الائتلاف يرسم محمد الصابر بقصائده وطنا من كلمات، وطنا حيث تكون الإقامة ممكنة تحت ظلالها تفيء أرواح لا تكف تغادر نحو غابة الكلام الأساسي هربا من هجير يحرق ومن عالم ضارب في السقوط. كأنها الكلمات أرواح تتشابك ترتجف تقترف الحياة ولعا هربا من كينونة تموت تلتقط روحها القصيدة وهي تركض كيما تقتفي آثار آلهة احترفت الرحيل. من هنا تصبح القصيدة استنطاقا للمقدس حين يكون همها السفر في ظلمة لا تكف تنشر سلطانها وإضاءة عمى ضارب في عشق عتمة بالغة الحلكة. هل تسمي قصيدته المقدس حين ترحل وراء هذا اللامسمى وتقول هذا الذي يعسر قوله فتضيء بسفرها الصعب العتمة حيث يتخفى ، ينحجب النشيد فتجدف كيما تمنح للشمس أن تنبلج أولى أشعتها فتشعل نارا لا مرئية لا تعرف التحلل ولا الفساد. نار القول المنحجب المحجوب قلب عتمته المضيئة. فتضيء القصيدة ، وتشير لكن وهي حريصة على الإخفاء فتحرص في العتمة على ما يمكنه أن يضيء فتكون المضيئة المعتمة ، المعتمة حتى في الإضاءة. تنمحي قصيدة الصابر وهي تسمي المقدس فتصبح صمتا يستدعي كلام الإله الذي يتكلم فيه ومن خلاله، الإلهي بما هو الصعب والعسير قوله المفتقر إلى القول. تقول القصيدة عبر صمت الإله الذي تحتجزه اللغة ، ما يبزغ محافظا على خفائه. إن قصيدة الصابر تبقى خفية عسيرة على القبض وفي تخفيها تقبض على أثر الآلهة المندثرين. إنها الخفية في الحضور العميق للإلهي. حاضرة ومرئية بهذا الغياب والعتمة للإلهي. حارقة بحميميتها الممزقة وبجوهرها الخاص . كأن قصيدته تعلن بدءا ما . من خلالها تنبجس قوى كأنها الأولى حيث كل شيء يشع. وكأن في اقتفائها لخطو الآلهة الآفلين وسعيها نحو قول الصعب قوله تحفر نحو ما هو أصلي وبدئي ، فتكتب الغياب والكلام الذي يقول هذا الغياب ، يقول الإنسان ، يقول السر ، والنشوة التي هي ما تبقى له قوله. تمنحنا قصيدة الصابر الإحساس بكبرياء تمرس يستمد قوته من عزلة سيدة ومن ثقافة الاختلافات حيث عزلة « أنا » تكتشف العدم الذي يبنيها ، تجربة قلق يفيض ووعي لذات مفصولة ، غائبة عن أن تكون. تستمد جوهرها من غيابها ، فيصبح العدم مصدر قوة وطاقة لها ، يقول في قصيدة المشي على الضفة الوحشية « الصقر » : « ... وكان أن مرت مسافات من فراغ عبرتها وحيدا منهوبا ملسوعا ومنهكا ، عبرتها جنبا لجنب مع الكتب القديمة ، مصغيا إلى عظامي الخاوية من الداخل ، إلى الريح التي تعبر كواتها المظلمة ، باحثا عن صوتي المكتوم في مجلدات الفجر وفي طيات الليل ، وفي جلود الماعز المجففة على نار الضجر..». هذا الذهاب البعيد نحو العسير تسميته ، هذا الذهاب الذي يفرض دحرجة كل وهم ، كل قيد يمكنه أن يثقل الخطو نحو الجهول ، ذهاب يصاحبه فراغ أكبر وعزلة قصوى وإنصات لا حدود له لاستحقاق حدة وقوة الإضاءة، وحدها روح الشاعر المحتدمة تمتلك القوة في احتراقها ، في علوها للقبض على جمر القول فتأتي القصيدة لتقول ذكرى هذا الاحتدام الاحتراق التمزق الذي يخلقه لقاء المجهول ، يقول الصابر في قصيدة « النعش» : « ...... نداء تعلوه قروح تمزقات أعراس ووجبات تليق بالوجهاء نداء أتوسل إليه: لا تدن مني كالبرق لا تزعجني بنظراتك المثيرة للشفقة لا تمسك بالضوء لا تتشبث بالشعاع خذ متاعك ، رسوماتك ، زخارفك خذ الخطوط الأفقية ، خذ الفخار خذ حركة الأشكال ، خذ الدهشة وباختصار خذ التجريد الخالص سأمضي إلى حيث الأرض مشغولة بإعادة إعمار المشاعر ...» تموت الروح كثيرا لتقول ذلك الذهاب الصعب والصامت لملاقاة المجهول وتحترق اللغة كثيرا كي تلتقط من جمر الصعوبة الكلمات التي تقول الجوهري والأساسي في الوجود ، تقول الفريد ، تقول الحميمية والاحتدام السكرة الخالصة والتجسيد العميق لهذا العناق. يقول الصابر في قصيدة « واصنع الفلك بأعيننا»: « هنا لا وليمة لي ، لا خليل وما من شتاء تزين خلوتي ، حلمي بلباس المجانين يرقد في الشمس يحلم بي ، حلم شعره كالقصائد باك ومسترسل كالدلب لا يستطيع الحياة على نمط الشعراء الذين تخلوا عن حقهم في انتقاد الغموض. كما لو علي اقتحام الوجيعة كي أجلب الريح والوحش أرعاهما وأربي صغارهما وأدق الطبول لينهض لي شجر في حفيف استعاراته مسكن لجنوني كما لو علي الإقامة في الممكن المستحيل غيمة تتوزع مرثيتين لأحمي نشيدي من المطلق وأفتش لي في جذور الظلال الخفيضة عن عشبة للذبول..." قصيدة الصابر وقلة من الشعراء أمثاله تأتي لتجيب عن سؤال هلدرلين ، لماذا الشعراء في زمن الشدة ؟ تأتي لتقول الصمت ، لتقول الغياب ، لمنح الصعوبة والعسر لسانا يقولهما ، تقول جحيم الروح وعزلتها الكبرى في زمن الشدة ، حين تنهار القيم ، حين تسود الرداءة ، حين تجار الوقت يأتون على الأخضر واليابس ويفرغون الإنسان من إنسانيته ومن أساطيره. تؤسس قصيدة الصابر لنفسها وطنا من كلمات يكون الحلم فيه ممكنا ، وطنا تعلو سماؤه زرقاء ، تلوح فيه السكينة المنشودة بشراعها تراود المجهول عن نفسه صحبة صمت سيد. تصبح المخاطرة إضاءة ويصبح زمن الشدة حظا سعيدا لأن فيه وحده يمكن ولادة النشيد.