حين كنت طالبا في سنتي الأولى بكلية الإقتصاد، تعرفت في مادة الإقتصاد السياسي على قانون كريشام loi de GRESHAM ، المنسوب إلى أحد المفكرين الإقتصاديين الإنجليز النجباء الذين عاشوا في القرن السادس عشر. متن القانون بسيط : "النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من التداول (la mauvaise monnaie chasse la bonne)"، فحين كانت قيمة النقود تقاس بمعادنها، لاحظ هذا الإقتصادي، أن الناس يحتفظون بالنقود الجيدة والخالصة المعدن مخبئة ويميلون إلى استعمال النقود الرديئة والقديمة. لا أحد يبادل نقودا جيدة بأخرى رديئة إذا كانت لهما نفس القدرة الشرائية، وينتهي الأمر بأن يظل النقد الرديء وحده في التداول. في عالم الاقتصاد أصبح هذا القانون جزء من تاريخ الأفكار الاقتصادية وفقد راهنيته منذ زمن طويل، لكنه بنظري ما يزال قادرا على تفسير ظاهرة أخرى في عالم السياسة. لماذا ينتهي الأمر بأن يظل السياسي الرديء وحده في سوق السياسية؟ جزء من الجواب يقدمه قانون كريشام الذي حدثكم عنه، لكن ببعض التعديلات. ففي الأوقات التي يفقد فيها الناس الثقة في السياسة والسياسيين وحين تصبح السياسة شبهة، يتورع الكثير من الصالحين عن الخوض في غمارها. وإذا كانت النقود الجيدة تخبئ في الصناديق الحصينة، فإن السياسي الجيد يختار الإنزواء إلى الفضاء الخاص أو المتابعة من مقاعد المقاهي أو صفحات الفيسبوك مخلفا الساحة للسياسي الرديء الذي لن يهمه كثيرا رأي الناس فيه وليس لديه ما يخسره في النهاية. ينتهي الأمر بطرد السياسي الجيد من سوق السياسة، وبمزيد من فقدان الثقة والريبة من قبل الجمهور الذي يقابل بدوره بمزيد من التورع من قبل النزهاء ، في حلقة مفرغة تكاد لا تنتهي. هناك دائما مغامرون يختارون كسر الحلقة وخوض الغمار، لكنهم يخوضون الصراع على جبهتين، جبهة الفاسدين التي لا يمكن أن تقبل بهم في ساحة تعلم أنهم يسعون إلى تغيير قوانينها، وجبهة الجمهور التي تواجههم بأكثر المعايير مثالية وصلابة ليس في الفضاء العام فقط بل حتى في الفضاء الخاص وفي منطق التداخل بين العام والحميمي. أصبح مطلوبا اليوم أن نعيد النظر في الموقف من السياسة، بل وأن نرتاب منه ومن الإعلام الذي يعمل على تكريسه عبر تسفيه السياسة، فقد ساهمنا في صناعة ما يكفي من الرداءة.