لا يخفى على أحد أن البحث العلمي له مقومات وشروط وجب احترامها، ليتم التفريق بين المعرفة العلمية المبنية على مبادئ وأسس ومناهج محددة حسب مجال البحث قصد المساهمة في حل بعض المشكلات الفكرية أو العملية، وبين المعرفة العامية البعيدة عن هذه الأسس المنهجية والموضوعية. من هنا، فإن جودة كل منتوج علمي لا تقاس بكمه بقدر ما تقاس بمدى احترامه للمعايير العلمية التي تجرده من الإغراق في الذاتية والتحيز والالتزام النسبي بالموضوعية، وتنقله من الإبهام والضبابية إلى الوضوح والتزام الدقة، ومن العشوائية في التحليل إلى قياس نتائج وخلاصات واضحة. لذلك، فإنه مهما تعددت هويات الكتاب ومعتقداتهم واتجاهاتهم الفكرية والإيديولوجية، فإن تجردهم الموضوعي، يبقى رهانا كبيرا للدفع بالبحث العلمي وعدم تنميطه وفقا لزاوية معينة تخدم اتجاها دون آخر، والأمر الذي لا يتم إلا بإتباع سلوك علمي منظم ومضبوط بقواعد البحث العلمي. و في بلد مثل المغرب يمتاز بضعف وقلة الإنتاجات العلمية العامة و المتخصصة منها و، كنا قد استبشرنا خيرا بصدور مولود جديد اعتقدنا أنه سيعزز مكتبات البحث العلمي لزميلنا الأستاذ محمد كريم تحت عنوان «الاقتصاد الاجتماعي بالمغرب التنمية المعاقة وجدلية الاقتصاد والمجتمع» ، ويكون مرجعا رهن إشارة النخب الثقافية والفاعلين التنمويين وطلبة الجامعات، في مجال يخص ما أصبح يصطلح عليه بالاقتصاد الاجتماعي إلا أننا بقدر ما كان طمعنا خيرا بأن يكون هذا الكتاب يشكل ، قيمة إضافية لساحتنا الثقافية والعلمية الناذرة من الإنتاجات التي تعزز مكانة البحث العلمي بالمغرب، بقدر ما كانت خيبة أملنا كبيرة بعد الإطلاع عليه. ذلك أنه ومهما تعددت الرؤى وزوايا التفكير بين الباحثين، وهو أمر محمود ومقبول لأنه يخلق جوا من التفاعل ومنبرا للتناظر و التثاقف في مختلف القضايا التي تشكل اختلافا بين مختلف المتخصصين، فإن هذا الاختلاف المحمود يبقى مرهونا بحسن النوايا ومدى القدرة على التزام مقصد خدمة البحث العلمي. انطلاقا من هذا، يأتي ردنا هذا على زميلنا الذي بعد إطلاعنا على مضامين كتابه، لم نجد فيه احتراما لأدبيات البحث العلمي المفروض توفرها في أهل ميدان التدريس والمحاضرة، بله أهل الاختصاص. ونعتبر في محاولتنا هاته أن هذا الرد قبل أن يكون حقا شخصيا، بالنظر إلى أن أحد فقرات الكتاب تناولت بالنقد اتجاهنا في البحث في مجال تخصص الاقتصاد الاجتماعي بالتجريح الخالي من التقدير والاحترام الذي يفرضه واجب الزمالة والعاري من أدبيات الحوار العلمي الراقي بقيمه، فانه كذلك حق مشترك بيني وبين من اطلع على هذا الكتاب المذكور ، فالأمانة العلمية لا تجعلنا في موقع التغاضي عن المغالطات العلمية المتضمنة فيه، لأنها تعتبر انتقاصا لقيمة موضوعية البحث العلمي ومحاولة للتلاعب بالأسس المفاهيمية لبعض المصطلحات. بل الأنكى من ذلك و الأمر، هو أن محاولة زميلنا الخوض في مجال تخصص الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، كانت محاولة غير موفقة بامتياز، لأنه تأكد بأنه تحدث في الكتاب عن كل شيء، إلا الاقتصاد الاجتماعي كما هو معلوم، باعتباره حقلا معرفيا مميزا بمناهجه الخاصة به وبمجالات بحته وإشكالاته التنموية، وبمنظريه العالميين والوطنيين كما يخبر ذلك الطلاب قبل المتخصصين من أساتذة وفاعلين تنمويين. لعلنا من خلال هذه الصفحات الأولية المعدودة، نكون قد ساهمنا في جانب من الحراك العلمي الواجب قيامه، داخل مؤسسات البحث العلمي، راغبين في البحث والتنقيب الدقيقين للوصول إلى المعرفة السليمة،وملتزمين بالرغم من كل ذلك، بقيم الحوار العلمي ومؤمنين بنسبيته التي لخصها الإمام الشافعي في «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». كما نشير أيضا أن الأستاذ قد تعرض بتجريحه ملمحا وصريحا أحيانا إلى عدد من مجهودات ونشاطات مؤسسات البحث العلمي وأساتذتها وفعالياتها بكليتنا ومن ضمنها ما يتعلق بنا التي هي موضوع ردنا الذي سندرجه في حلقات متتالية لأن منزلقات وادعاءات الأستاذ كثيرة لا تتسع لمقال واحد. المنزلق الأول: في تعريف الاقتصاد وتاريخه لقد عرف الأستاذ الاقتصاد دون إحالة على أنه « فن تدبير الموارد على اعتبار محدودية هذه الموارد مقابل تعدد الحاجيات»1 في حين أن هناك عدة تسميات لازال الاختلاف فيها واردا، والنقاش دائرا حولها، إلى يومنا هذا ، هذا النقاش الذي يندرج في إطار السؤال العريض المتداول بين الاقتصاديين، وهو هل يمكن اعتبار الاقتصاد علما مستقلا بذاته ؟ ومن هنا بدأ استعمال كلمات متباينة في منطوقها ومعناها أيضا، فهناك من يسميه علم الاقتصاد la Science économique و هناك من يصطلح عليه بالعلوم الاقتصاديةles Sciences économiques بل هناك من يسميه فقط اقتصاد Economie أو الاقتصادي l?économique أو الاقتصاد السياسي l?économie politique أو التحليل الاقتصادي 2l?analyse économique . هذه المفاهيم تختلف عن بعضها البعض، ولكننا حينما ندرس طلبتنا المبتدئين في السنة الأولى فإننا نعتبرها مفاهيم متشابهة فقط على المستوى البيداغوجي، حتى لا يلتبس الأمر على الطالب المبتدئ، ولكن حينما يتعلق الأمر بمؤلف يحسب نفسه علميا فإن الفصل وتبيان أوجه الاختلاف المفاهمي يفرض نفسه على الكاتب المحسوب على الباحثين الاقتصاديين. إن المفهوم الذي أطلقه الأستاذ لا ينطبق على الاقتصاد بقدر ما هو تعريف للاقتصاد السياسي، الذي عرفه الاقتصادي المشهور R Barre ، بأنه علم إدارة الموارد النادرة وتنظيم الجهود من أجل إعطاء قيمة للعالم، كما عرفه L Robbins ، بأنه العلم الذي يدرس السلوك البشري من حيث العلاقة بين الغايات والوسائل النادرة والقابلة للاستعمالات التبادلية3 . فأغلب التعاريف التي تتبنى الطرح الذي أتى به الأستاذ تتحدث عن الاقتصاد السياسي أو علم الاقتصاد وليس الاقتصاد فحسب. أما عن تجزيء كلمة اقتصاد، حيث يبدو الأستاذ غير متأكد من كلامه لأنه يستعمل عبارة « تقريبا «، فقد قال فيه بأن مصطلح «اقتصاد» مختزل في جذور يونانية «واكوس ناموس»، وأن واكوس تفيد بيت ونامس تفيد فن أو مهارة. و واقع الحال يحتم علينا أن نسمي الأشياء بمسمياتها، فناموس تعني القوانين والمساطر4، وبذلك تكون كلمة اقتصاد تعني تدبير شؤون البيت، وكان ينبغي انتظار الاقتصادي ( 1615) de Montchrestien A. في بداية القرن 17 ليضيف كلمة politique أي السياسي ليصبح ما عرفه الأستاذ خطأ، يسمى بالاقتصاد السياسي. أما في فصله الأول من القسم الأول، وفي إطار حديثه عن الجذور النظرية والفكرية لجدلية السياسي والاجتماعي في الحقل الاقتصادي، يبدأ الأستاذ سرده لتاريخ الفكر الاقتصادي نقلا عن مجموعة من المدرسين5 لمادة الاقتصاد،و الذين يعتبرون كما اعتبر الأستاذ أن الفكر الاقتصادي ابتدأ مع المدرسة التجارية أو الميركانتيلية، وهذا يعني أنه لم يكن هناك اقتصاد ولا دولة و لا بيع ولا شراء قبل هذه المدرسة، و أن علماء ما قبل هذه المدرسة كانوا جالسين على نخب الشاي والقهوة وحتى الخمور، ولا يفكرون في أمور دنياهم. وطبيعي جدا أن من تلقى دروسا من الغرب أن يجهل تراث وفكر بلده، ألم تكن هناك تجارة دولية بالمعنى المتعارف عليه الآن في العصور القديمة؟ ألم يتحدث المقريزي قبل كريشام عن نظرية «البخس من النقود يفر أجودها»؟ La mauvaise monnaie sache la bonne والجدير بالذكر أننا نجد حتى الباحثين في النظام الإسلامي في غالبيتهم « ينهجون منهج الديمقراطيين الرأسماليين، ويستعيرون مصطلحا تهم وأنماطهم، فيقسمون علم الاقتصاد إلى نفس الأقسام الرئيسية الواردة في كتب الرأسماليين، ثم يحاولون جاهدين إقامة هيكل جديد « إسلامي» يتخذونه كل أطره من هيكل المذهبية الغربية, وهكذا تجد العنت والحرج فيما تتمخض عنه مثل هذه الدراسات، ويبدو الهيكل الإسلامي الجديد مشوها ممسوخا يعلوه الضعف والتفكك، نظرا لأن هؤلاء الباحثين يحاولون إيجاد نوع من الاتساق بين ما يقرره الإسلام من أصول وما يجري في الحياة الواقعية من أمور هي بالضرورة نتيجة لقيام مذهبية معينة مغايرة للمذهبية الإسلامية. وإنما نقع في هذا الحرج لا لمجرد رغبتنا في تحقيق هذا الاتساق أو تلك المواءمة، ولكن لأن منطق منهاجنا الغربي يؤدي بنا يقينا إلى نوع من التضارب، بحيث نحس التعارض بين ما نريد تحقيقه وبين ما نحن بصدد البحث فيه، أو إن شئت بين المذهبية الإسلامية ونتائج المنهاج الغربي المنطقية، حينئذ لا نجد محيصا عن محاولة التوفيق بين المتعارضات، وقد نذهب في سبيل ذلك الى تأويل نتعسف فيه أو إلى تحميل لمعنى ما لا يحتمل، أو إلى التغاضي عن حقيقة شرعية مقررة، و كل ذلك خطأ بالغ الضرر، ناشئ عن خطأ في أسلوب البحث وهو اختيار المنهاج الصحيح الملائم للمذهبية الإسلامية»6 . كما أحيل السادة القراء على الفقرة الموجودة فوق هذه الفقرة ليلاحظوا الالتباس الحاصل لدي أستاذنا الجليل حيث يناقض كلامه ويدعي أن الاقتصاد يبدأ من الميركانتيلية. وقد ذكر الدكتور محمود أبو السعود7، أيضا مثالا رائعا ساقه الغزالي حيث اعتبره من أروع ما كتب في الاقتصاد القديم، ومن أقدم ما قرر من حقائق عن النقود والتداول وما يستلزمه التداول من إنتاج وتوزيع، ... يقرر الغزالي ضرورة المعارضة أو ما نسميه المقايضة Troc ، ويرى أعيان المعارضة تفتقر إلى «متوسط بينها يحكم بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتيب الرتب، علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي» وهو ما يطلق عليه وظيفة «واسطة التبادل»( Médium of Exchange )ووظيفة مقياس القيمة( Standard of Value )، ثم يقرر الغزالي أن الخطأ أن يكون النقد مطلوبا لذاته، ولو كان كذلك لما أدى وظيفته كمقياس صحيح للقيمة، حيث يقول الغزالي و هو يتحدث عن النقود: « لا غرض فيه وهو وسيلة لكل غرض». هذا نموذج بسيط لنبين فقط للأستاذ أن كل النظريات المسنودة خطأ لعلماء الغرب، تجد لا محالة جذورا لها عند علماء المسلمين.