"العالم الجديد لن يبنيه أولئك الذين ينأون بأنفسهم بعيدا ويكتفون بدور المتفرج. بل يبنيه المتواجدون في الميدان، بملابس مزقتها العواصف وأجساد شوهتها الأحداث. الشرف يكون لأولئك الذين لا يبتعدون عن الحقيقة أبدا، حتى في أشد اللحظات عسرا وظلمة. أولئك الذين يحاولون دائما ولا يتركون الشتائم والإهانات، بل وحتى الهزائم، تنال من عزائمهم". نيلسون مانديلا من كان يصدق أن نيلسون مانديلا سينتصر يوما وتنتهي عقود مريرة من أقدم نظام للتمييز العنصري"Apartheid" في جنوب إفريقيا؟! من كان يعتقد، بعد كل الذي عاشته العديد من دول أمريكا اللاتينية، أنها ستخرج يوما من بطانة الاستبداد المطلق وتبني نموذجها الديمقراطي الخاص؟ قد يكون عدد المتفائلين ممن توقعوا ذلك قليل، لكنهم كانوا موجودين على أية حال وظلوا متشبثين بالأمل حتى آخر نفس! ففي أمريكا اللاتينية، عاشت دول عديدة سنوات من القمع والاضطهاد واجهتها الحركة اليسارية وإلى جانبها ما عُرف بلاهوت التحرير"Teología de la liberación" بالكثير من الصمود والأمل. وبعدما كان الحكم الشمولي يمسك بزمام كل شيء، من الجيش مرورا بالحكومة ومفاصل الاقتصاد ثم الإعلام، تمكنت هذه الدول من تحقيق التحول الديمقراطي عبر آلية التداول السلمي للسلطة. لقد تحقق ذلك أحيانا بفضل ميزان القوى الذين كانت كفته تميل لصالح المعارضة، وفي أحيان أخرى نتيجة للإرادة السياسية للحاكمين، مما سمح بالتفاوض بين السلطة والمعارضة حول آليات الانتقال الديمقراطي وحيثياته. ألا يحق لنا كمغاربة أن نصر على الأمل أيضا، رغم كل الردة والمثبطات التي تحيط بنا؟ الأمل في أن نجعل الكفة تميل يوما ما لصالح الانتقال الديمقراطي الفعلي وتحقيق مجتمع الحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، في ظل ملكية برلمانية بالمعايير الاسكندينافية، ولم لا!؟ ألا يمكن أن يكون الطريق نحو ذلك يستدعي، من بين أشياء أخرى، مصالحتنا مع المشاركة السياسية وإصرارنا على التعبير عن رأينا في كل العمليات الانتخابية، حتى وإن أرادوا عزلنا وإقصاءنا وتثبيط عزائمنا بالتيئيس المقصود؟ لا شك في أن طريقة تدبير العملية الانتخابية والتحكم في كل تفاصيله، من قبل وزارة الداخلية، جعل الكثيرين يفقدون الثقة في المؤسسات وفي المنتخبين، ويرفضون من ثمة المشاركة نهائيا في ما يعتبرونه مجرد "تمثيلية". فمثلا يُفرض على المواطنين التسجيل في اللوائح الانتخابية، بدل الاكتفاء بالإدلاء بالبطاقة الوطنية أثناء التصويت. وقد بينت التجربة أن هذه العملية ترافقها العديد من الاختلالات. البعض سجلوا أنفسهم في اللوائح، لكن عند التصويت وجدوا أن أسماءهم قد سقطت، في حين بقيت أسماء زوجاتهم أو أبنائهم، رغم أن كل المعلومات التي قدموها عند عملية التسجيل كانت صحيحة تماما! مسألة أخرى على درجة من الأهمية تتجلى في عدم تمكين المسجلين الجدد في اللوائح الانتخابية الراغبين في الترشيح من الحصول على شهادة التسجيل في الحال. أضف إلى ما سلف أن القانون والتقطيع الانتخابيين أيضا يفرزان نتائج متحكم فيها سلفا ولا يسمحان البتة بفرز أغلبية واضحة يمكنها تحمل مسؤولية ولايتها ومحاسبتها في ما بعد. بل يفرضان على الأحزاب الفائزة في النهاية عقد تحالفات هجينة يسهل التحكم فيها. كثيرون يعزفون عن التصويت لقناعتهم بأن صوتهم لن يغير شيئا مادام القرار الحقيقي لا يوجد لا بيد رئيس الحكومة ولا بيد رئيس الجهة أو البلدية أو الجماعة القروية. بل إن فئة عريضة من النشطاء والفاعلين السياسيين تعتقد جازمة أن المشاركة في العملية الانتخابية ستعمق من الأزمة وتمنح الشرعية للعبة "مخزنية" باتت مكشوفة ونتائجها معروفة سلفا! كما يجب ألا ننسى سياسة ترويض النخب التي تدعو إلى الإصلاح من الداخل. فهناك نهج حثيث يروم إدخال هذه الأخيرة إلى "بيت الطاعة". إذ ما تلبث أن تستسلم إلى مغريات الجاه والسلطة وتنسى طموحها في الإصلاح وخدمة المصلحة العامة، ومن ثمة يبدو وكأن الجميع فاسد وأن لا أمل مطلقا في وجود نخبة نزيهة ونظيفة اليد! لكن هل الحل هو القطيعة والمقاطعة النهائيين وعدم التسجيل في اللوائح الانتخابية، ومن ثمة العزوف عن المشاركة كناخبين ومنتخبين؟ أليس هذا بالضبط ما يريده أعداء التغيير بكل تلاوينهم؟ ألا ينبغي أن ننتبه إلى أن هناك سياسة ممنهجة تعمل جاهدة على تحييد المواطن عن المشاركة في الشأن العام؟ ألم تنطل علينا اللعبة، نحن الذين ننتظر أن تنضج الشروط يوما من أجل إحداث التغيير الحقيقي دون النضال والمعارضة من داخل المؤسسات، لنسقط بالتالي في وضعية الإقصاء، ونبدو كما لو كنا أقلية معزولة تعيش خارج الزمن ولا يعجبها العجب؟! أليس من الأجدى، رغم كل المعيقات السالفة الذكر، الإصرار على عدم ترك المقعد فارغا والعمل على المعارضة من داخل المؤسسات، مع مواصلة النضال بكل الوسائل المشروعة، في إطار جبهة ديمقراطية من أجل انتخابات أكثر نزاهة وشفافية وتعبيرا عن الإرادة الشعبية، بعيدا عن كل أساليب التحكم والوصاية باسم العرف والقانون !؟ إن نتائج المقاطعة/الإقصاء أبانت عن محدوديتها. بل تركت المجال مفتوحا أمام أدوات الاستبداد والمفسدين والمتاجرين بقضايا ومعتقدات المغاربة، خاصة التيارات المحافظة التي يمكن لطريقتها في التدبير أن تقود هذا البلد المتعدد والمتسامح في العمق إلى المجهول. يحدث هذا في ظل غياب شبه تام لأصوات المعارضة الجادة داخل المؤسسات المنتخبة، باستثناء قلة قليلة. صحيح أن هناك أزمة عدم ثقة حقيقية وهي أزمة عامة تعرفها حتى أعرق الديمقراطيات التمثيلية في العديد من بقاع العالم. فقد بينت التجربة أن القرارات الحقيقية لا توجد بيد الحكومات بل بيد المؤسسات المالية واللوبيات الاقتصادية الكبرى. لكن ذلك لا يجب أن يدفع المواطن إلى العزوف عن المشاركة في الشأن العام لأن هذا هو المراد والمبتغى تحديدا! إن كان علينا المشاركة في العملية الانتخابية، فمن أجل أن نراكم للتغيير التدريجي في اتجاه تحقيق السيادة الشعبية والديمقراطية الفعلية، وذلك عبر التعبير عن رأينا المخالف لما يريدونه أن يسود رغما عنا، وحتى نقول بأن الانتخابات ليست متاجرة لا بالدين ولا بالمال ولا بقضايا الوطن، بل هي مسؤولية أخلاقية وسياسية قبل كل شيء.