بعضهم اختار اللجوء إلى أقرب نقطة آمنة ممكنة، والبعض الآخر اتجه إلى أقصى نقطة يمكن أن يصل إليها، فحط بعضهم الرحال في الجارة الجزائر قبل أن يفكر المئات منهم في إنهاء المشوار بالمغرب الأقصى، غير أن عبورهم إلى المملكة الشريفة يضعهم في مواقف صعبة! «أقطن بحي الأندلس رفقة أفراد عائلتي منذ 3 أشهر تقريبا، أحاول جمع المال لأبعث به إلى شقيقتي في حلب حتى تتمكن من العبور»، بهذه الكلمات اختارت «نجوى»، وهو الاسم الذي تقدمه لكل من يسألها عن اسمها، وهي شابة سورية في الثلاثين من عمرها، اختارت أن تستجدي بعض المصلين على بوابة مسجد «خالد بن الوليد»، لتعيل أسرتها المتكونة من أربعة أفراد. لم تشأ أن تفصح عن تفاصيل أكثر عنهم، كل ما قالته هو أنها تعينهم، وتحاول جمع الباقي لمساعدة شقيقتها وأبنائها للخروج من «الجحيم». نجوى لا تخفي توجّسها من المارة، فهي لم تتعود على مد اليد. «نحنا ناس ما تعودت على التسول»، تقول وحمرة الخجل تعلو محياها. عدم إدراكها لمنافذ ومخارج المدينة والاتجاهات لم يساعدها في تحديد الوجهة التي دخلت منها رفقة عائلتها، كلّ ما تتذكره أنها خاضت غمار رحلة على مرحلتين، الأولى بدأت من سوريافتركيا ثم الجزائر عبر الطائرة، أما الثانية فكانت برا من الجزائر إلى المغرب. استقلت الحافلة من الجزائر العاصمة إلى تلمسان ومنها إلى مدينة مغنية، «دلنا جزائريون على أشخاص ينقلون الناس بين الجزائر والمغرب»، تقول نجوى قبل أن تضيف، وهي بصدد الاستعداد للعودة إلى مسكن العائلة بالأندلس: «دفعنا لشخص قدرا من المال وأنزلنا بمفترق طرق، قبل أن يستلمنا مغاربة ويدخلونا إلى المغرب بواسطة سيارة أخرى عبر طريق بالقرب من بلدة على الطريق الرئيسية»، في إشارة إلى بني أدرار المتاخمة للشريط الحدودي، التي تخترقها الطريق الرابطة بين وجدة والناظور.
خطر الرصاص غير بعيد عن المسجد الذي تستجدي فيه نجوى المصلين، وبمقهى مجاور لغرفة التجارة والصناعة يجلس شابان في العشرينات من عمرهما، يرتشفان قهوتهما في إحدى زوايا المقهى، يرقبون الجالسين من حولهم في مشهد يثير الشك، النادل بصوت جهوري يقول: «الأخوان فلسطينيان»، قبل أن ينطلق صوت خافت وراء الطاولة المستديرة «لا سوريان أخي»، حينها ارتسمت على وجه النادل علامات التعجب قبل أن ينطلق مسلسل من الأسئلة، بدأها بالوضع في سوريا وأنهاها بالمقام في المغرب. «هذا ابن عمي، نحن في الأصل من ريف دمشق، لكن عمي قبل الحرب سكن في العاصمة دمشق، بعدما اشتدت المعارك نزحنا أولا إلى تركيا ثم منها إلى الجزائر»، يقول أحدهما الذي قال إن اسمه ماهر، قبل أن يضيف: «والدي وعمي أبو علاء يوجدان حاليا رفقة باقي أفراد العائلة في الجزائر، لكن أنا وعلاء قررنا الهجرة، نريد أن نبلغ أوربا»، وفي سبيل تحقيق تلك الرغبة مرا بمسلك أكثر خطورة من المسلك الذي سلكته مواطنتهما «نجوى»، فهما أكدا أن دخولهما إلى المغرب تم عبر المنطقة المجاورة لمنطقة العالب، التي تستحوذ عليها عصابات تهجير البشر، وتعرف دوريات مكثفة من قبل حرس الحدود الجزائري الذي أطلق غير ما مرة النار من بنادقه في اتجاه مهربين مغاربة، فمنهم من قضى نحبه هناك، ومنهم من يوجد في السجون الجزائرية إلى حدود الآن. على بعد ربع ساعة تقريبا من المنفذ الذي دخل منه الشابان، وبالضبط بمقهى معروف بالشارع الرئيس ببني درار، يجلس ثلاثة شبان أكبرهم يتوسط الجلسة، ويحمل على كتفه حقيبة يدوية صغيرة، وتظهر على الشابين الآخرين آثار التعب الشديد! «الإخوة سوريين؟» يسأل أحد زبائن المقهى الذي كان يجاورهم مباشرة، استدار الثلاثة وقال كبيرهم «نعم سوريين أخي».. وأطلق الزبون العنان لفضوله، وشرع يطرح السؤال تلو الأخر، ويظهر تعطشا خاصا لمعرفة أخبار سوريا. «الوضع كارثي هناك، ونحن هربنا من الحرب المدمرة»، يقول أحدهم قبل أن يضيف: «أنا وأخي دخلنا اليوم المغرب بعد 20 يوما قضيناها في الجزائر»، الزبون ينصت بإمعان ليقول أصغرهم: «إحنا رايحين الرباط ها المسا حتى نزبط أمورنا في مكتب اللاجئين»، قال هذا والساعة تشير إلى السادسة والنصف من مساء يوم الاثنين 30 شتنبر، على بعد ساعة من انطلاق الحافلة التي ستقلّهم إلى العاصمة الإدارية من وجدة. غير بعيد عن المحطة التي سيستقل منها اللاجئون الثلاثة حافلتهم في اتجاه الرباط، يقع ناد للأنترنت، في شارع محمد الخامس، بين الفينة والأخرى يتردد عليه شباب سوريون ممن يقطنون بالفنادق المجاورة للشارع الرئيس بوجدة، «سهيل» واحد منهم، رجل في عقده الخامس، عندما يريد التواصل مع باقي أفراد عائلته في سوريا يقصد هذا النادي لاستخدام الأنترنت، «أنا وزوجتي التحقنا بالمغرب عبر الحدود مع الجزائر، وشي من أهلي بسوريا وثانيين بالجزائر»، يقول بلهجته السورية، قبل أن يُُخرج من جيب قميصه بطاقته المهنية «أنا طبيب أسنان، بس الحي اللي كنت ساكن فيه بدمشق تعرض لقصف ودمار شديد من القوات الأسدية، فهربت رفقة عائلتي»، سهيل يتذكر بمرارة كيف أن أفرادا من جيش الأسد بقروا بطن سيدة حامل من جيرانه، «المشهد فظيع لا يُحتمل، لم نستطع البقاء هناك».
الحظ يخيب أحيانا! لا تكلل عمليات العبور عبر خط النار بالنجاح دائما، فقد تصادف عملية البحث عن معابر حالة استنفار قصوى تسود إحدى نقاط العبور الرئيسية، المسؤول العسكري الذي حضر إلى مركز «الشليحات» بالقرب من مطار وجدة أنكاد، جاءته برقية من رجاله المرابطين على الحدود بكون جنود جزائريين يحاولون حفر خنادق بالتراب المغربي، وسرعان ما أثار انتباهه منظر قلما يتكرر على خط النار. للوهلة الأولى أدرك أن الأمر يتعلق بعابرَين غير عاديين. التفت إلى العسكريين المتأهبين، وأصدر تعليماته الصارمة: «أتوني بهما إلى هنا حالا». مباشرة انطلقت سيارة «جيب» عسكرية بسرعة البرق، بلغت الدورية الهدف، استفسرت الشخصين عن هويتهما ووجهتهما فصرحا بكونهما سوريين، «دخولهما كان في الوقت السيئ. لقد صادف وجود ذلك المسؤول العسكري»، يقول شاهد عيان وقف على تفاصيل عملية توقيف سوريين دخلا إلى التراب الوطني بطريقة غير شرعية بمساعدة رجال مهمتهم نقل المسافرين على خط النار! المسؤول العسكري أمر بإحالة الموقوفين على عناصر الدرك الملكي لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة، كما وجه تعليماته الصارمة لرجاله باتخاذ الإجراءات اللازمة لمزيد من اليقظة على الحدود. تعليمات ترجمت على أرض الواقع بدوريات جابت الشريط، وتكثيف المراقبة، حيث نجح المسؤول في احتواء الوضع المتشنج، وعادت الجرافات الجزائرية أدراجها.
حركة مستمرة «قبل قدوم المسؤول المذكور، تمكن أزيد من 30 سوريا من العبور عبر المناطق المحاذية للمركز»، يقول الشاهد قبل أن يضيف: «يوميا نشاهد عبور العديد من السوريين الذين يعبرون فرادا وجماعات». الشاهد من سكان المنطقة يملك أرضا هو الآخر على الحدود، ويصف عبور السوريين الأرض التي يملكها بالأمر العادي، «بات من العادي جدا أن يقصد بيتي العديدون منهم ليطلبوا مني قنينة ماء أو بعض الطعام»، قبل أن يستدرك: «بالطبع هؤلاء يكونون في الغالب رجالا وشبانا يغامرون بأنفسهم لقطع الحدود ولا يخشون من تعرضهم للمخاطر، أما الذين يكونون مصحوبين بالأطفال والنساء فيحبذون اللجوء إلى المهربين الذين يعرضون على هؤلاء اللاجئين خدماتهم المختلفة».
مسار خط النار! «معظم السوريين الذين يتجهون إلى المغرب برا انطلاقا من التراب الجزائري، «يتصلون أول الأمر بأحد المهربين، الذي يدلهم على الطريقة المثلى لقطع الحدود»، يقول مهرب سبق أن قام بتهجير المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء، قبل أن يضيف: «معظمهم يدخلون من الجهة المقابلة لجهة «الشيلحات» والمناطق المجاورة، فالمسار يبتدئ من عبور الحدود والتواري عن أنظار الحراس قبل أن ينتهي في وجدة!». الرحلة في بعض الأحيان يتغير مسارها، وتتغير حتى وسيلة النقل المستعملة فيها، «أحيانا عندما يتم تشديد المراقبة على الحدود يتوصل المهربون بتعليمات بأن العمل بالطريقة المألوفة سيكون محط شبهة فيقومون بتغييرها»، يكشف مصدر مطلع قبل أن يضيف: «حيث يقوم المهربون بالاستغناء عن العربات، سواء السيارات أو الشاحنات التي تستعمل في بعض الأحيان عندما تكون أعداد اللاجئين كثيرة، ويبدؤون بنقل الواحد تلو الآخر بواسطة دراجات نارية إلى المكان الذي يحدده السوري، الذي يكون في الغالب على اتصال بشخص ما في وجدة، وفي حالة إذا تعلق الأمر بعائلة كاملة يلجأ المهربون إلى نقلهم إلى مكان معلوم، الواحد تلو الآخر، إلى أن يجتمعوا. عملية في غاية الدقة والتنظيم، وكذلك طريقة تهجيرهم عبر الحدود، حيث تنشط على الشريط الحدودي، الذي يربط الشليحات بمجموعة من المناطق، عصابة متخصصة في تهجير البشر، والتي يقول عنها المهربون إنها لا تقهر!
«سوكحال» جابي السوريين! هو معروف في أوساط المهربين ب«سوكحال»، استطاع في ظرف وجيز تكوين عصابة سيطرت على مساحة شاسعة من الحدود، ذلك الرجل الأربعيني المتخصص في تهجير البشر وأشياء أخرى، أصبح «ملاذا اضطراريا» للاجئين السوريين، فالعصابة التي يسيطر بها، وفق مصدر مقرب منه، على 12 كلم من الحدود، جعلت منه جابي الحدود الأول ومستخلص رسوم الدخول إلى أرض الوطن! اللاجئ هنا لن يكون إلا زبونا لعصابة «سوكحال»، حيث تنشط عناصر العصابة في الجزائر أيضا، ومهمتها هي البحث عن السوريين الراغبين في العبور إلى المغرب، وينسق بين هؤلاء المهربين شخص يسمى «تيتا» أو «عين سوكحال»، في الجزائر كما يسمى. باتصال هاتفي من «سوكحال» بالعسكري الجزائري رئيس المركز المداوم يمكن للسوريين العبور إلى المغرب، وعند عبورهم يقوم عناصر العصابة بإيوائهم في ضيعة سوكحال التي اقتناها «لتيسير أعماله على الحدود»، وبعدما تكون جميع الترتيبات على الطرف المغربي من الحدود قد تمت في أحسن الظروف، تنطلق سيارة «رونو 18» في رحلة تستغرق بضع دقائق من «الشليحات» إلى وجدة، عبر الطرق المدارية الرابطة بين طريق المطار وطريق الحدود من منطقة «زوج بغال». غير بعيد عن منطقة «الشليحات» تقع «لكنافدة»، وهي الأخرى منطقة تابعة للمجال الجغرافي الذي يسيطر عليه سوكحال، وتعرف توافدا كبيرا للاجئين السوريين الهاربين من الجزائر. في هذه النقطة الحدودية أيضا عناصر العصابة منتشرون، ويقوم بمهمة التهجير في المنطقة، وفق المعطيات التي توصلت إليها «أخبار اليوم»، اثنان من أبناء عمومة رئيس العصابة «كمال» و«حسن»، اللذان يسهران على تنظيم دخول السوريين. «في الحقيقة، لكنافدة هو المنفذ الأكثر استعمالا من قبل اللاجئين السوريين، والسبب في ذلك راجع بالتأكيد إلى طبيعة التعامل من قبل مراكز الحراسة»، تقول مصادر «أخبار اليوم».
تسعيرة الدخول! اختلفت تسعيرة الهجرة عبر المنافذ المنتشرة من «سيدي يحيى» بوجدة إلى السعيدية ولمريس وأحفير. وإذا كانت تسعيرة المهاجرين الأفارقة انخفضت إلى الحدود الدنيا (100 درهم) للشخص الواحد شاملة لخدمة واحدة «عبور مراكز المراقبة»، فإن اللاجئين السوريين يفضلون خدمة كاملة، أي العبور والتنقل إلى غاية مدينة وجدة. مهمة يدفع مقابلها اللاجئ، وفق مصادر «أخبار اليوم»، في العادة ما قيمته 400 درهم، غير أنه يحدث أن تكون الأوضاع غير مريحة على الحدود، وفي هذه الحالة تلجأ العصابة إلى رفع التسعيرة، فتصل في مثل هذه الحالات إلى 700 درهم. الدفع هنا يكون بالدينار الجزائري، «الدفع بالعملة الجزائرية يسهل على السوريين المهمة، بالرغم من أن العديد منهم يكون قد حول أمواله إلى العملة الأجنبية اليورو بالخصوص، فالدفع بالدينار يسهل على العصابة التعامل مع عناصر الجيش الجزائري المسهلين لعمليات العبور، والذين يأخذون حصصهم بالدينار دون إثارة الشكوك حولهم، عكس إذا ما تم الدفع لهم بعملة أخرى»، تقول المصادر.