منذ أن تحدث الملك عن «الثروة اللامادية» للمغرب في خطاب العرش ل30 يوليوز الماضي، صار هذا المفهوم وكيفية قياسه، وحجمه محط تحليلات وأبحاث الخبراء. وقد اجتمع مجموعة منهم في المدرسة المحمدية للمهندسين مؤخرا بالرباط لتدارس سبل استثمار الرأسمال اللامادي للمغرب، في إطار «منتدى المدرسة المحمدية للمهندسين والمقاولات» لماذا أصبح النقاش حول الثروة اللامادية وقيمتها الحقيقية في المغرب يتصدّر المشهدين الإعلامي والأكاديمي بالمغرب منذ أكثر من ستة أشهر؟ ما السياق الذي يفسّر تناول هذا الموضوع في الخطاب الملكي بمناسبة ذكرى عيد العرش؟ ولماذا أمر بإجراء بحث لتقييم حجم الثروة اللامادية؟ في سياق تساؤله الشهير بعبارة «أين هي الثروة؟»، ثم ماذا يعني الرأسمال غير المادي بالنسبة للاقتصاد ومستوى عيش المواطنين؟ وما فائدة احتساب قيمته؟ وهل لذلك من انعكاسات على التنمية؟ سيل من الأسئلة تقاطرت في ليلة باردة من ليالي الرباط، مؤخرا، سرعان ما أدفأتها أجوبة متخصّصين وخبراء لبّوا دعوة مجموعة شابة من الطلبة المهندسين بالمدرسة المحمدية للمهندسين، المشكّلين لما يُعرف ب «منتدى المدرسة المحمدية للمهندسين والمقاولات»، والتي يطفئ هذه السنة شمعته الواحدة والعشرين، باعتباره أحد أغنى المشاتل التي تقصدها كبريات المقاولات المغربية بحثا عن المهندسين. فهم خاطئ للخطاب الملكي «الموضوع قديم جدا، ولم يظهر مع الخطاب الملكي الأخير، وهناك أدبيات صدرت منذ الخمسينيات حول هذا الموضوع»، يقول هشام صدوق، الأستاذ الباحث في الاقتصاد بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي. صدوق قال إن الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد العرش، لم يفهم جيدا، «لأن الهدف ليس هو قياس الثروة غير المادية، باعتبار ذلك شبه مستحيل، لكن أهم ما في الخطاب الملكي هو السؤال الذي طرح فيه». الباحث الاقتصادي قال إن مؤشر الناتج الداخلي الخام المعتمد، حاليا، في قياس اقتصاديات الدول، يعاني من كثير من الانتقادات، «والمشكلة أن جزءا كبيرا من الاقتصاد المغربي غير قابل للتقييم، وهو ما يعرف بالقطاع غير المهيكل والإنتاج المنزلي، وبالتالي هو لا يعكس مستوى معيشتنا وإنتاجنا، وأصل المشكل هو أننا نقيس أشياء لا تعكس الحقيقة، وصاحب القرار السياسي يستند عليها، وبالتالي لا تكون النتيجة المرجوة». تنبيه إلى أن المقصود بخطاب العرش ليس هو قياس الثروة غير المادية في حدّ ذاتها، كما صرح به ممثل بنك المغرب في هذه الندوة، محمد تاعموتي الذي قال أمام جمهور مكوّن أساسا من الطلبة المهندسين وطلبة الاقتصاد والإحصاء، إن هناك نوعا من سوء الفهم سائد حول الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش الأخير، لأن المقصود فيه حسب رأيه، لم يكن هو الثروة غير المادية، بل مقاربة أخرى في تحديد قيمة البلدان، وهي الرأسمال عوض الناتج الداخلي الخام. تاعموتي أوضح أن الناتج الداخلي الخام هو مجرد احتساب لإجمالي قيمة ما تم إنتاجه في سنة معيّنة، بينما الرأسمال هو شيء آخر ثابت، ومعرفة كيفية تطوّره أهم من معرفة الناتج الداخلي الخام. خبير بنك المغرب حاول تبسيط الأمر وضرب المثال بدكان للبقالة، يقوم صاحبه في نهاية العام باحتساب مجموع قيمة البضاعة التي توجد فيه، فإذا وجد أنها نفس قيمة السنة الماضية أو أكثر منها، فهذا إيجابي. أما إذا كانت أقل فهذا معناه أنه استهلك جزءا من رأس المال، وهذا خطير. «من المعروف بأن الناتج الداخلي الخام يواجه انتقادات كثيرة. فالقيام –مثلا- بحادث سير يساهم في نمو الناتج الداخلي الخام من الناحية الاقتصادية، فهل الحادث أمر إيجابي في حقيقة الأمر؟ وبالتالي هل ارتفاع هذا الناتج هو بالضرورة أمر إيجابي؟». اتفاق بين المتدخّلين في التنبيه ّإلى حقيقة ما قصده الخطاب الملكي لم يمنع هشام صدوق من التلميح إلى كون بنك المغرب يعتمد في مقارباته الاقتصادية على نفس منهجية المؤسسات المالية الدولية. «النموذج الذي تفرضه المؤسسات المالية الدولية والوطنية لا يهدف حقا إلى تحقيق الرفاه الاجتماعي، لهذا تصبح حادثة السير عاملا إيجابيا في الناتج الداخلي الخام، ويكون إنتاج قنينة ماء بمثابة إضافة إيجابية لهذا الناتج، لكنه قد ينمّ عن تدمير للبيئة، وأخشى أن نصل، يوما، إلى رأسمال غير مادي سلبي.. الموضوع مغر على المستوى النظري لكنه ليس عمليا». اللامادي وتدارك الخصاص المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، مركز التفكير المرتبط مباشرة بالمؤسسة الملكية، والمتّسم بكثير من التكتّم وقلة الإفصاح عن تقاريره، كان بدوره حاضرا في ضيافة الطلبة المهندسين. «هناك طرق مختلفة في تناول هذا الموضوع. وأنا سأعتمد السياسات العمومية كمدخل»، يقول ممثّل المعهد في هذه الندوة، سعيد مفتي. هذا الأخير قال إن السياق الذي طرح فيه هذا المفهوم هو الخطاب الملكي الأخير لذكرى عيد العرش، «حيث أعلن عن أهمية إطلاق عملية تقييم للرأسمال غير المادي على أساس العمل الذي قام به البنك الدولي، وهذا اعتراف غير مباشر بمساءلة نموذجنا التنموي، لمعرفة هل هو فعال أم لا، والتفكير في فعاليته الاقتصادية». المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية لم يتأخر في تناول هذا الموضوع، «بل قمنا في المعهد بعدد من الأعمال المرتبطة بهذا المجال، منها دراسات حول التنمية البشرية والتي كشفت عن كثير من أوجه الخصاص، وأبانت عن حدود نموذجنا التنموي في توفير فرص الشغل، وعن وجود عناصر متعددة من الرأسمال غير المادي التي يمكنها المساعدة في تطوير هذا النموذج التنموي المغربي». مفتي أحال على الدراسات التي قام بها البنك الدولي، وأبانت أن المغرب يتوفر على رأسمال غير مادي مرتفع مقارنة بدول الجوار والمحيط المتوسطي، «وجعل الرأسمال غير المادي محورا لخلق الثروات، باعتباره العامل الأكثر تأثيرا، يعني أن سياساتنا العمومية يجب أن تتجه نحو تقوية هده المكونات الأساسية للثروة، وهذا يتمثل في الرأسمال البشري والمؤسساتي والاجتماعي والشراكات والاتفاقات التي راكمتها بلادنا والموروث الثقافي…». هدف اعتبره سعيد مفتي طموحا ومشروعا «لبلد يريد تسريع وتيرة نموه، لكن هناك عوامل حاسمة في نجاحه؛ أولها التملك الجماعي بين مجموع الفاعلين، وهذا ما أعتقد أنه تحقق من خلال النقاش الواسع الذي نشهده، ثم هناك عامل النظام الإعلامي الوطني، من استطلاعات ودراسات دورية. والعامل الثالث هو سياسة انتقائية للإصلاحات التي نقدم عليها لكنها لا تعطي النتائج المنتظرة منها». هذه هي الثروة غير المادية إدريس إيفينا، أستاذ آخر من المعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، قال إن الثروة التي يخلقها المغرب تبقى دون طموحه، «103 مليارات دولار في 2013 تبقى قليلة جدا، فالمعدل العالمي بعيد جدا عن هذا الرقم، والسؤال هو لماذا؟ الحقيقة أن عوامل كثيرة تفسر ذلك، من بينها عدم فعالية الاستثمار، وهو ما تطرق إليه الخطاب الملكي بشكل غير مباشر». إيفينا قال إن هناك استثمارات ضعيفة جدا، فهي تناهز حوالي 256 مليار درهم سنويا، «ثم هناك وجود مشكل آخر يتمثل في كون 55 في المائة من هذا الاستثمار تتم في العقار، وكل درهم مستثمر يخلق 2.8 درهم، بينما يجب أن يخلق خمسة دراهم كمعدل عالمي»، فيما اعتبر الخبير المغربي أن ثاني أكبر مشكل إلى جانب استثمار، «هو غياب الحكامة الجيدة، وهو ما يفسر ضعف فعالية الاستثمار». الخبير الفرنسي جون بيير شوفور، ختم مداخلته بالتنبيه إلى أن هناك –حاليا- أقل من مغربي من أصل كل اثنين يشتغل؛ «وهذا يعني وجود مجال كبير للتدارك، خاصة من خلال الشباب والنساء». وقدّم الخبير الدولي تعريفا موجزا للرأسمال غير المادي، معتبرا أنه يتمثل في كل من الرصيد البشري والمؤسساتي والاجتماعي. «هذه هي مكونات الرأسمال غير المادي؛ فالشق الاجتماعي يعني الثقة، أي هل هناك ثقة أم حذر بين مكونات المجتمع؟ ثم التعاون المدني في تحقيق الصالح العام، وكذلك السلوك الجمعوي وقيمته في المجتمع». ورغم تأكيده على أن الخبراء المغاربة اتّبعوا نفس المنهجية التي وضعها البنك الدولي، في تقاريره الأخيرة، حول القيمة الإجمالية لثروات الدول، عاد محمد تاعموتي ليعطي مؤشرا سيجعل الأرقام التي سيعلنها المغرب تفوق نظيرتها التي اعتمدها البنك الدولي، وقال من خلالها إن الثروة غير المادية للمغرب تمثل حوالي 70 في المائة من الثروة الإجمالية للمغرب. ويتمثل هذا المعطى في كون المغرب يتوفر على حوالي 3500 كيلومتر من السواحل، وهو ما لم يأخذه البنك الدولي بعين الاعتبار في حساباته، بينما تشكل -حسب تاعموتي- جزءا مهما من الثروة غير المادية للمغرب. الباطرونا لا تقتسم الثروة مع الأجراء ولا تستثمرها سارع إدريس إيفينا إلى وضع خطاب العرش الأخير في سياقه. «شهران قبل الخطاب الملكي، صدر تقرير التنمية البشرية عن الأممالمتحدة، والذي جعل المغرب في المرتبة 129 عالميا بعدما كان في سنة 2000 في الرتبة 111. وهو ما يعني أن هناك شيئا ما ليس على ما يرام». إيفينا قال إن المعطيات الرسمية المتوفرة تؤكد خلق ثروات مهمة على مستوى الناتج الداخلي الخام، «لدرجة أنه تضاعف تقريبا منذ 2000؛ ما يعني أن ثروة هائلة خلقها النموذج التنموي المغربي. وهذه نقط إيجابية تعكس وجود مجهود كبير وإصلاحات تمت. لكن الملك في خطابه تحدث عن أشياء لا نجدها في التقارير الرسمية، وهي مسألة توزيع الثروة، وقال إن هناك هوة بين الأرقام والواقع، وقف عليها حين زار كثيرا من المناطق، حيث وجد نسب مهمة من الفقر». التقرير الأممي حول التنمية البشرية، أنصف المغربي حين اعترف بكونه يعرف أكبر وتيرة تنمية مقارنة بمحيطه المتوسّطي، وانعدام أثر هذه الوتيرة يعود -حسب الخبير الاقتصادي- إلى ضخامة العجز التي راكمه المغرب في مرحلة ما قبل 2000. «ثم علينا أن نعرف أنه ليس لدينا في نموذجنا التنموي أي مشكل، ولا يمكننا تغييره، لأن هناك ثلاثة نماذج عالمية (نموذج حر، ونموذج موجّه، وثالث مختلط). ونحن في نموذج مختلط حيث يوجد السوق إلى جانب ضعف تدخل الدولة على مستوى التقنين، مع وجود خصاص. لكن هذا النموذج يحتاج إلى بعض التقويم لرفع فعاليته». ويتمثّل المشكل -حسب إيفينا- في سوء توزيع الثروة، والذي يتجسّد في وتيرة ارتفاع الحد الأدنى للأجور، والتي ناهزت 1 في المائة سنويا على مدى 15 سنة الماضية، بينما عرف المغرب معدّل نمو بمعدّل 4 في المائة تقريبا. «والواقع أن تطور «السميك» يجب أن يواكب معدل النمو. هذا هو التوزيع العادل لثمار النمو من خلال الحد الأدنى للأجور والأجور بصفة عامة، حيث ينبغي توزيع هذا النمو بين من ساهموا في خلقه، والواقع أن المقاولين يعارضون هذه الفكرة، وهو ما يؤدي إلى تركيز الثروة في يد الباطرونا، لكن الخطير في ذلك هو أنها لا تستثمر هذه الثروة». الخبير بالبنك الدولي، الفرنسي جان بيير شوفور، قدّم عرضا مفصّلا ودقيقا حول مكامن قوة ونقط ضعف الاقتصاد المغربي، خلص من خلاله إلى أن المملكة نجحت خلال ال15 سنة الماضية في مضاعفة ناتجها الداخلي الخام والدخل الفردي لمواطنيها، لكنه كشف، في المقابل، أن وتيرة نمو الاقتصاد المغربي كانت أقل من الوتيرة العالمية، خاصة في ما يتعلّق بحصة المغرب من السوق الدولية التي بالكاد عادت إلى نفس مستوى سنة 1982 بعدما انخفضت كثيرا. الخبير الدولي قدّم السيناريوهات الممكنة في العشرين سنة القادمة، بما يفيد أن لحاق المغرب بنادي الدول الصاعدة، يتطلّب منه تحقيق معدل نمو 8,5 في المائة طيلة العقدين المقبلين، أو ما لا يقل عن 5,5 لتحسين الوضع الحالي. وخلص شوفور إلى أن سنة 2015 تحديدا تعرف حدوث شيء من هذا القبيل، أي في اتجاه تحقيق معدل نمو استثنائي، لكنّه عاد ليقول إن المطلوب هو تحقيق معدل مرتفع طيلة سنوات متوالية حتى يحدث التقدم المطلوب.