في هذا الحوار، يرى المعطي منجب، وهو أستاذ جامعي ومحلل سياسي وناشط حقوقي ومؤرخ في جامعة محمد الخامس- الرباط، أن حزب العدالة والتنمية ضمن نتائج الانتخابات البرلمانية لصالحه ما لم يقع حادث طارئ يغير كل شيء. هل تقدم نتائج الانتخابات الجماعية صورة عما يمكن أن تكون عليه نتائج الانتخابات البرلمانية في 2016؟ نعم، هذا ممكن، وهذه المرة بالضبط، يمكن للانتخابات المحلية أن تكون مؤشرا جيدا على ما سيحدث في الانتخابات التشريعية، بينما لم يكن بمقدورنا أن نضع الإسقاطات بينهما من قبل. لقد كانت الانتخابات البلدية طيلة عشرات السنين، من دون دلالات سياسية محددة. في عقد الستينيات والسبعينيات على سبيل المثال، كانت غالبية سكان المغرب تتكون من القرويين، ولم تكن لطريقتهم في التصويت دلالة سياسية واضحة، علما أنه كلما زادت نسبة التحضر في بلد ما أصبح لعملياتها الانتخابية معنى معين؛ إلا أن العمليات الانتخابية المحلية قد تتحول تدريجيا من منطقها القبلي والمحلي إلى منطق وطني. وقد كان اقتراع 4 شتنبر أول عملية انتخابية محلية منذ عقود تنطوي على دلالة سياسية عميقة، فهي تؤكد أن ما حدث في انتخابات 2011 لم يكن شيئا عابرا. لقد كنا من قبل إزاء عمليات للاقتراع تحول المنصب ذي الطبيعة الوطنية لعضو في مجلس النواب إلى قضية محلية. وكان المرشحون لهذه المناصب يقنعون الناس بتنفيذ مطالب محلية وخدماتية صغيرة لم يكن بمقدورهم دوما تحقيقها، وما حدث في 4 شتنبر هو أن هذه العملية تم قلبها رأسا على عقب: لقد أصبحت الانتخابات المتعلقة بالجماعات تُدار وكأنها استشارة وطنية، وكان لدينا لأول مرة منذ عقود، تصويت سياسي في البلاد في المحليات. هل تقصد أن هذه النتائج يمكنها أن تضعنا أمام تصور لما ستكون عليه التشريعيات بعد عام؟ بالطبع، لأن ما حدث لا يمكنه سوى أن يقود إلى هذا الاستنتاج، وستكون النتائج المتوقعة مطابقة لنتائج الجماعات، وما لم يقع ما من شأنه أن يعرض المسار الطبيعي للأشياء في هذه القضية لتحول مفاجئ أو قاهر، فإننا سنكون في 2016 إزاء المنحنى نفسه للنتائج. بمعنى الترتيب نفسه أيضا؟ الأحزاب التي تصدرت نتائج الانتخابات في المدن هي من ستفوز بالانتخابات البرلمانية من دون شك، لأن الاقتراع في التشريعيات أكثر «عدالة» كما تعلمون من حيث توزيع عدد المقاعد المخصصة لعدد معين من الناخبين. من الواضح أن هذه العدالة مفتقدة في الانتخابات الجماعية لأنها تمنحك مقعدا في قرية ب200 صوت، بينما يجب عليك أن تتطلع إلى آلاف الأصوات كي تحصل على المقعد نفسه في مدينة كبيرة، لكن في التشريعيات، يصبح الفرق أكثر ضيقا بين عدد المصوتين لحزب ما وعدد المقاعد التي يحصل عليها هذا الحزب، وبالتالي يصبح تصويت المدن مصيريا وله سطوة في تحديد الخريطة السياسية، وتكون بذلك، للأحزاب التي سيطرت على الدوائر الحضرية الكلمة الفصل، بينما سيتقهقر دور القروي لحسم المعركة، وإذا كان هناك من سينافس العدالة والتنمية في 2016 على الاستحواذ على المقاعد الحضرية، فهو الاستقلال وربما الاتحاد الاشتراكي إذا تعافى من مشاكله التنظيمية وأعاد إلى صفوفه كل الغاضبين وكل المجمدين لعضويتهم ونشاطهم. ولكن ظهر أن حزب الاستقلال في ضوء نتائج الانتخابات الجماعية قد فقد بعض قوته، وتراجع عدد مقاعده، وخسر معاقله في كثير من المدن.. لنوضح أمرا أساسيا بالنسبة إلى حزب الاستقلال؛ فهو كحزب كان طيلة تاريخه، حزبا حضريا قبل كل شيء، ولم يكن مجرد تجمع للأعيان كما قد نتصور، وكان من الواضح أن تركيز حزب الاستقلال على المناطق الحضرية بمثابة مبدأ عنده منذ الستينيات، بل ومنذ أن ظهر للوجود. إذ لم تكن الأحزاب تعتبر المناطق الحضرية دوما طريقا آمنا، ففي الانتخابات التي أُجريت عام 1963، حصل تحالف ما بين حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية على 54 في المائة من الأصوات، لكنهما مع ذلك، لم يكسبا سوى عدد متساو من المقاعد مع جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (فديك) التي لم تحصل سوى على 36 في المائة من الأصوات. وفي نهاية المطاف، كانا معا يملكان 69 مقعدا في البرلمان لكل واحد منهما في ذلك الوقت. لقد كان يحدث هذا دوما في الانتخابات المغربية، حيث تسعى التوجهات العامة للدولة إلى منح قوة أكبر للعالم القروي باعتباره أكثر ارتباطا بمشروعيتها التقليدية. كانت تلك هي الخطة، وقد نجحت طويلا. لكن هذه المرة، يمكن أن تتغير هذه التركيبة، ذلك لأن النظام الانتخابي البرلماني أصبح كما قلت لكم، أكثر عدالة عما كان عليه. وكي أعود لربط هذه الخلفية التاريخية بحزب الاستقلال في الوقت الحالي، فإن لا شيء يغير من طبيعته ككيان حزبي حضري، وبالرغم من فقدانه لبعض ملامحه الحضرية، فإن عملية إصلاح داخلية بشكل واسع، أو تغييرا على مستوى قيادة الحزب، قد يؤدي إلى استرداد تلك القوة الحضرية، فهو على كل حال، وبالرغم من نتائجه في 4 شتنبر، ما يزال موجودا في المدن المتوسطة والصغيرة، وذلك مؤشر على أن المعركة المقبلة ستكون بينه وبين حزب العدالة والتنمية، حتى وإن كنت سأجازف بالقول إن الإسلاميين هم من سيربحون تلك المعركة في نهاية المطاف. يقول بعض المراقبين إن الطبقة المتوسطة تحولت كليا تقريبا نحو دعم الإسلاميين في الانتخابات، بعدما كانوا يدعمون اليسار.. بماذا يمكن تفسير ذلك؟ لنكن واضحين إزاء هذه المسلمة: إن الطبقات الوسطى صوتت لصالح حزب العدالة والتنمية في 4 شتنبر. لا يمكن الشك في ذلك، ولا ينبغي التقليل من شأن حدوثه. وبالطبع، كانت هناك فئة من هذه الطبقات من صوتت لصالح فيدرالية اليسار الديمقراطي، لكنها قليلة على كل حال، وربما يرتبط ذلك بالتمايز الواضح في قدرة الحزبين على التعبئة. إن اليساريين الممثلين بواسطة ذلك التحالف كانت تعوزهم الإمكانات والوسائل للتخطيط وتنفيذ حملة دعائية شاملة. لم يكن لديهم مال تقريبا، ومع ذلك، نجحوا في بعض المناطق في الحصول على نتائج مبهرة. انظروا إلى مقاطعة أكدال، لقد حصلت لائحة اليسار هناك على تسعة مقاعد، وكانوا مرتبين ثانيا بحسب النتائج النهائية. ما يجب التأكيد عليه في هذا الصدد هو أن أي تصويت ذي دلالة سياسية تقوده عادة الطبقات الوسطى، فهي لا تعترف بالكاد بدور المرشحين كأشخاص في حسم قرار التصويت أو طريقته، وبهذه الكيفية تربح الأحزاب ذات المشاريع السياسية الأكثر ملاءمة هذه الطبقات. وما حققه حزب العدالة والتنمية هذه المرة كان مدعوما بتصويت مُستند إلى الضمير إن جاز هذا التعبير. وحتى وإن قدمت أحزاب أخرى أشخاصا نزيهين، فإنهم لا يحظون بأصواتها في غالب الأحيان، لأنها ترى ما هو أبعد؛ فهي تراقب سلوك زعمائهم السياسيين، وطريقة تدبيرهم لأحزابهم. كانت قوى اليسار تستفيد من هذا النفس في أوقات سابقة، لكن بمجرد ما أصبح حالها مشابها لما عليه من نسميهم ب»الأحزاب الإدارية» حتى تحولت الطبقات الوسطى عنها. إنهم يعتقدون أن حزبا مثل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لم يعد يمتلك جاذبية سياسية حتى وإن قدم مرشحين نزيهين في بعض الدوائر، لأن الفكرة العامة أصبحت مسيطرة أكثر حول ما يشوب صورة الحزب من تلويث من طرف بعض قيادييه، ولذلك، ليس مستغربا أن يحصل على نتيجة صفر في الرباط، أو على نتائج ضئيلة في الدارالبيضاء. ببساطة، لم تعد الطبقات الوسطى تثق في اليسار الموجود في البرلمان، ويحاول اليسار غير البرلماني إن صحت العبارة، أن يملأ الفراغ. هذا اليسار تنقصه الوسائل، لكنه يستطيع أن يعزز مواقعه مستقبلا. وحتى إن وقع ذلك، فإن حزب العدالة والتنمية سيستمر في حصد صوت الطبقات الوسطى، لأنه يظهر وكأنه لا يوجد بديل جدي قادر على منافسته في هذه المرحلة، وهذه حقيقة لا مناص من الاعتراف بها. بعض المحللين يعتقدون أن حزب العدالة والتنمية قد يخسر شيئا من قوته قبيل الانتخابات البرلمانية إن نفذ بعض خططه التي قد لا تحظى بشعبية قبل 2016؟ دعونا نكون صريحين، إن حزب العدالة والتنمية إن كان يريد أن يحتفظ بموقعه على رأس قائمة الأحزاب السياسية، لاسيما في المناطق الحضرية، عليه أن يدعم شعبيته بتنفيذ برامج الإصلاح ذات الكلفة الاجتماعية بنوع من إعادة توزيع الثروة. وسأحاول أن أشرح ما يعنيه هذا: خذ مثلا ما سيجنيه من أموال عقب الإصلاح الكامل لصندوق المقاصة، هذه أموال ضخمة، لكنها في مقابل ذلك، ستضر على مستويات متباينة بقدرة الناس الشرائية ومن بينهم على وجه الخصوص، الطبقات الوسطى، على الاستمرار في نمط الحياة الذي ألفوه. ستتعرض القدرة الشرائية لبعض الأضرار، وسيحس الناس بأن التضحية كانت أحادية الجانب، وهنا قد يتغير موقفهم السياسي. لكن إن دفعت الحكومة بإجراءات موازية نحو إعادة توزيع الثروة حتى لا يحس المتضررون من تنفيذ خطط الإصلاح بأنهم يؤدون الثمن من دون مقابل، فإنهم سيستمرون في دعمه. وحتى حس التضامن لدى الطبقات الوسطى يمكن استثماره من لدن حزب العدالة والتنمية لتعزيز خططه لدعم الفئات الأكثر هشاشة. ستقبل الطبقات الوسطى أن تحرم نفسها بسبب خطط الحكومة، من بعض الأفضليات إن رأت أن الطبقات الأدنى يمكنها أن تربح شيئا، خصوصا وأن أغلب العائلات الممتدة الوسطى لديها فصائل فقيرة فمهندس معماري ناجح يمكن أتكون لديه عمة أرملة لا دخل لها ويضطر لمساعدتها، فإن رأى أن حزبا ما يهتم بمساعدته، فسيعتبر ذلك أمرا جيدا وإنسانيا، غير أننا يجب أن نتوقع حدوث النقيض إن لم تنفذ الحكومة برنامجها الإصلاحي بطريقة لا تضر أكثر من اللازم الفئات المستضعفة. لا يمكن أن تدعم الطبقات المتوسطة سياسات عامة ينفذها حزب لا يظهر لسياساته أي أثر اجتماعي إيجابي ومباشر، ولا يمكن تبرير ذلك بأي طريقة تنطوي على تأجيل زمني. إن نفذ حزب العدالة والتنمية خطته لإصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد، دون أن يقدم شيئا مقابل ذلك، فإنه سيخسر قطاعا عريضا من الطبقات الوسطى. كن متأكدا من ذلك. على أن أهم ما يجب الانتباه إليه هذه المرة، هو أن نتائج الحزب في المناطق الحضرية قطعت الطريق على أي تبرير يقدمه لعدم تنفيذ خطط أكثر ملاءمة للمتضررين، فالناس أصبحوا يرون فيه حزبا قويا، لذلك فهم لن يتفهموا شكواه بعد اليوم. كيف ذلك؟ معينة لتبرير عدم تنفيذ خطط شاملة للإصلاح. لقد كان حزب العدالة والتنمية يميل بعد 2011 إلى تصريف عجزه في بعض الملفات بالاستناد إلى وجود قوى أخرى تحاربه، ربما لديها القوة نفسها أو أكثر منه. لكن كل هذا سقط يوم 4 شتنبر. إن الناس دعمته كمشروع للإصلاح، ولم يعد مقبولا منه أن يبرر عجزه. لقد أصبح الآن أقوى حزب في المغرب بدون منازع، ولم يعد ذلك موضوع شك كما كان الحال في 2011 وبعدها. وما تتحيه نتائج الاقتراع هو القول بأن حزب العدالة والتنمية وقوته مجرد مرور ظرفي أملته وقائع معينة. لم يعد الحزب عبارة عن دواء مسكن أو عامل تهدئة، ولم تعد نتائجه في 2011 في ضوء نتائج 2015، مجرد ربح ضمني من وراء المناخ السياسي السائد آنذاك. إنه الآن قوة سياسية كبيرة، وحتى وإن تقدم عليه حزب الأصالة والمعاصرة، فإن تحليل المعطيات الانتخابية يكشف أن لا قوة تفوق حزب العدالة والتنمية. هذا حزب ترشح في نصف الدوائر القروية فقط، ولم تكن تغطيته شاملة. تصور لو كان بمقدوره أن يحقق تغطية كلية؟ لم يكن بإمكان حزب الأصالة والمعاصرة أن يلحق به حينها. لم يعد هناك ربيع عربي قائم كي يستفيد منه ظرفيا حزب العدالة والتنمية في صناديق الاقتراع، وما حصل عليه يعكس قوته الطبيعية، ولذلك، لن يكون بإمكانه أن يشغل الناس بدعاوى مقاومة الإصلاح. إن الناس لن تسامح بنكيران بعد الآن إذا تهاون في مشاريع الإصلاح. لقد كان يطلب تفويضا، وها هو قد حصل عليه، ولم يعد مقبولا منه شعبيا أي عذر أو شكاية. ينسب جزء من قوة حزب العدالة والتنمية إلى جاذبية زعيمه عبد الإله بنكيران. إلى أي حد هذا صحيح؟ على المستوى التقني والتواصلي، هنالك مفهوم يمكنه تفسير هذه الخاصية وهو باللغة الفرنسية Acteur de la scène politique، ولا نقصد به «الفاعل»، وإنما هذا المفهوم هو أقرب إلى الحقل الدلالي ل «لممثل» كما في هو في المسرح والسينما. وما يظهر لي هو أن زعيم حزب العدالة والتنمية أحذق Acteur / ممثل موجود في الساحة السياسية المغربية. وبغض النظر عن الجوانب الأخلاقية في شخصيته كزعيم للإسلاميين، فإن بنكيران يتعامل مع المتلقي بحنكة سياسية غير معهودة ولا يوجد مثيلها لدى الأحزاب الأخرى. وبهذا المعنى، يظهر أن بنكيران يتكيف كيفما كانت أوضاعه أو مواقعه، وسواء أكان معارضا أو رئيس حكومة. فقد نجح في التأقلم والتكيف مع وضعه الجديد دون أن يفرط في صورته القديمة، وهذا بالضبط ما عجز عن فعله باقي زعماء الطبقة السياسية.