في حضن ما سمّي خلال منتصف القرن الماضي إشكالية «الحقيقة والأيديولوجية»، أسند المثقف إلى نفسه مهمّة محاربة الوعي المغلوط ومقاومة الاستلاب الفكري. على هذا الأساس، كان التمييز يتم بين أيديولوجيا صائبة تسير سير التاريخ وأخرى معاكسة لاتجاهه، مناوئة لمنطقه. على هذا النحو، كان تصنيف مواقف المثقفين يتم وفق اختلاف الأيديولوجيات التي يعتنقونها والأفكار التي يعتقدون حقيقتها. غير أن الخلخلة التي أصابت الثنائي حقيقة/ أيديولوجيا وما تمخّض عن ذلك من ضمور مفهوم الأيديولوجيا ذاته، جعلا الاختلاف بين المثقفين لا يدور اليوم حول حقائق بعينها، وإنما غدا يمتد إلى مقومات الحقيقة ونظام إنتاجها. أصبح المثقفون يختلفون، ليس حول صحة القضايا وصوابها، وإنما حول الخطابات التي تتمحور حولها، ومعايير الحقيقة ومن ثمّ سبل التوصّل إليها، حول منابر الحقيقة وفضاءات إنتاجها. مجمل القول إن الصراع الثقافي أصبح يدور اليوم حول إقرار نظام بعينه لإنتاج الحقيقة، كما بيّن فوكو. إنّه صراع بين من يحاولون أن يرسخوا في الأذهان أن الحقيقة ليست بنت هذه الأرض، وأنها قيلت منذ غابر الأزمان، وأنها لا تُغزى غزواً، ولا تكتسح اكتساحاً، وإنما تدرك توّاً، فتؤخذ عمّن لهم الحقّ في نقلها… صراع يدور بين هؤلاء ومن يسعون إلى أن يبيّنوا أن الحقائق ليست طاهرة نقية، وإنما هي ملطخة بالزمن، عالقة بالتاريخ. وأنها أخطاء تم تصحيحها، فهي لا تتجلى عند نور أوّل صباح، وإنما تنتزع انتزاعاً. وأنها وليدة حروب وآلام. وهي لا تنفك تضمد جراحها وتصحّح نفسها، بل إنها لا تنفك تعيد النظر في أدوات تمحيصها ومعايير صدقها ومناهج بحثها. إلا أن الأهم من ذلك كون المسألة أخذت تتعدى الطرح الإبيستمولوجي لترقى إلى الشرط الإبيستيمي، وتأخذ بعين الاعتبار مجمل القواعد التي يُدبّر بها أمر الحقيقة في المجتمع. فلم تعد الحقيقة هي «مجموع الأشياء التي يتعيّن اكتشافها وجعل الآخرين يتقبلونها»، وإنما «هي مجموع القواعد التي يمكن بمقتضاها أن نفرز ما هو حقيقي عمّا ليس كذلك، وننسب إلى الحقيقي سلطة ذات تأثيرات خاصة». لن تغدو مهمة المثقف، والحالة هذه، إقناع الناس بحقائق بعينها، و»نشر الوعي بينهم»، وإنما تغيير نظام إنتاج الحقيقة الذي يعيشون في حضنه. معنى ذلك أن هذه المهمة لا تنحصر في دور المنطقي الذي يعيّن معايير الصدق والصّلاحية، ولا في دور الإبيستمولوجي الذي يحدّد «قواعد المنهج»، ولا في دور الأيديولوجي الذي «يفنّد عقيدة الآخر»، ولا في دور الأخلاقي الذي يسدي النصيحة، وإنما تتمثل في دور من يرعى «سياسة الحقيقة» ويعمل من أجل إقرار القواعد التي يُدبّر بها أمر الحقيقة في المجتمع، وسَنّ الأنظمة التي تتحكم في توليد الخطابات ونشرها وتداولها. ليست مهمة المثقف، والحالة هذه، الدفاع عن حقائق بعينها، وإنما تغيير «الاقتصاد السياسي للحقيقة»، ومراجعة «نظام الخطاب». عن «العربي الجديد»