قادت السيارة بسرعة لتهرب من ظلام الليل، تزيده رهبة قمم الجبال المحيطة .اصطدمت بصخرة على شكل هرم وسط الطريق ،فسقطت في نور اللاوعي .رأت نعشها محمولا تتبعه عيون باكية لوجوه تحبها ، فجأة أطل رأسها من النعش يبحث عن شخص بعينه ، أحست بدفء الحياة يغمرها حينما لمحته بين الحاضرين ، لم يكن يبكي مثلهم، كان يخترق الصفوف مادا يديه القويتين في محاولة لانتشالها ... يصلها صوت من غور بعيد : - يدك..... - يدك .... لم تنفع كل دروس العوم التي تعلمتها في ذلك المكان العميق من الوادي ... كانت تغرق ...تغرق.....والماء يتسرب ... مالحا ... يتسرب ... ! و هذا الإحساس بالاختناق يا إلهي كم هو رهيب... رهيب - يد........د.....ك... بعدها لم تعد تسمع شيئا .حينما فتحت عينيها أخيرا في مستشفى المدينة الصغيرة ، استقبلتها تهاليل أفراد عائلتها : الحمد لله . !- معجزة لمحته يتقدم نحوها مبتسما تكلله نظرات رضى والديها: - حمدا لله على السلامة قال ، قدر ولطف . اختلطت عليها الأزمنة والوقائع ، فاشتد ألم رأسها . - شكرا . قال والدها ، نحن مدينون لك بحياتها مرتين . تردد صدى الكلمة الأخيرة في ذهنها المتعب : مرتين ؟ !الزمن إذن غير الزمن ساد صمت ثقيل بعد كلام والدها . هجم الماضي فجأة ومعه هجم النوم عليها :هربا ربما. ما الذي لا يفعله الإنسان بالإنسان ؟ سوء صورته كان بيتا من فولاذ بلا نوافذ ينفذ منها الضوء ، ولا باب يلج منه قلب يضيء عتمته . « بناؤون أشداء ،خبرة في الرص» كثيرا ما رددت في نفسها كلما وصلتها ثرثرتهم عنه . لا تتذكر متى سمعت اسمه لأول مرة ، لكنها تتذكر جيدا السعر في عيون الملائكة الذين كانوا يتلذذون بأكل لحمه في الأعياد والأعراس والمآتم. وكم كانت تندهش جهرا لرواية التفاصيل الصغيرة التي لا يطلع عليها سوى الشخص نفسه بعد الله ،وتضرب كفا بكف وهي تراهم يصمتون خوفا وجبنا عن حاكم المدينة يفرغها بتواطؤ مع المترفين المستفيدين . يفرغها..... حتى من روث بهائمها تحمله الشاحنات سمادا إلى ضيعته بمراكش . يصمتون عن الحاكم الجائع الروح ، الذي لو استطاع لزحزح الجبال وصيرها زينة طبيعية للضيعة المراكشية ، و ينفثون فيه هو سم انسحاقهم عقابا له على اختلافه عنهم، دون أن يفطنوا إلى تسخير أولي الأمر لشر نفوسهم العاجزة للقضاء على تمرده . جمع اختلافه وتميزه الإنساني والثقافي في حقيبة، وغادر المدينة والبلد وحيدا بعينين يملؤهما الغضب . اشتغلت الألسنة طويلا، قبل أن تخرسها رياح التغيير العاتية التي هبت على المدينة تتحالف مع الجفاف لتأتي على الأخضر واليابس. حينما عاد كان صدى صلوات الاستسقاء طيلة أيام الأسبوع قد اتحد مع أصوات الرياح شرقية وغربية ،النافذة من الأبواب المشرعة عن آخرها، فجرد السكان الذين لم يحتموا بصمود الجبال مما تبقى من ثيابهم الأصلية . اشتغلت ألسنة الملائكة من جديد، تجاهلت الذكاء والزمن واختلاف الفضاء وحكت قصصا كثيرة عن مصدر ثروته ،غير أنها سعت إليه ولم تقاطعه .أما هو فكلما اقتربوا منه متزلفين متملقين استحضر صورة نموذجية لمدينة منتكسة ، وردد متأسفا مع العلامة صاحب الصورة : « وأما أهلها في ذاتهم واحدا واحدا على الخصوص فمن الكد والتعب في حاجات العوائد والتلون بألوان الشر في تحصيلها وما يعود على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها، فلذلك يكثر منهم الفسق والشر والسفسفة والتحيل على تحصيل المعاش من وجه و من غير وجه». كثيرا ما التقت به في دروب المدينة ،وكثيرا ما ألقيا التحية على بعضهما. لم تتحاشاه يوما يدفعها إعجابها بتمرده على من روحه الجوع ،و كفرها بالملائكة الذين نزلوا من السماء ليعمروا الأرض يحدثني فلا ن ..وأخبرني علان ... يدفعها أيضا إحساس غريب ...حدثت أختها زبيدة عنه يوما فسارعت إلى القول: ! أنت مغرمة ربما - - أي غرام؟ وأي هوى ؟ تساءلت مندهشة من التأويل، أحدثك عن شعور خفي مبهم ينبئ بما لا أستطيع ترجمته إلى كلمات وتكلمينني عن الهوى؟ ضحكت أختها وهي ترد قائلة : لا تغضبي ، التمسي لي العذر فالأمر يتعلق برجل وامرأة ! تعلمينوأنت ماذا تعلم؟ عندما بدأت تعود إلى الحياة وقد أخرجت مياه النهر من جوفها : فتحت عينيها على عينيه الزرقاوين تحدقان فيها في خوف المرهق، وعلى شفتيه ترددان بلا انقطاع : - الحمد لله..... الحمد لله ..... كدنا نغرق معا. كان إنقاذه لها من الغرق بداية جحيمها ، لم يعامله أحد من عائلتها بامتنان: تكاد لا تتعرف على أمها المتجهمة ، وعلى أبيها الصامت في صرامة مخيفة . نطقت أمها أخيرا : - المدينة تتحدث عن علاقتك به ؟ - أي علاقة؟ - يقولون :لا يجازف الرجل بإنقاذ امرأة من الغرق وهو لا يتقن العوم، إلا إذا كانا على علاقة قوية. !- عجيب كان عليه إذن أن يدعني أغرق لأنال شهادة العفة من الألسنة المسعورة؟ - أنت تعرفين سمعته في المدينة . - أعرف جيدا أي نوع من السعر يستشري في البلاد ، وأعرف أ يضا أنني اتجهت إلى مكاني المعتاد على الصخرة في الوادي لأفكر في مصلحتي كما ألححتم ، وعندما نهضت لأنصرف زلت قدمي وفتحت عيني عليه بعد أن استرددت الوعي. - هذا الكلام أصدقه لأنني أمك وأعرفك ، لكنه لن يقنع حماتك ولا.. - حماتي ؟ آه .. تقصدين المرأة التي لم تصبح حماتي بعد. ومن يهتم ؟ هل تظنين يا غالية أن الله خلقنا لنكرس دقائق وساعات عمرنا ، من أجل إقناع الآخرين بتصحيح نظرتهم إلينا كلما انحرفت بفعل سعر النفوس المستتب ؟ ما يشغلني وكان يشغلني عندما اتجهت إلى الصخرة ، هو المنطق الذي قررتم فجأة بفعل العدوى أن تحاصروني به : العمر يجري والمجتمع لا يرحم ومصلحتك أن تفكري بعقلك. فكرت بعقلي كما طلبتم ، فوجدت أن الحياة بلا طعم ولا تساوي شيئا إذ تقوم على منطق مهتز مرعوب يجعل المرء يخاف من الثلاثين في العشرين ،ويخاف من الأربعين في الثلاثين ،ويموت رعبا من الخمسين في الأربعين ،وفي الخمسين يكون قد شرع في حفر قبره. أي اختيار سليم يمكن أن ينتج عن هذا الإرهاب، الذي يعانق ما شاء الله أشكالا وألوانا أخرى من الإرهاب الأصيل منها والدخيل؟ الكل يجري لكي لا يفوته القطار، فتكون النتيجة ألا ينجو من دهسه إلا من رحم ربه . تقولون إنني لا أعرف مصلحتي ، فأتأمل عميقا في حيوات الذين عرفوا مصلحتهم فلا تمنحني سوى الرغبة في الهرب بعيدا .... بعيدا جدا عن كوكب الأرض . ... !لعل وعسى التقته صدفة بشارع المدينة . - يبدو أنني حطمت حياتك . بادرها بالقول. ضحكت للتعبير: !- آه نعم ، أصبتني بلعنتك فتحررت ... مرحى .... سعيدة جدا برؤيتك. استأنفت . اعتذرت عن تصرف عائلتها نحوه ، وقالت إن شراسة الصورة هزمت نبله مع الأسف. تمشيا قليلا جنبا إلى جنب وودعته ظانة أنها ستلتقيه ثانية . عند عودتها إلى البيت ،أقسم والدها بأغلظ الأيمان أنه سينسى أنها ابنته إن كلمته مستقبلا ... لم تعرفه بتلك القسوة من قبل ، اعترضت: ولكن.... - قاطعها :أعرف أن ما حكيته هو ما حدث.. أعرف . ولكن قربه منك لعنة..سمعته ستلطخك ، إن لم تكن قد فعلت . - وهل تصدق كل ما يقال عنه ؟ ألا يبدو لك من غرائب الزمان هذا الاتحاد حول تأكيد مصداقية صورة ، من أناس لا يثق بعضهم مثقال ذرة في بعض عندما يتعلق الأمر بأمورهم الخاصة ؟ يكفي فقط أن تتأمل نظرات عيونهم المرتابة حتى من ظلهم يتبعهم، لترفع يديك إلى السماء طالبا الرحمة من الرحمان الرحيم . - أصدق لا أصدق ليست هذه هي المسألة ، المسألة أن الصورة تكونت وانتهى الأمر. طالت غفوتها ، وأثناءها توقف ذهنها عند كل محطة حياتية : الأمور العظيمة تبدت تافهة لا قيمة لها ، وبعض الخسائر استحالت ربحا كبيرا، وكثير من الأرباح اتضح أنها أفدح الخسائر . ماذا يربح الإنسان حينما يتحاشى إنسانا عزيزا بلا تفسير، خوفا من عدوى صورة ثبت أركانها بشر مسحوقون يدعون أنهم ملائكة ؟ « اللعنة على زمن الانحطاط» تردد مع صديقتها ليلى ، زمن السعر والأقزام والاستعاضة باللسان الجاهل المخرب عن الفعل ، زمن تجد نفسها وأمثالها فيه يستنفذون طاقتهم في مقاومة شراسة ضغط بنية ذهنية مشوهة يكرسها الرجال والنساء معا، بنية يؤثثها أكثر الشياطين استحقاقا للرجم عندما يتعلق الأمر بعلاقة رجل بامرأة . معزة بين رجل وامرأة ، علاقة جميلة لا دخل فيها للعشق والهوى ، إحساس إنسان بإنسان يدين له بحياته أو بنجاح أو بمساعدة دفعت به إلى الأمام، أسطورة تلفظها هذه البنية المهترئة . -» ومن أين سيستمدون معنى هذه العلاقة الإنسانية الجميلة ؟ ‘' تناقشها زبيدة « أ من منطق القبيلة الذي يمنع مصافحة ابن العم ؟ أم من التشوهات الناتجة عن الصراع الشرس بين المنظومتين التقليدية والحداثية بحيث أصبحت عبارة: صباح الخير مع ابتسامة بريئة تؤول على أنها دعوة صريحة ؟ من أين؟ هيا قولي.... ما تتغاضين عنه ، وتعرفين جيدا أنك تتغاضين عنه تاركة الأمر للزمن، هو أنه حتى بعض المعنيين بالاحترام أو الامتنان يؤولون الاحتفاء بهم على أنه وله وشغف بشخصهم العظيم» . صحت على القبلات تتتالى إيذانا بالرحيل .تركوها تستريح استعدادا لنقلها في المساء . نامت من جديد نوم المحتفي بالحياة يثمنها بقوة بعد أن كاد يفقدها. استفاقت فوجدته جالسا على كرسي بجانبها ، بادرها في حركة مسرحية أضحكتها : - وبهذا يتضح أن لا أحد يستطيع أن يفرق بين اثنين جمع بينهما القدر . ثم شرع يحكي لها كيف تعرف عليها وقد تجاوزت سيارتها سيارته بسرعة أخافته ، فقرر أن يتبعها لتطمئن لوجوده معها فتخفف من السرعة ، و حينما اصطدمت بالصخرة كان قريبا جدا منها ، سارع إلى نجدتها قبل أن يساعده قريباها اللذان مرا بفضل صدفة رحيمة من نفس الطريق . وجدت صعوبة في الكلام بسبب ألم الرأس ، تصطاد الكلمات الهاربة بجهد ، أخيرا استطاعت أن تقبض على الضروري منها ، قالت : - أعمق من الشكر ، سعادتي برؤيتك من جديد . تساءل في عتاب مضمر تترجمه نظرات عينيه : - آشنو؟ زعم توحشتيني؟ أبزاف ... !- طبعا توحشتك تأملها لحظة ثم طلب منها أن تعطيه كفها . ساءلته عيناها ، ألح في الطلب : - هات يدك السليمة لنرى بم ستخبرنا كفها. بعد تردد بسطت كفها : - آشنو؟ ما نفعش العلم قلبتيها عرافة ؟ - حتى هي علم للي كيعرف بحقها ، ردي بالك . تظاهر بقراءة خطوط كفها و قال أخيرا : - مقدر لك أن تعيشي طويلا . - على قدر النفع والانتفاع ، علقت ، سبعون سنة تكفي . قال ضاحكا ثم استأنف : ! قنوعة يا - ومقدر لي أن أنجدك ثالثة وأنت في نهاية الستين ... الخطوط لا تبين إن كنت سأنقذك من الغرق مرة أخرى أم من حادثة سير أم من الشيخوخة ذاتها... ضحكا معا قبل أن يطلب منها في حركة مسرحية أن تنصت إليه ، وهو يحملق في خطوط اليد : - آه لو تستطيعين رؤية ما أراه ؟ - وماذا ترى ؟ سألته في فضول بهيج. ! - أرانا معا بعد عملية الإنقاذ الثالثة في مدينتنا وهي بلباس أهل الجنة أمقدر لنا إذن أن نعيش حلم التغيير وقد أصبح حقيقة ؟ !- ياه - نعم . تصوري : حكام المدينة ينصبون وفق نتائج انتخابات نزيهة لا تجند لها الأموال ،التي يسترد ضعف ضعفها من جلود وعظام الخلق، وأي حاكم يتجرأ على شموخ الجبال يعزل بعد أن يتم تجريده من المسروقات ليكون عبرة لمن يليه . والناس يا عزيزتي الناس، لن تصدقي أكيد ما أصبحوا عليه : همة وعلم ووعي بالحقوق والواجبات ، طلقوا الجبن والتواكل و سعر الجهل و الفقر والخوف والإحساس بالدونية وشمروا عن سواعدهم من أجل البناء. - وما ذا فعلوا بألسنتهم ؟ سألت في استغراب غير المصدق . - روضوها على الحق والمحبة ، فاكتسبت ملامحهم صبغة إنسانية . ! - عجيب ما تخبرني به، عجيب - هناك ما هو أعجب ،لم يعد صدى صلوات الاستسقاء يتردد في الآفاق : السماء في وفاق تام مع الأرض ، راضية تمام الرضى عن قوم يسعون بقلوب تستنير بضياء العقل. - عجيب كررت .... النهاية المثلى لكل مأساة . - انتظري واصل ، انتظري ... هناك المزيد : أراك وأنت تتجولين إلى جانبي في المدينة تمسكين بيدك شيئا يشبه القلم .... لحظة ... ...بل هو القلم بعينه وبه تنقشين على جبالها ما لا تسعفني خطوط الكف على تبينه.... تأمل في كفها مليا وهو يقطب جبينه ثم تساءل : - ترى ماذا تكتبين ؟ - ألا تستطيع التكهن فعلا أيها العراف الاستثنائي ؟ - أنت قولي، انتهت مهمتي الآن ولن تسعفني خطوط اليد مهما حاولت . سحبت كفها من بين يديه . ابتسمت له وهي تعده : - سأقول لك ... أكيد سأقول .... دعني فقط أسترد عافيتي بعيدا عن هذه الغرفة الباردة .... لكن توقع مني لغة مختلفة ، فأنا لا أتقن لغة العرافة .