عندما يتأمل المرء خطاب وزارة التربية الوطنية وكيفية اشتغالها يجد أنها تُرَوِّج لمفاهيم خطِّية ووثوقية تدَّعي الموضوعية واليقين، لكنها تنتمي إلى مرحلة متجاوزَة من مراحل تطور العلوم بعقود طويلة. وهذا ما يفسر تبنِّيها لمنظور خطِّي يتجلى في ترديد مسؤوليها والمذكرات التربوية الصادرة عنها لمصطلحات ذات نزعة تقنية يؤدي اقترانها بمفهوم التربية إلى نسفه، لأنها تتعارض مع طبيعته. وقد نجم عن اعتماد الوزارة لهذا المنظور تبنِّيها لما اصطلح على تسميته في الأدبيات التربوية ب»البيداغوجية الموضوعية»، فأصبح اتجاهها مطبوعا بتفكير خَطِّي نتج عنه الحديث عن «هندسة التكوين» وما يرتبط بها من مصطلحات أخرى ك»الجودة» و»الفحص»… لا يعي أصحاب التفكير الخطِّي أن الخطِّية لا تقبل الاختلاف، ما يعني أنها ترفض التواصل الذي بدونه لا يمكن الحديث عن أي تحوُّل معرفي، ولا عن أي تعلُّم أو نمو… ويعود ذلك إلى أنهم لا يدركون أن الواقع التربوي مختلف ومتعدِّد فكريا ومنهجيا… وأن «البيداغوجة الموضوعية» تعمل على اختزال تعدّده وتنوّعه، إذ تسعى إلى أجرأة الأهداف التعليمية. لكن ذلك يفترض وحدة العلاقات بين هذه الأهداف وانسجامها، وهو ما لا يسمح به تعقُّد الواقع التربوي، لأن الانسجام يُبنى من خلال القيام باختيارات تؤدي إلى إعطاء امتياز لبعض المفاهيم والقيم والتخصصات والمنهجيات… على حساب أخرى، مما تنجم عنه أشكال عديدة من الإقصاء. لذلك، ليست «البيداغوجية الموضوعية» وبِنْتُها «هندسة التكوين» سوى اختزال وتبسيط لما هو معقَّد. وإذا كانت «البيداغوجية الموضوعية» تدَّعي «عقلنة» البرامج الدراسية لكي تضمن «تكوينا نوعيا أفضل»، فإن استراتيجيتها تقود إلى اختزال مزدوج للأمور: فهي تسعى، من جهة، إلى تحويل الأحلام إلى نسب قابلة للتحقُّق، ما يعني عملها على توقيف الإنسان عن الحلم وتحويله إلى «واقعي»، وتختزل، من جهة ثانية، مختلف وجهات النظر التي يتم التعبير عنها في فضاء المدرسة عبر رفض التعدد، ما يعني تدعيمها لاختيارات معينة على حساب أخرى. تقوم «البيداغوجية الموضوعية» على إرادة النجاح التي تنطوي بدورها على رغبة، ما يقودها إلى الفشل، لأنه لا يمكن تحقيق كل ما يدخل في إطار نظام الرغبة. فلو كان ذلك ممكنا لحُلَّت كل مشاكل البشرية منذ القدم. وهذا ما يكاد يُجمع عليه مختلف المهتمين بالتحليل النفسي الذين يَرَوْن عدم قدرة الإنسان على الإنجاز الكلي لكل ما يدخل في إطار نظام الرغبة، ما يسمح بالاختلاف الذي يفضي إلى تحسين الإنسان لظروفه وأحواله باستمرار دون بلوغ الاكتمال. تفرض «البيداغوجية الموضوعية» على واضعي المناهج والبرامج تقديم وصفات جاهزة لتجنب شبح الفشل، لكننا غالبا ما نجد في الواقع اختلافات كثيرة بين أهداف الأساتذة الذين يُدَرّسون المادة الدراسية الواحدة… كما أن هناك اختلافات بين هؤلاء وأهداف الإدارة… ومن ثمة، لا يمكن الجزم بامتلاك التلميذ القدرة على تحقيق أهداف البرنامج الدراسي في المدرسة، ولا عقب تخرُّجه منها. من المستحيل قبول التخطيط الصارم للتدريس، حيث تأكد أن النظريات التي تتقدم بوصفات جاهزة هي نظريات غير ملائمة. وتعود الصعوبات التي يطرحها التخطيط الصارم إلى وجود هوة فاصلة بين النظرية والممارسة؛ أي بين الخطاب الرسمي للمدرسة وإنجازات المدرس في قاعة الدرس، حيث تحول طبيعة الأشياء دون التطابق الكلي بين النظرية والممارسة. فالصرامة الدوغمائية لا تتلاءم مع الواقع؛ إذ ليس هناك نوع واحد من التلاميذ، كما أن التاريخ غير ساكن، مما يفرض ضرورة التكيف المستمر مع تعددية الواقع وتنوعه وتعقده… وتكمن خطورة التخطيط الصارم للطرائق البيداغوجية في إمكانية حيلولته دون تفاعل التلميذ وإنصافه وعفويته، وفي إفضائه إلى إقصاء الجانب الوجداني للتلميذ، والسقوط في التصنع والخداع والغش… وبذلك، تتعارض خطِّية الطرائق البيداغوجية مع العلاقة التربوية السليمة… لا تتضمن الغايات البيداغوجية في ذاتها الطرائق القادرة على تجسيدها؛ إذ يجب ابتكارها باستمرار مع ضمان انسجامها مع استراتيجيتنا… ومن الخطأ السقوط في منظور ميكانيكي، والاعتقاد بوجود طريقة واحدة ووحيدة تصلح لتحقيق هذا الهدف وتلائم كافة التلاميذ في كل الأوضاع… لقد أدى التطور العلمي إلى الكشف عن عيوب «البيداغوجية الموضوعية» وتجاوزها، فأصبح التدريس في المجتمعات المنفتحة عملية تأخذ بعين الاعتبار اللانظام واللاستقرار واللاوثوق والتعقد والفرادة وصراع القيم والأوضاع المبهمة للممارسة… وهذا ما جعل حصر التربية في المجال البيداغوجي في «التربية الموضوعية»، باسم العقلنة والشفافية والوضوح، يجعل البيداغوجيا غير ذات دلالة وبدون معنى… الكتاب المدرسي مشروع للإنجاز. لكن، مهما بلغ وضوحه، فإنه لا يمكن ترجمته بشكل سحري إلى أفعال، ومن ثمة وجوب استعمال المُدرِّس لخياله. وهذه عملية معقدة ومتعددة، حيث يمكن أن ننطلق من التصور التدريسي نفسه، لكن تكوين المدرس وتعدد الواقع المجتمعي واختلاف الواقع المدرسي قد يفرض على المدرس القيام بإخراج درس معين بأسلوب مختلف عن إخراج هذا الدرس نفسه من لدن مدرس آخر… يتضمن الخطاب البيداغوجي تأملا في الممارسة التربوية، كما يهدف إلى توجيه عملها. وما دامت التربية تتسم بتعقد كبير، فلا يستطيع هذا الخطاب أن يدلَّ بدقه على ما يجب فعله في الفصل الدراسي، بل كل ما في إمكانه هو التعبير بأسلوب متعدِّد عن تجارب شخصية لا غير. وهذا ما جعل البيداغوجيا تبدو تعبيرا أدبيا عن الواقع التربوي، كما تفعل فنون الشعر والرواية والتشكيل والموسيقى التي تشكل كلها تعبيرات عن الحياة. وإذا كانت هذه الفنون تعبيرات عن الواقع تؤكد أن هناك طرقا حقيقية ومتعددة لإخراج mise en scène الحياة اليومية، ما جعل الحياة مسرحية أو مسرحيات، فالبيداغوجيا تقول الشيء نفسه. إنها تثقفنا حول إخراج مهنة التدريس، ما يكشف لنا البيداغوجيا بطريقة ملموسة وأن التربية هي حقا ممارسة لفنون المشهد! (Daignault). يرى «ميشيل سير» Mchel Serrres أنه ليس هناك تعلُّم بدون سفر، والسفر يقتضي الانطلاق، والانطلاق تمزق، حيث ينسلخ الفرد مما هو عليه نحو وضعية ومعرفة مغايرتين… ويقتضي التدريس تكوينا عميقا يمكِّن المدرس من استعمال خياله لخلق شروط ملائمة تجعل المتعلِّم يتحمل مسؤولية تعلُّمه بشكل تلقائي ليتمكن من السفر في الذات والعالم والآخر ومعرفتهم… كما أن التدريس والتعلُّم هما، على نحو ما، كالحب والشعر، حيث ينزلان في الموج ويتدبَّران أمرهما فيه. وبما أنهما كذلك، فمن أعمق ما فيهما أنهما لا يُحدَّدان بدقة موضوع حديثهما على غرار ما تفعل «هندسة التكوين». وإذا ما فعلا، جازفا بفقدان هويتهما وغادرا نوعهما، إذ هناك أشياء غير قابلة للتحديد الدقيق من حيث طبيعتها، لأنها قائمة على التجربة ومرتبطة بالفرد وبحياته. لذلك، فالمدرس والمتعلم هما كالعاشق الذي يعيد باستمرار تحديد مفهوم الحب بتجربته الشخصية. ويعني ذلك أنه يوجد مفهوم للتدريس بعدد المدرسين، ويوجد مفهوم للتعلُّم بعدد المتعلمين، كما يوجد مفهوم لكل من الشعر والحب وإخراجات لهما بعدد الشعراء والعاشقين… كاتب