو ما يعني تفادي إمكانيات العودة بالعلاقة إلى اللحظة الصفر، والقضاء على كل مبادرات التطبيع وبناء الثقة . في الواقع، وبالنظر إلى السياق الإقليمي من جهة، ولطبيعة الانحسار السياسي الذي كانت تعيشه التجربة الديمقراطية والاستعداد المجتمعي اللافت لتبني مطالب التغيير من جهة أخرى، فقد كنا أمام تقدير موقف من الصعوبة بمكان تقدير لا تسعف فيه المرجعيات المبدئية لوحدها، بقدر ما يتطلب الأمر حسابات تكتيكية تقاس بأصغر الخطوات وأكثرها دقة. لذلك عندما نتأمل اليوم ملابسات وسياق الأحداث، يبدو الأمر كما لو أن التاريخ كان قد أعد لبنكيران، من خلال حدث 20 فبراير، اختبارا غير مسبوق، وحالة مدرسية لن تتكرر، وهو ما تجاوب معه بطريقته الخاصة، التي يصعب تصورها لو كان يوجد على رأس البيجيدي قيادي آخر . اللحظة الثانية هي التي تلت الخطاب التاريخي لتاسع مارس 2011، وهنا فبنكيران تحرر نفسيا من هاجس السقوط في خطاطة «الكليشي» الجاهز للمواجهة: إسلاميين/سلطة، ليعيد التموقع بشكل مريح نسبيا، مزاوجا بين الإعلان عن تمسك حزبه بالنظام الملكي، لدرجة رفضه القاطع لأي حديث عن الملكية البرلمانية، وبين الهجوم الشرس على من سيعتبرهم رموزا للتحكم . في الواقع، لقد انتقل بنكيران بسهولة من استراتيجية عزل حركة 20 فبراير إلى الانخراط في استراتيجية «تأميم» مطالبها، وهي الاستراتيجية التي اقتنع النظام السياسي بنجاعتها في توقيت قياسي وبذكاء «فطري» يوجد في الجينات العميقة للدولة. وهنا، فإن العدالة والتنمية سيتقمص، بذكاء، في خطابه الإعلامي والسياسي والانتخابي في ما بعد، كل شعارات 20 فبراير المتعلقة بمحاربة الاستبداد والفساد، مقترحا بشكل من الأشكال نفسه كامتداد مؤسساتي وإصلاحي لمطالب الشباب المغربي، من خلال الصيغة التي يكثفها شعار «الإصلاح في ظل الاستقرار». في السياق الانتخابي الذي تلا هذه المرحلة، سيعتبر ذلك جزءا من الطبقة الوسطى، أي أن العدالة والتنمية هو وحده الذي يمتلك الجواب الأكثر مطابقة لأسئلة مرحلة ما بعد 20 فبراير، سواء من حيث قدرته على تجسيد البديل القادر على خلق التناوب السياسي، أو بالأساس انطلاقا من تفاعله مع مطالب إسقاط الفساد والاستبداد، وذلك ضمن رؤية إصلاحية تقوم على تقديم ضمانة الاستقرار للفئات المحافظة داخل المجتمع والدولة. في باب الحديث عن ما تبقى من 20 فبراير خلال ولاية بنكيران، فإنه من المهم التذكير بما يشبه القانون العام الذي يحكم تدبير النظام السياسي المغربي لمرحلة ما بعد «الانتفاضات» الشعبية أو «الهبات» الاجتماعية، وهي مرحلة تتسم عادة بالعودة القوية للدولة، عبر إعادة انتشار جديد على المستويات الرمزية، الإدارية، المؤسساتية، الأمنية، الحزبية، المجالية، والسياسية . طبعا، فإن نهاية 20 فبراير على الصعيد الحركي، لم تعني بالضرورة القضاء على روح فبراير 2011، فهذه الأخيرة ظلت حاضرة واستطاعت البروز في أكثر من محطة، سواء في صيغة يقظة مجتمعية بحساسية أكثر قوة، أو في شكل تمسك قوي للأجيال الجديدة، المستندة على الأبعاد التعبوية لوسائل التواصل الاجتماعي بعقيدة المساءلة، أو من خلال عودة جزئية للسياسة خلال الاستحقاقات الانتخابية خاصة داخل الحواضر. هل في النهاية كان بنكيران وفيا لروح 20 فبراير؟ لنتذكر أنه كان ملزما بالانخراط في تدبير مرحلة «الما بعد»، من خلال إعادة «هيبة» الدولة على مجموعة من الأصعدة، مثل إنهاء فترة «السماح» التي أطرت علاقة الدولة بالفضاءات العمومية أو بأشكال الاحتجاج. ثم لنعيد التأكيد، من جهة أخرى، على أن تدبيره للوثيقة الدستورية، وهي بالتأكيد غنيمة 20 فبراير الكبرى، قد طاله الكثير من الزهد من ممارسة الصلاحيات، وطبعه سيادة فكرة أولوية بناء الثقة على تطبيق النصوص، وهو ما أعادنا إلى إحدى ثوابت الممارسة السياسية المغربية، حيث سيادة ثقافة التسوية السياسية على مبدأ احترام القانون الأسمى. على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، فإن التدبير العمومي أصبح في الواقع بعيدا عن يوتوبيا «العدالة الاجتماعية»، كما كانت قد عادت- على الأقل- كفكرة ملهمة للحراك المغربي في ربيع 2011، ذلك أن السياسات المطبقة، خاصة من خلال تفكيك «الدولة الاجتماعية»، وبغض النظر عن نجاعة هذه السياسات، على مستوى التوازنات المالية، أو حتى عن التزامها بمنطق الصرامة والحزم، تبقى وفية للسجل النيوليبرالي في كثير من الحالات. على أن بنكيران -وهذا من أوجه المفارقة الأكثر إثارة- ظل يبدو كأمين عام لحزبه في كثير من الحالات ومحطات الصراع السياسي -بالرغم عن أنفه- كما لو أنه امتداد طبيعي للحركة التي كان واحدا من أعنف خصومها!.