معروف أن الميادين والظواهر التي تعتمد المقارنة في دراستها تكاد لا تحصى. في هذه المرحلة من التحليل، سوف أركز على مقارنة غالبا ما تكون مبطنة في صورتي الحداثي والأصلي اللتين يصبغهما الحداثيون والأصوليون عن أنفسهم. فكل طرف يحاول تجريد نفسه من أوصاف الطرف الآخ المقارنة التجريدية فالحداثي يزعم التجرد الفاصل بينه وبين الدعوي الأصولي؛ وهذا الأخير لا تقوم ذاته إلا بعكس ذلك، أي بتجريد ماهيته من أوصاف الحداثي. هذه المقارنة التجريدية القوية تنفي الحداثية عن الدعوي الأصولي؛ وبالطريقة نفسها، معكوسة، تنفي صفة «الأصل» عن الحداثي. هاتان العمليتان تفسران ظاهرة غريبة تتمثل، مثلا في إقصاء الحداثيين من الأصول مع أنهم في غالبيتهم متشبثين بها وغير منسلخين عن الإسلام، بل العكس هو الصحيح. فما هو السر إذن في هذا اللغز؟ أي اختفاء «الأصل» وصفة «الإسلام» عن الحداثيين مع أنهم في غالبيتهم الساحقة لا يقلون إسلاما عن الدعويين؟ الجواب عن السؤال ليس بالعسير إن نحن اقتصرنا على وجهة نظر الدعويين. ذلك، لأنهم في الحقيقة يحاولون منع الحداثيين من الانتماء إلى دارهم وثقافتهم، وصحيح إيمانهم، بالتشكيك في دينهم. وبهذا يصورونهم وكأنهم ذاتا خارجية عن الذات المغربية (والمغاربية والإسلامية بوجه عام). ويحاولون الاستيلاء على تلك الذات بتصنيفاتها وقوتها الموروثة عن التجديد الكولونيالي وما بعده. لكن، ماذا عن موقف الحداثيين وقبولهم لهذا التصنيف الدعوي ومنطق الإقصاء الذي يتضمنه في حقهم؟
أسباب المفارقة هناك عوامل عدة قد تساعد على تفسير هذه المفارقة. العامل الأول تاريخي: فغداة التحرر من الاستعمار السياسي احتل التحديث الصدارة، وفي جميع المجالات، بمبرر سد الثغرة بين الدول النامية والدول «المتقدمة». وأسندت المهام الأساس إلى النخب التي كانت في تلك المرحلة مؤهلة في ميدان تقنيات الإنتاج والتسيير الحديثة. كانت تلك النخب نفسها تنظر إلى الأغلبية الشعبية وكأنها آلة مسيرة، وجب تغيير أحوالها وحثها على الانخراط في برامج التنمية. ومعروف أن تحصيل العلوم الجديدة والتكنولوجيا كان ولايزال إلى حد ما ، مرتبطا بتعلم اللغة الأجنبية والتكوين في الجامعات الغربية... العامل الثاني مرتبط بالأول: اختزلت الحداثة في ذلك التأهيل بمعزل عن الميدان الديني والثقافي. وبسبب عزل التكوين العلمي والتقني عن التكوين الديني والثقافي انحصر الدين في الفرائض والشعائر والثقافة وفي اللغات المتداولة يوميا، وفي الارتباط بتلك المكونات على مستوى الوجدان، مع هشاشة تامة على مستوى التفكير. والأدهى في الأمر أن ذلك المكون أصبح في غاية الاضطراب فيما يخص تعامل الحداثيين معه: ذلك لأنه احتل مكانة شبه المتجاوز، وفي الوقت نفسه مكانة الرصيد الذي لا استغناء عنه ولا حياة بدونه. العامل الثالث والأخير يكرس نتائج العاملين السابقين: لقد رهن الحداثيون مستقبل حياتهم وقيمهم بأيدي الناشطين في ميادين الدين والشريعة والقاعدة والعادة. وهي الميادين التي تؤطر الحياة الاجتماعية، وبذلك تصرف الحداثيون وكأن تلك الحياة تنحصر في العلم والتكنولوجيا. فوضعوا طاقاتهم في خدمة النظام السائد، عاقدين الآمال عليه في ضمان مكانتهم وحفظها من مزاحمات النشطاء في ميدان الدين والقيم. هشاشة هذا الموقف قد أسفرت عن نتيجة خطيرة ومؤثرة تتمثل في كون الحداثيين تنازلوا لصالح الدعويين عن النظر في الرصيد الديني، والشرعي والأخلاقي، الذي يرجعون إليه في تنظيم حياتهم. وعلى سبيل المثال، فإن اعتزموا الزواج، فلا سبيل للاقتران بدون الرجوع إلى ذلك الرصيد، و كذلك إن اضطروا للطلاق، وكذلك فيما يتعلق بالميراث، والأملاك، والأفراح، والجنائز، والتقارب، والتكافل،...إلخ. وقد أشرت سابقا إلى المسكن، والمأكل، والملبس والعلاقات الإنسانية، وقواعد الحلال والحرام. بهذا يكون الحداثيون قد ساهموا في إضعاف موقفهم بدل الدفاع عنه بحرية، وباستعداداتهم العلمية والعقلية. والسر في هذا التذبذب، حسب رأيي، يكمن في عملية المقاربة التجريدية التي اعتمدها الحداثيون في تصور ماهيتهم حيث حصروها في تأهيلاتهم العلمية والتكنولوجية. بقي لنا أن نتتبع عملية التجريد العكسي عند الدعويين. فالمقارنة التجريدية عندهم ما هي إلا انعكاس لعملية نفي «الإسلام» على الحداثيين والزج بهم في خانة النقيض. في هذه الحالة، يقارن الدعوي نفسه مع الحداثي أمام الرأي العام، ويحاول نزع صفات هذا الأخير عن نفسه. وبتعبير آخر، فإن الدعوي يتجرد من تلك الصفات، ويحتل شق الأصالة المقابل لشق الحداثة كما هو موروث ومتعارف عليه في الثنائيات المعرفية المحدثة. في هذه العملية، يختفي المعطى الأساس، وهو كون تلك الأصالة هي نفسها جديدة العهد ومحدثة. فإن نحن رجعنا إلى ما يستمد من الأصول، في الحياة العملية، بغض النظر عن تبني الأصالة كطرح سياسي منافس لطرح الحداثة، فإننا نجد أن الدعوي لا يختلف كثيرا عن الحداثي في القيام بالفرائض والشعائر. فهذا أصل مشترك لا فرق فيه بين الجانبين إلا ما سكن الضمائر، وما سكن الضمائر لا سبيل إلى معرفته. والحاصل أن عملية التجريد تتنكر لذلك الأصل المشترك الساري به العمل عند الحداثيين كما عند الدعويين. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما هي وظيفة هذا التنكر؟ والجواب هنا أيضا هو الإقصاء من الأصول، واستئصال الحداثي من مواقع المشروعية الاجتماعية والسياسية، واحتكار تلك المشروعية التي تمهد للاستيلاء على قوة الرصيد العلمي والتكنولوجي الجديد، المتراكم منذ عهد الاستعمار إلى يومنا هذا: أي الاستيلاء على وسائل الحكم.
الفارق الطبقي من هذا المنطلق يجب أن نتعدى مجال الفرائض والعبادات والشعائر، للدخول في حيز المؤسسات الاجتماعية ومعايير نظام الحياة وأخلاقيات ذلك النظام، وفي حيز المؤسسات السياسية. ففي هذا الباب، يظهر أن الفارق في نظام الحياة هو بالأساس فارق طبقي. فالشرائح الحداثية المحظوظة تعيش على نمط جديد ومستنبط مسكون بهاجس التأليف بين الأصول من جهة، والتحول من جهة أخرى. لهذا، فإنكار التأصل والأصل في حقها من طرف الدعويين ربما له خلفيات أخرى، من بينها إعادة ترتيب الحظوظ الاقتصادية وإلغاء الامتيازات قصد تعويضها بالحقوق المبررة. من تلك الحقوق، الحق في ولوج مدارس التكوين العلمي والتكنولوجي المطلوب في الميادين التي تحتاج إلى التقنيات العالية. والجهد في التأليف بين الأصول والتحول ظاهرة عامة تطبع حياة الأصولي والحداثي معا، وحياة الشعب بكل شرائحه. والفارق يكون في الإمكانات والكيفيات. كذلك، ليس هناك فارق في ما هو حيوي: أي التدافع من أجل سلطة القرار في الميدان السياسي قصد التمكن من قوة العلوم والتكنولوجيا، ومن قوة التسيير في ميدان المال والأعمال. لهذا، فتجرد الحداثي من الدعوي، وتجرد الدعوي من الحداثي، إنما يحجبان التنافس على مراكز القرار، وعلى استعمال القوة العلمية والتكنولوجية وعائداتها. وإذا تأملنا في حياة الطبقات المتوسطة، فلا شك أننا سندرك أنها هي أيضا تعيش على مجهود التأليف المشترك، وذلك بالرغم من الاختلافات في مكوناتها. وهذا مجهود مكلف جدا؛ لذلك، فإنه ربما يفسر حدة المنافسات والتساؤلات بين الأفراد والجماعات. ويفسر كذلك الصراع المرير لكسب تقدير الطبقات الشعبية ومساندتها. لهذا يبلغ التجرد عن الحداثة درجة قصوى عند الطرف الدعوي لتلك الطبقات. في هذه الظروف يكون من الطبيعي الالتزام بمؤشرات تحيل على «الأصل» بعد إقصاء الحداثيين منه، حيث تمثل تلك المؤشرات عند الدعويين دليلا على الحياة طبق ذلك «الأصل» كما يؤولونه، وتظهر مثلا في تشكيل الهندام، وعلامات التدين والورع والتقوى. وكثيرة هي المؤشرات التي تحيل على التجرد من الحداثة، ونفي صفاتها عن الإنسان الدعوي وإحلاله محل الأصالة. والحال أن هذه المؤشرات هي أيضا جديدة ومحدثة بفعل الاستنباط والتأليف الذي تفرضه طبيعة التحولات منذ ما يزيد عن قرنين. تظهر تلك المؤشرات في طابعها المحدث حين نتناول درسها من منظور أشكال الحياة الكلاسيكية، سواء تعلق الأمر بالمجتمع المغربي أو غيره، والأمثلة لا تحصى. نرى مثلا أن ما يسمى بالزي الإسلامي، عند الرجال والنساء، يختلف عن جلباب الرجال وسترة النساء كما كانا يوجدان في الساحة قبل تراجعهما أمام الأزياء الأوروبية. والمهم هو أنه لا أحد آنذاك كان يشك في إسلامية تلك الأزياء العتيقة قبل مجيء الأزياء التي انتشرت مع انتشار التنظيمات الدعوية. والشيء نفسه ينطبق على الحلق والالتحاء وغطاء الرأس بالنسبة إلى الرجال والنساء. لذلك، فإن هذه الأزياء المسماة «إسلامية» إنما هي محدثة؛ يجب تفسيرها بردها إلى التحول العميق الذي اخترق الحياة والمؤسسات والعادات. وأمواج التحول هذه لم تستثن شيئا يذكر، من المسكن إلى الشارع ومرافقه، من التعليم العتيق إلى التعليم الجديد، من نظم التسوق والتجارة إلى استثمار الأموال والممتلكات، من عادات الأفراح إلى طقوس الدفن... خلاصة القول إن المسلمين جميعا ابتكروا أنماطا جديدة في الحياة وذلك في تفاعل مستمر بين القديم والجديد؛ وأن الأشكال المتخذة من طرف الدعويين هي أيضا أشكال مبتكرة. وفرزها عن الأشكال الغربية ممكن، ولكنه لا يشمل كل شيء. فكيف نصنف مثلا شكل القميص و»الكوستيم» من دون ربطة العنق؟ وكيف نفسر أنواع خاصة للالتحاء وتشكيل شعر الرأس المتعددة حسب الموضات الجاري بها العمل؟ ... مهما يكن، ليس المهم هو التصنيف، ولكن ما يهمنا هو أن هذا الإبداع الأخير حاله مثل التشكيلات الدعوية الأخرى سواء خصت الرجال أو النساء: إنها تشكيلات رهينة بظرفية العصر شأنها شأن الاختيارات المنافسة. وباختصار، فإن الزعامات الحالية، الدعوية وغير الدعوية على حد سواء، تحاول باستمرار إثبات خصوصياتها وأهليتها لقيادة المجتمع، وذلك عن طريق مقارنة تصور الطرف المنافس في صورة النقيض المطلق. بذلك تتنكر لما هو مشترك، أي لذلك المشترك الضخم المتجسد في ابتكار أنماط جديدة للحياة بفعل التحول. في ظل هذا الإنكار للمشترك تتحرك الجبهتان، كل طرف حسب استراتيجيته، سواء من أجل استغلال القوة الموروثة، بقيادة النظام القائم، أو الاستيلاء على تلك القوة تدريجيا بوسيلة ولوج دوالب النظام، أو بالاستعداد لتشكيل نظام جديد في حالة هبوب رياح ثورية ملائمة.
المقارنة وإنكار المشترك إنكار المشترك هذا يتم برفع الحداثة عن الدعويين ورفع الأصالة عن الحداثيين. هذه العملية تحكمها سياسة الخطاب وأهدافها كما بينت، والتي تخفي العمق الديني والثقافي في حياة الحداثيين وعمق التحول في حياة الدعويين. وفي الحالتين تلعب المقارنة مع الآخر دورا خطيرا، سواء بكيفية صريحة أو ضمنية. فالحداثي يتحول إلى استعارة تحيل على الآخر المنبوذ، أي الغرب؛ والدعوي يتحول إلى استعارة، تحيل على الفكر المتحجر والتراث الجامد. والمنضمون إلى هذا الصف أو ذاك يتبادلون الاتهامات حول أسباب تخلف «الأمة»، أو»الشعب» أو «الوطن»، ويرسمون صورا معاكسة للماضي والحاضر والمستقبل. في الإنتاج المعرفي لصورة الماضي والحاضر والمستقبل تظهر عملية المقارنة بالماضي من جهة، وبوضعية الآخر «الغربي» من جهة أخرى. وظاهر أن المقارنة الضمنية التي يقوم بها الحداثي والدعوي، كل واحد منهما مع «نقيضه»، هذه المقارنة ما هي إلا الوجه الآخر للمقارنة مع الكيان الغربي ككل. والمقارنتان تنفيان التداخل والتلاقح التاريخي والحاضر بين الكيانين الإسلامي والغربي وبين من ينتسب إلى الحداثية ومن ينتسب إلى الأصولية في صفوف المسلمين. فالحداثي مثلا، ينظر إلى الماضي وكأن نظمه وقيمه انقرضت بسبب المواجهة مع القوى الخارجية، لا في ميدان العلم والتكنولوجيا فحسب، ولكن أيضا في ميادين المؤسسات واستيعاب طاقات الإنسان الخلاقة. هذا الطرح تسكنه مقارنة مع الآخر ومع الماضي في آن واحد. وفي المبدإ، فإن المقارنة لا محيد عنها، خاصة المقارنة مع المسار الغربي؛ ذلك لأسباب قاهرة منها أن الغزو الإمبريالي حوَّل التشكيلة بأكملها؛ ومنها أن التشكيلة الجديدة الناتجة عن التحول هي بالأساس تشكيلة مركّبة، أصبح الغرب فيها من صميم الكيان، وليس دخيلا كما يزعم البعض. وهذه التشكيلة الجديدة، قد تشمل جميع أطياف المجتمع من دعويين وغير دعويين. إن قيم الماضي ونظمه لم تنقرض، وكذلك، فإنها لم تنصهر في كيان أوروبي. فإن نحن انتبهنا إلى التركيب العملي الحاصل في النظم والقيم وأنماط الحياة، وقارننا الحاضر في كياننا بالحاضر في الكيان الغربي، فإننا سوف نقف لا محالة على ذلك الاستنباط المشار إليه سابقا، مع التمسك بالعقيدة والفرائض والشعائر الإسلامية. ومع تحقيق أقساط متفاوتة في التحرر واكتساب حق القرار في اتجاهاتنا الفردية. وآليات الاستنباط هاته تختلف حسب الطبقات؛ والمهم هو أنه ليس هناك شرائح لا إسلامية. هذا ثابت، سواء بالنظر إلى الفرائض والشعائر، أو بالنظر إلى التعلق بالأخلاق والثقافة الإسلامية. وحتى الانسلاخ التام عن العقيدة، فإنه لا يعني بالضرورة الانسلاخ عن الثقافة الإسلامية بوجه عام وآدابياتها.
الرصيد القانوني والقيمي وعلى أي، فإن المقارنة كثيرا ما أهملت الراهن المعيش، وفي هذا الإهمال يتجلى إنكار المشترك. وبما أن لهذا المشترك حضور ضخم في حياتنا العملية وضمان مصالحنا العامة، فإني أرى من الضروري تجاوز سياسة الإنكار التي طوقته إلى حد الآن. إن إنتاج المعرفة العملية والمواقف الحاسمة سوف لا تتحقق إلا بالاعتراف بالتشكيلة المركّبة هاته، واعتمادها كأساس لإعادة النظر في القيم وفي الأحكام الشرعية، وذلك من موقع العملي والراهن المتحرر من ثنائيات الحداثة والتقليد، والدخيل والأصيل. والوسيلة تكون بمقارنة العملي بين الماضي والحاضر، وبين واقعنا وواقع الآخرين. من هذا المنظور يتعين على المقارنة أن تكون بين تشكيلات الماضي وظرفياتها وكيف استجابت لتلك الظرفيات من جهة، وبين التشكيلات المستنبطة الجديدة وتكوين الرصيد القانوني والقيمي الجديد من منظور الاستجابة لضرورات جديدة من جهة أخرى. في باب المقارنة مع الآخر، حصل تراكم معرفي ومنهجي حاسم بفضل مجهود الفكر التحديثي القومي والليبرالي. وقد عرف نهج المقارنة تطورا كبيرا عند رواد ذلك المجهود. زيادة على أن هذه المقارنة تعدت أوروبا إلى النظر في مسارات أخرى، مثل مسار اليابان وغيره. ولربما أن هذه الدراسات المقارنة سوف تتطور أكثر بالخوض في دراسة تجارب أخرى مثل التجربة الهندية، والصينية ...إلخ. ولقد أظهرت بعض المحاولات المكانة الفريدة للشريعة في كياننا. لكن المقارنة في هذا المجال، لم تتوسع ولازالت سجينة آفاق محدودة. زد على ذلك، أن هذا الفكر ركز على البنيات العقلية على حساب الحياة العملية للمنظومة الشرعية وإعادة النظر في تقنينها لأوجه العلاقات الاجتماعية الراهنة. لقد أهمل الفكر القومي التحديثي نسبيا التشكيلات الفاعلة في المجتمع وركز على التمثلات النظرية. كما أنه لم يستخلص العبرة من وضعية الأحكام الشرعية التي أصبحت اليوم متجاوزة، كأحكام الاسترقاق وأحكام الذمة وعدد من أحكام الحدود في مجتمعات إسلامية غير قليلة، ثم كيف يتعامل المسلمون اليوم، عمليا مع أحكام أخرى كأحكام الإرث وغيرها. لقد وضع الفكر التحديثي الليبرالي والقومي بعض الأسس الوجيهة لإعادة النظر في المسار، لكنه تجنب الخوض في مشكل إعادة النظر في المنظومة الشرعية، وإصلاح أحكامها. على خلاف الفكر التحديثي القومي والليبرالي، فإنه مع بعض الاستثناءات، ليس هناك في الفكر الدعوي جهدا ولا رصيدا يذكران في مناهج المقارنة، وفي تحليل سيرورة الكيان الإسلامي، ناهيك عن الكيانات الأخرى. فالمقارنة الدعوية مع الغرب تتميز بضعف المنطق وسطحية المعرفة. وقد تأتي غالبا في سياق مبسط يشوبه الغضب. وإذ يكون الغضب طبيعيا نظرا إلى التجربة الاستعمارية والإمبريالية، فإن ذلك لا يبرر الاكتفاء بالنظرات التبسيطية. ومن خصائص المقارنة عند أغلبية الدعويين أنها تقارن بالأساس أحداث الحاضر بأحكام الماضي، خاصة الأحكام الشرعية، وكأن هذه الأخيرة باتت جامدة منذ تدوينها.
القياس الاختزالي فتبقى المقارنة محشورة في آلية القياس الاختزالي مع الماضي، حيث يقارن الحاضر المرفوض بالماضي المنزه عن أي نقد أو تحليل. هذا الماضي المنزه يتمثل عند الكثير، في «دولة الخلافة»، أو يحصر في شخصيات معدودة عرفت باستقامتها. والمقارنات غالبا ما تتغافل عن الصراعات حول كرسي الحكم والسيادة. وما يعطيها صبغة من الصواب ولو خفيفة في نظري ينحصر في كون تلك الأزمنة الماضية كانت أزمنة قوة في تاريخ المسلمين، خلاف وضعية الضعف الحالية. فالمعيار يكون دوما هو ميزان القوى مع أوروبا، وليس تحليل المؤسسات، وبالخصوص مؤسسات العدل، والتكافل والكرامة والحرية، والشورى، وتسيير المال العام...إلخ. أما في ميدان الأحكام الشرعية، فإن المقارنة تنحصر في القياس. والقياس بدوره ينحصر في تشبيه نازلة بحكم سابق. كان العلماء المحنكين يبحثون في الظرفيات، وفي الشادة والفاذة خلال تطبيقهم لمسطرة القياس. لكن فقهاء الدعويين اليوم، خاصة أولائك المهووسين بالظهور لا يكلفون أنفسهم ضيق الجهد. ترى، مثلا، فقيها معروفا تعرض للانتقاد من طرف المغاربة لكونه استفاد من اقتصاد الريع، وبالضبط في ميدان منح رخص النقل. فدافع ذلك الفقيه عن امتيازه استنادا إلى مسطرة مبسطة للقياس. صرح بأن عاهل البلاد هو الذي أنعم عليه برخصته. وفي نظره، فإن هذا الإنعام مشروع، بدليل أن أرملات الرسول كن يستفدن من منح الخلفاء لسد حاجياتهن. وظاهر للعيان أن منطق هذا القياس ضعيف جدا. فنساء النبي لم يشتغلن خارج بيوتهن، وأما فقيهنا فله أشغال ومعاملات، وكان برلمانيا براتب خلال مزاولته لتلك المهمة، والغالب أنه يتوصل بمعاش بعد انتهاء مهمته. فكيف يمكنه أن يقيس حالته، وفي الظروف الراهنة، مع حالة أرامل الرسول، وظروف عيشهن الغابرة. أليس هناك تلاعب بفن القياس والمقارنة؟ واضح أن ذلك القياس لا يرقى إلى قياس العلماء ذوي التكوين الصحيح، الذين يعتمدون على معايير المنطق السليم والتحري الشديد قصد الترفع عن الأهواء والمصالح الشخصية. والمهول حقا هو أن الأمثلة من هذا القبيل تكاد لا تحصى، منها الإفتاء بالجماع مع الزوجة التي قضت، والإفتاء بالقتل أو التصليب في حق صحفي معروف صرح بأنه لا يتدخل في حريات أمه وأخته فيما يخص تصرفاتهن الجنسية. كان بالإمكان، في هذه النازلة مثلا، التحلي بشيء من التحري في فهم كلام الرجل أولا. ذلك لأن جوهر رأيه يتلخص في أن له الثقة بأن قريباته لهن القدرة الكاملة على التصرف في أمورهن، بما في ذلك أمورهن الحميمية. لكن الملفت للنظر هو ما حصل من تسرع ممارسي القياس الجدد وتصنيف كلامه في خانة حكم الديوت. والآراء والفتاوى المشابهة والمنشورة تمطر اليوم باستمرار. فهل أتاك حديث زواج ال «بوي فراند»، ورضاعة الزملاء من الزميلات في الإدارات، بمبرر قطع طريق الزنا؟!!...
الخروج من الحلقات المفرغة إن تحليل الثنائيات يفرض الخروج منها لأنها تتضمن الأجوبة قبل طرح الأسئلة. والأسئلة التي تبقى سجينة الثنائيات تكون في الغالب شكلية لا غير. أما الأجوبة والحلول التي تأتي في هذه الإطار، فإنها ليست إلا مسلكا لإملاء أحكام مسبقة تبعا للميولات الشخصية والأهداف السياسية. التحليل نفسه يفرض الخروج من القياس المجازف به والمقارنات التبسيطية. بذلك يتم التوجه نحو الأفق العملي للإصلاح. وتكون البداية بالاعتراف بالرصيد العملي المشترك دون التمادي في الإقصاء المتبادل. هذا المشترك يتلخص في ما سميته الاستنباطات العملية، الجارية في ميدان المعاملات. ولأن أبناء وبنات الشعب كلهم يعيشون معضلات التحول القوي الذي لا يرحم، فإن تكييف موروثاتهم مع الظروف الجديدة تحيل على منطق تلك الظرفية. المنهج السليم، من هذا المنظور، لا ينبني على مقارنة الظرفيات، ولكن على منطق الظرفيات المقارن. فيكون منطق الظرفيات المقارن هو المفهوم الأساس بالنسبة إلى مسطرتي القياس والمقارنة؛ ومن حيث وظيفته الحيوية في إنتاج المعرفة، فإنه لا يمكن الاستغناء عنه في وضع أسس الإصلاح، الذي سوف لا يكتمل إلا بإصلاح المنظومة الشرعية. إن الأفق العملي، حسب رأيي، يتجسد في ذلك المشترك الضخم. والخطوة الأولى هي اللاعتراف بوجود ذلك المشترك. وبهذا نكسب وضوحا جديدا في كيفيات التعامل معه، ونتقدم في حسم الحاصل والآتي بوسيلة التفسير والتأويل ومجهود التوافق. إن مكونات المشترك المتعددة تفرض علينا مجهود التأويل بمراعاة ثلاثة عوامل: الأول يتحدد في مستجدات البيئة الجديدة والمتجددة دوما، والثاني في التراكم المتنامي للحلول العملية الناتجة عن أفعال الفاعلين سواء اعتبروا أنفسهم حداثيين أو أصوليين. والعامل الثالث هو المنهج. ولهذا الأخير الدور الأخطر، لأن المنهج الناجع في الحكم على الحلول العملية ليس هو قياس نازلة ما بحكم سابق في الشريعة، مثلا ولكن القياس بين الحكم السابق وظرفيته من جهة، والحل الراهن وظرفيته من جهة أخرى. وبإيجاز شديد، فإن المنهج يجب أن يستند أولا وقبل كل شيء على ما يمليه منطق الظرفيات المقارن. وإن نحن سلمنا بهذا، فإن الحلول العملية من طرف الدعويين والحداثيين معا تبقى مجرد اختيارات تحتاج إلى التبرير استنادا إلى منطق الظرفيات المقارن. وإن نحن اخترنا هذا المعيار ورجحناه على القياس الضعيف الذي يقارن حكما سابقا بنازلة لاحقة (وعلى المقارنات التبسطية بوجه عام)، فإن الأفق الذي يتبادر حينذاك إلى الذهن هو أفق المصلحة بمعناها التوافقي. وبما أن تلك المقارنات والتوافقات تنكب على الواقع المعيش، فإن المشترك الذي تتناوله على الدوام يكون هو الواقع الذي تحيل عليه الأفعال كحلول عملية تعيد تركيب التشكيلات. في هذا المضمار، ليس هناك إشكال في المعنى التقني للأصول والفروع والرجوع إليهما. فالمنهج يحتم الرجوع إلى الأصول والتراكمات الشرعية. لكن تلك الأصول لا تحدد منطق الظرفيات المقارن كما حاولت توضيحه.
مكانة الأصول الشرعية بهذا ترتسم مكانة الأصول الشرعية. فبقدر ما يتحتم الرجوع إليها لدراسة الأحكام وفهم آلياتها ومقاصدها، بقدر ما يتحتم التعمق في علوم وفنون أخرى إن نحن رمنا البحث في الظرفيات ومناهج جرد منطقها في كل ظرف ظرف. والعلوم التي تساهم في ذلك عدة. في مقدمتها التاريخ والحفريات، والبيولوجية، والاقتصاد، والأنثروبولوجية والسوسيولوجية، والجغرافية والديمغرافية والقانونية وما إلى ذلك، ناهيك عن المنطق والرياضيات والعلوم الطبيعية والتجارب الفنية. فتلك هي العلوم والفنون التي من شأنها أن تعين على توضيح منطق أي ظرفية. لكن تحديد منطق الظرفية لا يتوقف على علم العلماء فحسب بأصنافه الدينية والدنيوية ، بل يستمد ذلك المجهود مادته أيضا من التجربة في الحياة: تجربة العلماء، وتجربة الناس عامة؛ والتجربة تنطوي أيضا على مكاسب التعلم المدرسي وغير المدرسي (ذلك لأنه في كل حرفة أو شغل تعليم وتعلم). وبما أن الهدف هو إنتاج حلول عملية تخدم المصلحة العامة، فإن المنهج لا يستقيم إلا على أساسين. الأول هو مبدأ المساواة في إبداء الآراء واحترامها، والثاني هو مبدأ الحرية في البحث والتصريح بالرأي بلا وصاية ولا إكراه. في هذا الباب، لابد من الإشارة إلى أن التيارات الدعوية، باستثناء بعض الحالات، غالبا ما تهمش الحرية لصالح العدل والمساواة والكرامة، وكأن العدل والكرامة والمساواة لا يقترنون عضويا بالحق في الحرية! والراجح أن لا إصلاح يقوم إلا باعتماد الحرية كأساس لحق المعرفة، والرأي والمعتقد. فمنطق الظرفية المقارن، وحيوية مساهمته في الحكم المعرفي والإصلاح يحتمان مشاركة جميع العلوم والفنون في بلورة منطق أية ظرفية، ويتحتم إغناؤه بالتجارب الحية من دون إقصاء. ولا وصاية لعلماء الدين ولا للدعويين ولا لطبقات معينة من المتدينين المواظبين على باقي أفراد الشعب. فرأي العلماء في تسيير المؤسسات لا استغناء عنه. ولكن منطق الظرفيات المقارن يكون في متناول الجميع كلما وجب تحديده بوضوح. لذلك يكون للجميع حق الرأي في ما يحتمله توضيح ذلك المنطق، وتحسم المواقف في مجالس الساسة (من برلمان ومجالس أخرى)، لأنها وحدها تكون على اطلاع، واضطلاع بالمصالح العامة. ذلك الرصيد والتفكير فيه من زاوية منطق الظرفيات المقارن ليس بحكر على علماء الدين، ولا على الدعويين وتنظيماتهم المحدثة. لأن ذلك التفكير والحلول العلمية السارية الموجودة اليوم، والمحتملة غدا، تهم حيوات الناس أجمعين وتصوراتهم لمآلاتهم أنفسهم. فلا احتكار ولا إقصاء مقبول. والمناظرة والمشاورة هما الطريق لإيجاد الحلول. فالشريعة كنز الجميع ومرجع مشترك في استخراج الحلول. والأخلاق والآداب الإسلامية هي كذلك. ومن حيث كون كل هذا رصيد للجميع، فلابد وأن يكون أيضا موضع مساءلة جماعية.
سيرورة وتراكمات وإذ أفرزت ذلك الرصيد في إطار التحليل، فإنني ألح على التأكيد بأن الرصيد المشترك مركب ضخم دخلت في صياغته سيرورة وتراكمات تاريخية متعددة الأوجه ومتشعبة؛ خاصة تلك التي أتت في ظروف التحول العميق الناتج عن الإمبريالية والاستعمار. وقبل هذا التحول بقرون، كانت هناك تراكمات في العلوم والتكنولوجية والسياسة والمعمار والآداب والفنون والفلسفة أثرت في الأسس الفكرية لتدريس الشريعة وتناول مواضيعها. ومن تلك العلوم والأفكار ما ورثه المسلون عن أمم أخرى. وكذلك، فإن العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين (ممن قاسموهم الأوطان واللغات والعوائد، أو ممن كانت لهم كيانات مستقلة أو مناوئة للإسلام)، لم تتقيد على الدوام بأحكام الشريعة، بل كانت التبادلات العديدة، والتي لم تقيد دائما بثنائية الأصيل والدخيل. لذلك، فمنهجية منطق الظرفيات المقارن لا يمكن أن يتخلى على المقارنة مع المسارات الأوروبية وغير الأوروبية. فلا أوروبا ولا غيرها هي القاعدة في تصور الإصلاحات؛ ولكن مقارنة المسارات قاعدة أساسية من قواعد البحث والتنقيب. وأظن أن المقارنة مع المسار الأوروبي له الأهمية القصوى نظرا إلى طبيعة العلاقات وكثافتها في الماضي والحاضر. ليس الهدف هنا مسح الرصيد المشترك، ولكن الهدف ينحصر في تحديد أوجه التعامل معه قصد توجيه الإصلاح الذي لا مفر منه. وينبغي اعتمادها بالرجوع التحليلي إلى ذلك الرصيد بغية استيعاب ما ثبتت صلاحيته، واستبدال ما بدا قصوره في التجاوب مع المشاكل العملية المطروحة. وهذا التمحيص لا يستثني أي ميدان، بما في ذلك الأحكام التي تحتوي عليها المنظومة الشرعية. في هذا الباب سوف لا يحصل التقدم المنشود إن نحن اكتفينا بذهنية التحريم والتقيد، بدل الحرية في الاجتهاد والتشاور. وسأكتفي في هذا الباب بمثالين للتصور الحاصل في عملية الرجوع إلى الرصيد. وهما مثالان عن الرجوع إلى «السلف»، أحدهما في ميدان المعاملات الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، والثاني في ميدان نظام الحكم. في ما تعلق بالعلاقات الإنسانية يلح الدعويون بكل فصائلهم على الرجوع إلى الأصل الشرعي كما يتصورونه. هذا الإلحاح ما هو إلا الجانب الظاهر لبرنامج يهدف إلى تغيير قوانين عديدة جرى بها العمل، وتمثل حصيلة اجتهادات كبيرة ومحترمة من طرف أجيال من العلماء ورجال القانون. من بين المسائل التي تعددت في موضوعها كتاباتهم، وأحاديثهم، مسألة العلاقة بين الرجال والنساء، في إطار الروابط الأسرية وخارجها. فاختلاط النساء والرجال مثلا غالبا ما يحدد في مشكل الفتنة وقطع طريق الزنا. وهما مشكلتان دأب المفكرون الدعويون على اتخاذهما كباب للرجوع إلى الأصول الشرعية. لكن هناك أسئلة من شأنها فتح أبواب أخرى: ما هي قوة الفتنة المفروضة في اختلاط الجنسين مقارنة بفتن أخرى (كتفشي الزنا، والبغاء، والنفاق،...إلخ) نخرت جسم المجتمعات المسلمة منذ قرون، ولازالت سارية فيه سريان النيران؟ هل لا يكفي تحصين النفس دينيا وأخلاقيا ليصبح الاختلاط والتعاون بين الرجال والنساء إيجابيا ومعقولا؟ أما سد طريق الزنا، فإن التجربة علمت الأجيال أنه لا يتأتى بالطرق التي يصر الدعويون على فرضها. وأن التربية وتحصين النفس وتقوية العقل ربما يجنبون مخاطر لا ينفع معها لا تحجب ولا خمار. الأهداف نفسها تكتمل ربما بالتربية على حب العمل. فهل أتى الدعويون بالجديد في هذا الميدان أم هم يرجعون إلى السلف وفكرهم منشغل بباب الزنا وقطع طريق الزنا لا غير؟ وعلى كل حال، فإن فطاحل السلف في باب الزنا لم يروا من الضروري صرف تلك الجهود الهائلة التي يصرفها الدعويون الجدد في اختراع التقنيات لسد طريق الزنا. هناك مبادرات تبعث على الاطمئنان، بعيدا عن ذلك الانشغال الجارف وتقنياته. هذه المبادرات انبثقت عن تجربة الشعب بجميع شرائحه. كما أن لها خصائص ذكرتها سابقا: فيها رجوع إلى الشرع والأخلاق الإسلامية مع تفهم للإكراهات ومنطقية الظرف؛ ومنها إكراهات التعلم، والشغل والتنقل، والتطبيب والمباريات والمنافسات ...إلخ. ففي جميع هاته الحالات ظهرت تصرفات جديدة ليست منسلخة عن الشرع والأخلاق الإسلامية، كلا! بل هي مسيرة بهدف التحكم في اختلاط الجنسين الذي لا مفر منه. وهذا شيء جديد عندنا، ففي التحكم في الإكراهات الجديدة نرى أن هناك رجوعا عمليا إلى الأصول، لا لتحريم الاختلاط، لكن قصد التحكم في ديناميكيته وأدبياته، ونتائجه. والجدير بالملاحظة أن الأجيال الجديدة، إذ هي تنتسب إلى الدعوية أو الحداثية، فإنها لا تختلف في بدل الجهد، بقدر ما تختلف في أشكاله. والمبادرات التي أعطت اليوم طابعا جديدا للحياة هي بالدرجة الأولى مغربية، لا دخيلة ولا أصيلة، ربطت الأصل بالتحول والعكس بالعكس.
الشعب والدعويون يظن العديد من المثقفين، خاصة بعض الحداثيين منهم، أن الشعب لا ينصت إلا لكلمة الفقهاء والمتفقهة، ويطيعهم طاعة عمياء. كذلك يظن الكثير أن التظاهر بالتدين والدفاع عن الدين يكسبهم شعبية بلا منازع. في هذين الرأيين بعض الغرور حسب نظري. والاحتكاك بالشعب يبين أنه يثق قبل كل شيء في تجاربه ورصيد تلك التجارب. وإن أطاع الفقهاء والدعويين، فإن ذلك يتم على ضوء تلك التجربة، وعلى قدرة الزعامات في توضيح الأسئلة والحلول المطلوبة. لهذا، فإن جزءا من الشعب قد يصوت على الدعويين والمتظاهرين بالتدين، لكن هذا يحصل دائما على ضوء تلك التجربة. ويجب أن نشعر بأن الشعب ليس بدعوي، ولا يتبنى بالضرورة البرامج الدعوية بالرغم من كثافة وعظها ووعيدها في يومنا هذا. وإن رجحت أصوات الشعب كفة الدعويين بقدر ما، كما حدث أخيرا في المغرب وتونس ومصر، فإنه لم يمنحهم أغلبية مطلقة. والظاهر أن أصوات الشعب تصب في اتجاه تخليق الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي اتجاه تحسين ظروف المعيشة. فلا طاعة عمياء، ولا انبهار بمؤشرات التدين يضمن للتنظيمات الدعوية قوة سياسية دائمة في غياب النجاح في الميادين العملية. وإذا سلمنا بهذا، فإن النجاح سيكون من حظ الذين يبينون كفاءاتهم وصدقهم فيما يخص وضع البرامج المجدية وتطبيقها مع احترام الحريات، سواء أكانوا حداثيين أم دعويين. وسوف يكون الفارق الواضح هو القيام بذلك في ظل منظومة غير مسبوقة تقرن المساواة في الحظوظ الاقتصادية والاجتماعية، بالحرية الفردية. وربما سيكون ذلك أيضا هو الفارق الأساس بين جبهة ليبرالية اجتماعية متجددة، وجبهة دعوية لم تنجح أبدا في وضع الأسس النظرية لعدل مقرون بالحرية. والحرية الفردية في هذا المقام لا علاقة لها لا بالأنانية، ولا بالغرق في الملذات، وإنما أساسها تثمين المجهود الفردي في ميداني الأخلاق والعمل وربط المكاسب والامتيازات بذلك المجهود. المثال الثاني والأخير أردته في ميدان السياسة وبالتدقيق نظام الحكم. هذا يطرح سؤالا أوليا وهو: «ما معنى الأصل في هذا الباب»؟ معروف أن النظام في الفكر والعمل الإسلامي بدأ بالخلافة القائمة على نمط من الشورى، ثم انتقل إلى شكل الدولة السلالية بأنواع من التوريث المشروط ببيعة العلماء والأعيان وتطبيق الشريعة. هذا النظام اكتسب شرعية الخلافة عبر التاريخ، إلى زمن خلافة الموغال في الهند وما جاورها، وإلى زمن الخلافة العثمانية في منطقتنا. ومعروف أن الاستعمار البريطاني قضى على الأولى بالحديد والنار في القرن التاسع عشر، وأن الحكم العثماني انقرض في أوائل القرن الماضي بفعل الضغط الإمبريالي وفشل مشاريع الإصلاح. وقد تعايش النظام العثماني مع أنظمة خضعت لها شعوب مسلمة أخرى مثل شعب إيران وشعب المغرب ، وذلك باسم إمامة متعارف عليها بالقواعد نفسها. وعلى كل حال، فإن الدولة لم تكن في الكيانات الإسلامية دولة دينية بالمعنى الذي كان شائعا في أوروبا لمدة طويلة، والتي كانت مشروعيتها، قبل الثورات الكبرى، مستمدة من نظرية تفويض إلهي تضمنه الكنيسة. على خلاف ذلك، كان نظام الحكم في الدول الإسلامية يستمد مشروعيته من البيعة والشورى، ومشروطا بتطبيق الشريعة. فالتولية كانت بتفويض الأمة ممثلة في أعيانها وبرعاية كبار العلماء. كان ذلك الإجماع النخبوي مصدر مشروعية النظام؛ ومن تم الإجماع في حقه يصبح قائدا بالمعنى الديني والدنيوي في آن واحد، وتكون مهمته السهر على حماية الأمة بحماية الشريعة، وصد الأخطار الخارجية. فإن لم يكن النظام ديني بالمعنى المسيحي، فإنه جمع بين الديني والدنيوي من جهة، ومن جهة ثانية كانت بيده منظومة شرعية استمدت قيمتها من الوحي الإلهي. على ضوء هذه المعطيات، يمكن طرح السؤال الآتي: ماذا يدخل في مفهوم الأصل بعد التحولات العميقة التي ذكرنا؟ هل الرجوع إلى الخلافة الأولى؟ أو الرجوع إلى الخلافة الثانية وتطورها عبر الأزمنة من (الحكم الأموي إلى الحكم العثماني)؟ هل يعني هذا، فيما يخص المغرب، الرجوع إلى مؤسسة الإمامة كما أشرت إليها؟ وهل نحن نعيش امتدادا لأصل من تلك الأصول، مشخص في المؤسسة الملكية الحالية؟ هناك من يرجح الرجوع للخلافة الأولى، إذ يرى التولية فيها اختيار الخليفة بشورى استندت إلى معيار الكفاءة وإجماع الأمة، مما يتنافى مع وراثية الحكم في النظم التي أتت بعد الخلافة الأولى. لكن هذا الرأي، في نظري، يتغافل معضلة كبرى، وهي أن الشورى التي ارتبطت بالخلافة على مراحلها كانت عمليا موقوفة على نخبة قليلة ولم يتوفر فيها الاستقرار ولا المؤسسات التي من شأنها حسم الصراعات السياسية بشكل مستدام. وهناك رأي آخر مفاده أن الإمامة، على شاكلة الإمامة المغربية، قابلة للإصلاح في شكل ملكية برلمانية. في هذه الحالة، تتقلص سلبياتها الوراثية. والنقطة الأساس هي أنه لا معنى في الرجوع إلى نمط الخلافة الأولى التي انقرضت منذ البدايات، بفعل قصورها في ميدان السياسة. ولا معنى للرجوع إلى الأصول مادام الأصل ممتدا إلى الحاضر، وقابلا للحفاظ على المنظومة الشرعية. وفي إطار الملكية البرلمانية، هناك إمكانية تنظيم لمجلس شورى، وتناط به مهمة اختيار وارث العرش وتنظيم البيعة. ولا حرج في انتخاب أعضاء ذلك المجلس من المجالس العلمية، والمجالس الأخرى المؤطرة للكيان. بهذا، نكون وقفنا على معنى آخر لمفهوم الرجوع إلى الأصل، وهو رجوع ربما فيه ما يجنبنا تكرار الرواسب. حيث الأصل يتمثل في استثمار الجهود السابقة وأخذ العبرة في سبيل الاهتداء إلى الصواب في تنظيم الحاضر واستشراف المستقبل. في ذلك الأصل أفرزت التجربة أمور السياسة وضبط الأمر العام اجتهد في مجالها علماء اهتموا بالسياسة الشرعية، حاولوا ابتكار مناهج عملية لسوس المجتمع على اختلاف مكوناته ومشاربه. من ذلك الأصل تم إنتاج توسيع الشورى ومؤسسات الشورى وتنظيماتها في شكل الانتخابات والبرلمانات والمجالس الأخرى، وتعيين الحكومات ...إلخ. هذا اجتهاد باستثمار التجربة الأصلية كما عرفتها، وليس باستيراد محض لبضاعة غربية. من هذه المؤسسات يتكون الشأن العام والشأن السياسي الذي فرض نوعية التسيير العملي للجماعات البشرية منذ قرون، والذي تميز عن تسيير شؤون أخرى، مثل الشأن الديني مثلا، وجميع أنواع التسيير هاته قد انطوت تحت راية الإسلام، لا خارجها. والوراثية في السيادة قابلة لتكوين مجلس يتصدر اختيار وارث العرش كما سبق. وأما ممارسة الحكم نفسها، فلا وراثية فيها، ذلك لأن الاستحقاقات تكون أساس تعيين الحكومات؛ وأن الدساتير تحدد أوجه الاختصاصات، وأوجه الشراكة بين ما هو إمامي (وراثي) وما هو حكومي (ناتج عن مسطرة الاستحقاقات). في هذه الحالة، يوضع كل مشروع طبقا لقانون. وكلاهما يخضع للنقاش العمومي (داخل البرلمان وخارجه). يكون من الطبيعي اتخاذ قوانين وضعية في مجالات لا تستدعي اجتهادا شرعيا، وأخرى تستدعي ذلك الاجتهاد. ومن الطبيعي أن يحصل ذلك الاجتهاد داخل المجالس العلمية بعناية مؤسسة الإمامة. ويوضع القانون وأراء العلماء موضع النقاش في البرلمان، حيث تسمع كلمة الشعب وتناقش مصالحه؛ ثم تأتي المصادقة بالتوافق أو التصويت. فمع الاحتفاظ بالأصل تتغذى وتيرة الاجتهاد ويتطور ذلك الاجتهاد بفضل الاهتمام بانشغالات الشعب العملية، وفرض ذلك الاهتمام دوما من طرف المؤسسات.
خلاصة حاولت في هذه الورقة بسط أفكار أولية في سبيل إغناء المناقشة بكيفية تتجنب ذهنيات الإقصاء وتروم احترام الآراء وأصحابها. اعتمدت مفاهيم اجتهدت في تحديد معانيها وإجرائيتها التحليلية. في مرحلة أولى، انطلق التحليل من مفهوم سياسة الخطاب وانتهى بتبيان سلبية الثنائيات الضمنية أو المصرح بها. منها إطلاق نعت «إسلامي» على مجموعة أفكار وتنظيمات معينة، وهو نعت قائم على ضمنية مفادها أن مجهودات فكرية أخرى بتنظيماتها تصنف في خانة «اللاإسلامي» أو»غير الإسلامي». تلك الثنائية التي تغفل الأسس الإسلامية في فعل الناس الذين ينتمون إلى تنظيمات اجتماعية وسياسية تختلف آراؤها عن آراء تيارات تنعت نفسها بصفة الإسلام وتنفيها عمليا على الآخرين. سياسة الخطاب تسكن كل الخطابات بما فيها الخطاب الليبرالي والحداثي. وقد تطرقت إلى تلك الثنائيات المؤطرة للفكر والعمل: ألا وهي ثنائية تقليد/حداثة، وأخواتها: أصالة/حداثة، أصيل/دخيل ...إلخ. نقبت على سياسة الخطاب الذي ينبني على هذه الثنائيات والذي يحيل على استراتيجيات من طرف شرائح معينة قصد الاستحواذ على قوة الحداثة، وذلك في ظروف أصبحت فيها تلك القوة هي القوة الحاسمة بعد التحولات الجذرية التي عرفها المجتمع. في هذا الإطار حاولت البحث في آليات الإنتاج المعرفي، وانتهيت إلى محدوديتها عند الأصولي والحداثي على حد سواء (مع الإشارة إلى الحصيلة العلمية المحترمة التي حققها الفكر الليبرالي القومي في ميدان الدراسة المقارنة للصيرورات التاريخية). ثم رسمت بعض ملامح المشترك الضخم الذي من الممكن استثماره من طرف جبهة توافقية موحدة إن قبلت الجبهتان المتنافستان استثمار المشترك، وتخليتا عن الثنائيات المكبلة، وعن استراتيجيات الهيمنة. والبناء الحضاري السليم، إن نحن خرجنا من تلك الثنائيات وحلقاتها المفرغة، سوف لا يقوم إلا على أساس العدل المقرون بالحرية. ولا عدل يقوم بدون حرية. ذلك لأن العدل لا ينحصر في الاعتراف بالحقوق المادية وإعطائها كاملة لأصحابها، وإنما هو أيضا الاعتراف بالحقوق المعنوية، ومن صميمها حق الكرامة. وبدهي أن الإكراه في الفكر والعقيدة والتصرف هو عين القهر الذي يغتال الكرامة. وبذلك يفرغ العدل من معناه لأنه يسلب الفرد إرادته، فيأتي على عزيمته وإقدامه.
العلاقات بين الشابات والشبان ..الجدل الكبير من المواضيع التي تثير اليوم جدلا كبيرا مشكل العلاقة بين الشابات والشباب قبل الزواج أو تمهيدا له. الكل يعرف أن هذه العلاقات منتشرة ويزيد انتشارها يوما بعد يوم. وليس في المدن فقط؛ بل هي موجودة في القرى كذلك. وزادت قوتها مع وسائل الاتصال والإعلام والإشهار الجديدة. وخيوطها اخترقت جميع الأسوار والأغلفة، الأسرية، والمدنية والوطنية.... قد تنشأ عن تلك العلائق مصائب ومآسي كالغصب، أو الخيانة بعد الحمل، أو الزواج إكراها،... إلخ. ووسائل إعلامنا تأتي بأخبار كثيرة من هذا القبيل، وتكون المناقشات والمظاهرات بسبب الخلافات في الحلول، والمرافعات في المحاكم. ثم إن غالبية الشباب المعنيين بالأمر هم شباب متعلمون، أو على درجة من معرفة الشرائع والقوانين بفعل الاحتكاكات ووسائل الإعلام. فما الموقف من هذه الظاهرة؟ وهل من بديل للمواقف الموجودة في الساحة، سواء باسم العلم والحداثة، أو باسم الرجوع إلى الأصيل وتجنب الدخيل؟ سمعنا آراء الذين يرددون دائما الرجوع إلى السلف، وينبذون أشكال التعارف التي ينهجها الشباب اليوم بين إناث وذكور. وسمعنا الأفكار نفسها باسم «العمق الحضاري». فأشكال التعارف المبتكرة إما تنعت بالزنا، وإما بكونها خارجة عن «تراثنا». والحقيقة أن أصحاب مقولة العمق الحضاري، من أحزاب وتنظيمات، اتخذوا أشكالا ومساطر للتعارف بارتداء ما يسمى»الزي الإسلامي»، وفي إطار الأفراح، والمناظرات، واللقاءات الثقافية، والمخيمات، وحتى في لقاءات شخصية بين مناضلين ومناضلات يزاولون مهمات قيادية وغيرها. وليس لدينا دليل على أن تلك الأشكال كانت لها مثيلات في ما يسمى ب»العمق الحضاري». زد على ذلك أن أوجه تنظيم العلاقة اليومية بين الرجال والنساء كانت متعددة في ذلك الماضي نفسه. لذلك، فإن الصيغة المبتكرة اليوم من طرف الدعويين ما هي إلا صيغة محدثة، يراد من ورائها إقحام الناس والأذواق والتعلق بالدين والشريعة والأخلاق في قالب واحد، وتكوينهم كقوة اجتماعية وسياسية.
أشكال الدعويين فالأشكال المعتمدة من طرف الدعويين ما هي إلا حلول معينة من بين الحلول التي ابتكرتها الأجيال الشابة. من هذه الزاوية، ليس في ذلك حرج، لكن ما يلفت النظر هو تلك الأهمية القصوى التي احتلتها المسائل المتعلقة باللباس، وشعر الرأس خاصة عند النساء، والمصافحة والسلام بين الذكور والإناث وما إلى ذلك، لدرجة أن المسألة طغت على المنابر، والمجالس، والخطاب العمومي. وما يلفت النظر أيضا هو التصادم بين أصحاب الزي الإسلامي وأصحاب الأزياء الأخرى. فواضح أن تلك المسائل أصبحت رسائل لحشد الأتباع والتعبئة في إطار موازين القوى السياسية. وظاهر أن الحداثيين لا يرفعون تلك المسائل إلى تلك الدرجة القصوى؛ ولكنهم كثيرا ما يسقطون في الثنائية المفتعلة بين هندامين (حداثي وغير حداثي)، ويبقى النظام السياسي القائم هو الحكم والمستفيد من الاصطدامات الحاصلة بين معسكرين ينتميان في حقيقة الأمر إلى الطبقة الاجتماعية نفسها: ألا وهي الطبقة الوسطى. تلك الطبقة الخلاقة في خضم التحول التاريخي العميق الذي تعرفه مجتمعاتنا؛ تلك الطبقة المنقسمة على نفسها بسبب ثنائيات مفتعلة تحول دون توجيه جميع الطاقات صوب مجهود التوافق بين شرائحها. وبما أن المؤكد هو أن الشباب اليوم لا ينسلخ عن الإسلام في الأشكال المبتكرة من طرف غير الدعويين بقدر ما يحاول إيجاد حلول توفيقية، فإن الرجوع إلى الأصول الشرعية والقانونية لا يخدم مصلحة عامة إلا باعتماد منطق الظرفية المقارن. ذلك المنطق يدل، في ما يخص مثلنا هذا، أولا وقبل كل شيء على أن مفهوم التعارف قبل الزو