نص المحاضرة التي ألقاها الأستاذ عبد العزيز النويضي يوم 30 أكتوبر 2006 في ندوة AMDH -FVJ في الذكرى الواحدة والأربعين لاختطاف الشهيد المهدي بنبركة بمقر هيئة المحامين بالرباط، ونظرا إلى راهنيتها نعيد نشرها اليوم في الذكرى ال48 لاختطاف المهدي بنبركة. أود في هذه المقدمة أن أنبه إلى ما يلي أولا: هدف المداخلة ليس هو تقييم عمل الهيئة في مجموعه، ولكن تقييم معالجتها لملف المهدي بنبركة؛ ثانيا: إن هيئة الإنصاف والمصالحة، رغم أنها تشكل صيغة متقدمة بالنسبة إلى المعالجة التي قام بها المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ما بين سنتي 1998 و2003، فقد اشتغلت داخل سقف سياسي وضع حدودا منهجية واقعية، أي سياسية، لآفاق تحركها وحظوظ نجاحها في مختلف مهامها، ولاسيما مهمة الكشف عن الحقيقة في أكثر القضايا أهمية وحساسية، (عدم ذكر الأسماء، عدم إلزام الشهود بالتعاون، عدم تعاون أجهزة أمنية، عدم الولوج إلى أرشيفاتها، إلى جانب تعطيل دورها في مسألة إثارة المسؤوليات الفردية)؛ ثالثا: تقييمنا هنا سيتناول نقطتين رئيسيتين: الأولى خلاصات الهيئة وحدودها، والثانية اقتراحات للخروج من المأزق عبر تصور أولي لحل شامل.
I- خلاصات الهيئة وحدودها 1 -خلاصات الهيئة رغم أهمية هذا الملف وأبعاده السياسية والإنسانية وتأثيراته التي امتدت إلى أكثر من 40 سنة، فقد اقتصرت استنتاجات وتوصيات الهيئة بخصوص هذا الملف الكبير على حوالي نصف صفحة وردت في الفصل الرابع من الكتاب الثاني (ص 70، 71) كما يلي: «على الرغم من حدوث فعل الاختطاف على التراب الفرنسي، الأمر الذي تترتب عليه مسؤولية الدولة الفرنسية، فإن على الدولة المغربية مسؤولية المساعدة في الكشف عن الحقيقة لكونها معنية بذلك، ونظرا لوجود مسؤولين مغاربة كبار متوفين وآخرين محالين على التقاعد بالعاصمة الفرنسية، قبل وإبان وبعد اختطافه، ما يثير عددا من الأسئلة بقيت دون جواب؛ فضلا عن مكوث بعض الأشخاص من جنسية فرنسية متورطين في اختطاف المهدي بنبركة مدة من الزمن بالمغرب، حيث حلوا به مباشرة بعد عملية الاختطاف وتوفوا به. استنادا إلى المعطيات التي قامت الهيئة بتحليلها ودراستها، فإنها ترى أن الدولة المغربية تقع عليها مسؤولية المساهمة في الكشف عن الحقيقة في ملف المهدي بنبركة باعتبارها طرفا معنيا بالقضية، بحكم الاشتباه في تورط أحد أجهزتها الأمنية، كما أنه ينبغي عليها، طبقا لالتزاماتها في إطار التعاون القضائي، أن تعمل على تسهيل كل الجهود المبذولة في مجال الإنابات القضائية في أفق الكشف عن حقيقة ما جرى. وتوصي الهيئة باستكمال البحث للمساهمة في الكشف عن مصيره».
2 -ثغرات خطيرة إن هذه الخلاصة تتطلب الملاحظات التالية: أولا: إنها تقلص من مسؤولية الدولة المغربية عن جريمة اختطاف واختفاء المهدي بنبركة، ومن مسؤولية الكشف عن الحقيقة، ذلك أن قرار ارتكاب الجريمة يعد مغربيا بالأساس، وهو ما تعززه شهادة ذات وزن كبير وهي شهادة الملك الراحل الحسن الثاني؛ ثانيا: لقد اعتبرت الهيئة أن وجود مسؤولين مغاربة قبل وخلال وبعد عملية الاختفاء يطرح أسئلة بقيت بدون جواب، والحالة أن هناك أجوبة واضحة عن الأسئلة الرئيسية التي تحيط بوجودهم: السؤال: الأول لماذا كانوا موجودين؟ الجواب: لتنفيذ عملية اختطاف المهدي بنبركة التي تحولت إلى عملية اغتيال وإلى عملية إخفاء للجثة. السؤال الثاني: هل يمكن أن يوجد مسؤولون بهذا المستوى الرفيع في هذه القضية بدون علم السلطات المغربية على أعلى مستوى؟ الجواب: لا. السؤال الثالث: ماذا كان دور كل واحد من هؤلاء؟ إن الجواب أعطته عدة روايات، ولكنها تفيد أساسا بأن مصير المهدي بنبركة أصبح بين أيدي أشد خصومه ضراوة وعنفا، وهم يمثلون المستوى الثاني في هرم السلطة الفعلية بعد رئيس الدولة آنذاك. ثالثا: لقد تحدثت الهيئة عن الاشتباه في تورط أحد الأجهزة الأمنية، وهذا يقتضي التوضيح التالي: إن الأمر لا يتعلق بمجرد اشتباه بل بتورط أكيد واضح في الملاحظة السابقة، وفي ما سيأتي، كما أن الهيئة نفسها أقرت بمكوث أشخاص من جنسية فرنسية متورطين في اختطاف المهدي بنبركة مدة من الزمن في المغرب، وحلولهم به، وهذا يؤكد أنهم كانوا مقتنعين بأن المغرب هو الملاذ الذي سيمنحهم حماية أكثر من أي بلد آخر لأنهم كانوا أداة مسخرة في يد أشخاص لهم من السلطة والنفوذ ما يؤمن حصانتهم من المتابعة والعقاب. بل أكثر من ذلك، يؤمن لهم امتيازات هامة بما في ذلك عن طريق أنشطة ممنوعة ومشبوهة. وإضافة إلى ذلك، فقد رفضت السلطات المغربية تسليمهم إلى القضاء الفرنسي، حتى لا يدلوا بشهادتهم الحاسمة في جريمة اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، التي من شأنها أن تلقي أضواء كاشفة على مصدري الأوامر ومصير المهدي بنبركة والمشاركين في الجريمة. وأخيرا، فإن هؤلاء لم يتوفوا بطريقة طبيعية كما يمكن أن يستنتج من تعبير هيئة الإنصاف والمصالحة، بل تمت تصفيتهم لأنهم يشكلون شهودا مزعجين قد يورطون بشهاداتهم الجهات التي سخرتهم. رابعا: تحدثت الهيئة عن تورط أحد الأجهزة الأمنية، والحالة أن الأشخاص المتورطين في الجريمة يتحكمون في أهم المؤسسات السياسية والسلطوية بالمغرب، بدءا بوزارة الداخلية والمخابرات والجيش، ويستعملون ميزانية الدولة ويجندون عددا من موظفي الدولة، ويعرقلون قيام الجهاز القضائي بواجبه، كما يمنعون التعاون الفعال مع القضاء الفرنسي. إن قصور الهيئة في الكشف عن الحقيقة، وإن كان مفهوما بسبب الاعتبارات السياسية المحيطة بالملف، فإنه لا يشفع لها أن تذهب في اتجاه مخالف للحقيقة ومختزل لها بهذا الشكل، أي في اتجاه تحريف الحقيقة بدلا من المساهمة في الكشف عنها. لقد ذهبت الهيئة إلى أقل مما ذهب إليه أكبر شاهد وفاعل رئيسي في المغرب خلال ما يقرب من نصف قرن، ألا وهو الملك الراحل الحسن الثاني.
3 -شهادة الملك الراحل الحسن الثاني إن شهادة الملك الراحل تستمد أهميتها من مصدرها نفسه، ومن وضوحها بخصوص الأشخاص المتورطين وبواعثهم، غير أنها ككل شهادة تبقى قابلة للتحليل والتمحيص وإعمال العقل، ولكنها تبقى بالغة الأهمية لأنها تبين كيف تدرج الملك الراحل من الشك في تورط الجنرال أوفقير إلى اليقين، كما تحاول أن تفسر الحماية التي بقي يتمتع بها هذا الشخص الذي تبين فيما بعد أنه شكل أكبر خطر على الملكية نفسها. لقد صرح الملك الحسن الثاني في «ذاكرة ملك» (الطبعة الفرنسية المؤرخة بسنة 1993) في عدة مقتطفات بما يلي: أولا: كيف شك لأول مرة في تورط الجنرال أوفقير (ص 119)؛ فعندما سأله الصحفي Eric Laurent: Q.- Quand avez-vous éprouvé pour la première fois des soupçons envers Oufkir? كان جواب الحسن الثاني: R.- Quand ce commissaire El Mahi est parti avec une valise se faire pincer par la police française, pour passer en justice et essayer de cristalliser autour de lui l'attention… ثانيا: كيف اعتبر الحسن الثاني أن قضية بنبركة كانت مؤامرة حاكها أوفقير ضده لقطع الطريق أمام تفتحه على الأحزاب السياسية (ص 120) يقول الملك الراحل: « …Chaque fois que je me lançais dans une tentative d'ouverture ou de dialogue en direction des hommes politiques, ceux qu'Oufkir appelait les «politiciens» je voyais surgir un complot contre moi. En 1965, ce fut l'affaire Ben Barka, en 1972 l'attentat contre mon avion». ثالثا: كيف أن الملك الراحل وُضع في قضية المهدي بنبركة أمام الأمر الواقع (ص 106-107) يقول الحسن الثاني: Je suis prêt, à tout moment, à jurer sur ce qu'il y a de plus saint que j'ai été mis devant le fait accompli en ce qui concerne la mort de Ben Barka… ويجب أن نلاحظ هنا أن الحسن الثاني تحدث عن موت المهدي بنبركة. رابعا: يقر الملك الراحل بأنه رفض، إثر اختطاف بنبركة، اتهامات الجنرال دوغول لأوفقير لأنها تمت بطريقة مباشرة وخاصة لأن غوكول قال: «C'est lui le coupable, il doit partir» ص 115
الحسن الثاني يقول: «J'ai été blessé dans mon amour propre et ma fierté. Il ne pouvait pas m'imposer de renvoyer un ministre, tout simplement…» p 117
وكما نعلم، فقد أدت هذه القضية إلى تدهور العلاقات بين المغرب وفرنسا طيلة عهد الجنرال دوغول، كما أن الحسن الثاني لم يزر فرنسا إلا بعد وفاة الجنرال دوغول. خامسا: يقر الملك الراحل أيضا بأنه رحب باعتزام فرنسا إصدار عفو عن الجنرال أوفقير. كان ذلك في يوليوز سنة 1972، أي أسبوعين فقط قبل حادث الطائرة الذي كاد يؤدي بحياته (ص 132-133). لنستمع إلى تصريح الملك الراحل عندما أخبره Pierre Messmer، الوزير الأول في عهد الرئيس Pompidou ، بأن هذا الأخير ينوي العفو عن الجنرال أوفقير (الذي كان مدانا بالسجن المؤبد في جريمة اختطاف المهدي بنبركة) بالنظر إلى الخدمات الجليلة التي قدمها لفرنسا – يقول الحسن الثاني: R. -J'ai répondu: «tant mieux si vous le lavez, ça arrangera tout le monde»
II - وجهة نظر لمعالجة قضية المهدي بنبركة وباقي المختفين: لقد انتهى الأمر بإحالة البحث عن الحقيقة في قضية المهدي بنبركة، مثل قضايا باقي الأشخاص المختفين، إلى لجنة داخل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان. ولا مناص من الإقرار هنا بفشل العدالة الانتقالية كما مورست في بلادنا في الكشف عن الحقيقة في هذه القضايا الأساسية. كما أن الإنابات القضائية الفرنسية تم التعامل معها بتماطل عرقل المسار القضائي العادي بدوره. ونخلص من ذلك إلى أن حل هذا الملف بصفة خاصة يتطلب شجاعة سياسية من أهم الفاعلين السياسيين في البلاد المعنيين أكثر من غيرهم بهذا الملف، بالنظر إلى الدور الذي يمكن ويجب أن يلعبوه، لحله حلا نهائيا، وهؤلاء الفاعلون هم المؤسسة الملكية من جهة، والأحزاب السياسية الديمقراطية من جهة أخرى. - بالنسبة إلى المؤسسة الملكية، فإن مساهمتها في حل هذه القضية تعد حاسمة لعدة أسباب. فعن طريق إصدار أوامرها -التي لا نتصور عصيانها والتي توصف عن حق بالأوامر المطاعة- إلى الشهود الذين مازالوا أحياء للإدلاء بشهادتهم -في إطار ضمانات سنتحدث عنها لاحقا- فإن من شأن ذلك أن يعزز مشروعيتها، وسيؤكد أنه في قضايا الاختفاء والاغتيال السياسي هناك قطيعة نهائية مع الماضي، وضمانات جدية بالنسبة إلى المستقبل. وهذه المشروعية والمصداقية لا تقتصر على المجتمع المغربي، بل إنها تهم أيضا المجتمع الدولي. لقد حدثت هذه الانتهاكات الجسيمة في إطار صراع سياسي، وتقدمت عملية المصالحة أشواطا، ولكنها مازالت ناقصة لأن أطرافا أخرى لم تشملها هذه العملية، وخاصة بالنسبة إلى عائلة الفقيد الصغيرة وعائلات باقي الأشخاص المختفين، إضافة إلى المجتمع بأسره من المنظور الأشمل للإنصاف والمصالحة. - أما بالنسبة إلى الأحزاب والقوى الديمقراطية، فإن عليها أن تتوصل إلى اتفاق سياسي يدون في وثيقة مكتوبة عند الاقتضاء، لمعالجة هذا الملف، وغيره من الملفات المشابهة، على أساس جملة من المبادئ والضمانات: * المبدأ الأول: إن الكشف عن الحقيقة يجب أن يتضمن الكشف عن مصير المهدي بنبركة، بما في ذلك مآل جثمانه، وتحديد المسؤوليات السياسية ودور مختلف المنفذين والمشاركين مغاربة وأجانب. والأمر نفسه بالنسبة لباقي الأشخاص المختفين؛ * المبدأ الثاني: إن الكشف عن الحقيقة لن يستعمل لتصفية الحسابات السياسية أو الطعن في مشروعية النظام السياسي الحالي، بل سيتم الإقرار بفضل الملك محمد السادس ومساهمته الحاسمة في حل هذا الملف؛ * المبدأ الثالث: الاتفاق على إصدار عفو تشريعي يضمن لكل من يلقي الضوء على حقائق جديدة من شأنها المساهمة في الكشف عن الحقيقة إعفاءه من المتابعة الجنائية شريطة أن يصرح بكل المعلومات، وألا يخفي بعض الحقائق التي قد تظهر شهادات أخرى أن المعني بالأمر قد أخفاها، علما بأن أشكالا أخرى من المساءلة تبقى قائمة، بما في ذلك الإحالة على التقاعد والمساهمة في جبر الضرر بمختلف الأشكال الممكنة. المبدأ الرابع: الطلب من عائلة الشهيد المهدي بنبركة وعائلات الأشخاص المختفين الصفح عن كل من ساعد بشهادته في الوصول إلى الحقيقة إذا كان ممن ساهموا في الجريمة، شريطة أن يقدم اعتذاره ويقر بندمه ويطلب العفو، ويقبل بالمساهمة في عملية جبر الضرر، ومساعدة العدالة إزاء الآخرين الذين يرفضون المساهمة في كشف الحقيقة. المبدأ الخامس: الاتفاق بين القوى السياسية على أن تلتمس من الملك الموافقة على جبر ضرر الضحايا طبقا للمعايير الدولية، وإصدار أمره باستكمال تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، بما في ذلك تنفيذ التوصيات التي تدخل في الصلاحيات الملكية، ومن ضمنها المصادقة على أهم الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، ومن بينها نظام المحكمة الجنائية الدولية، وكذا تقديم اعتذار رسمي وعلني باسم الدولة وتكريم عائلة الشهيد المهدي بنبركة وغيرها من عائلات المختفين مجهولي المصير.