… ودار العام في غفلة من البال والروح المنغمسين في دوامة حروبنا الصغيرة التي لا أول لها ولا آخر، مثل متاهة «ديدلاس».. دوامة أبدد فيها جهدا رهيبا للهروب من وحش اسمه «اليومي» يحاول التهامي كاملا تماما، كما كان أولئك الإغريق البسطاء يحاولون عبثا الهرب من «المينتور»، بعدما يُقلى بهم قربانا لهذا الوحش الأسطوري. نعم. دار العام، وها هي ذكرى أخرى ل»20 فبراير» تحل. فأنزوي هناك في الركن القصي للروح وأغمض عيني لأتأمل سمائي الخاصة مديرا ظهري لكل هذه الحروب الصغيرة التي لا تكف عن نهش روحي مثل النمل الأحمر. وهنا في ركن قريب من هذه السماء مازالت بقية من أثر مذنب أخضر أضاء حياتي (وأجرؤ على القول إنه أضاء سموات كثيرين مثلي)، ثم ابتعد وهو يعد بالعودة ولو بعد حين. قد تكون حركة «20 فبراير» فقدت كثيرا من ريشها، وانفض عنها كثيرون، يأسا أو خوفا، أو سعيا وراء منافع حقيقة أو متخيلة. لكن الفكرة لم تتلاش كما يتوهم كثيرون أو قليلون، بل هي انكمشت بعد أن أحست حولها بكثرة الأيادي غير المعادية، ولاذت بنفوس من آمنوا بها ومازالوا يؤمنون، حيث بعض من أمان حتى تهدأ الريح الخبيثة وتهب بدلها ريح طيبة. هي لم تمت ولا تموت لأنها تجسيد لذلك الحلم الكبير (أو جزء منه على كل) الذي يسكنني ويسكن كثيرين مثلي، ويجعلنا جميعا نتطلع إلى مجتمع ينتقل من عهد «الكائنات» التي لا وجود لها خارج الجماعة، ولا تستطيع العيش خارجها أو التحرك بدونها، إلى أفراد يكونون عصب وعماد الجماعة، تتقدم بروحهم وتتحرك بإرادتهم. هي لم تمت ولا تموت لأنها تمثل تلك النافذة العالية التي نقفز لنرى عبرها سماء أخرى أكثر صفاء وزرقة، وأرحب بكثير من هذه التي نعيش تحت غيومها التي لا تتبدد.. تلك النافذة التي نطل منها على ذلك الحقل الفسيح والأكثر اخضرارا، والذي يبدو على بعد خطوة.. وعلى بعد أميال في الآن ذاته. لم تكن «20 فبراير» حركة سياسة وإن حاول «السياسيون» امتطاءها، ولم تكن حركة اجتماعية فقط، وإن صدحت بشعارات مغموسة في حليب الكرامة، بل كانت في العمق محاولة الحالم تجسيد حلمه، ونقله من سماء الروح إلى أرض الحياة.. ربما لم تنجح المحاولة، لكنها حركت المياه الآسنة، وزعزعت ريحها الطيبة كثير من الخيم العتيقة.. ربما لم تنجح، ولكنها تركت على لسان الروح حلوا تسترجعه