الموت يطارد عمال المناجم، اختناقا في الحفر، أو انسحاقا تحت الصخور المنهارة، أو بمرض السيليكوز، لكن رغم ذلك يواصلون هذا العمل، لأنه وسيلتهم الوحيدة لسد الرمق لا تكاد تمرّ سنة دون سماع أخبار الموت القادمة من جرادة، الناس هناك ألفوه كما ألفوا وجوه بعضهم البعض، يخطفهم دون أن يستأذن أحد منهم، بين الموت اختناقا في أبار الفحم، أو الموت تحت صخرة منهارة، أو حتى بسبب مرض «السيليكوز» اللعين. يبقى الموت واحدا يخطف بدون ملل الناس في هذه المدينة. رغم الموت المحدق بهم في كل مكان، لا يريد هؤلاء المقهورون أن يتركوا حرفة الآباء المؤسسين للعمل المنجمي، بل إن الحقيقة تقول لا بديل لهم عن هذا النشاط، فمن لم يشمر على ساعديه ويغوص في أعماق البئر بحثا عن الفحم، قد لا يجد ما يسد به رمق عيش أولاده في اليوم الموالي! شهداء السندريات عاد الموت من جديد إلى المدينة لم يستأذن أحدا كما في المرات السابقة، دخل وخطف من بين أبناء المدينة شابا عاملا من عمال المناجم وهو في أوج عطائه، لقد كان الدور هذه المرة على بلوطي بلقاسم (39 سنة)، أحد أبناء هذه المدينة المنجمية، لم يمهله الموت كثيرا، إذ بعد ساعة تقريبا من بدئه للأشغال على عمق حوالي 60 مترا في البئر التي اعتاد البحث فيها عن بعض الفحم الحجري لإطعام عائلته صباح السبت 7 فبراير الجاري، حتى هوت عليه صخرة أردته قتيلا في الحين، فيما زميلان له نجيا من الموت بأعجوبة. بلقاسم هو –إذن- أول من ابتلعته هذه الآبار خلال هذه السنة، ولسان حال هؤلاء المقهورين يقول نتمنى أن يكون الأخير، لكن التاريخ يخبرنا بأن الموت في هذه الحفر مستمر؛ فعلى مدى عقدين تقريبا لم يتوقف مسلسل الموت بهذه الطريقة. وبالأمس فقط سقط شابان على النحو ذاته، جمال وزار، وعبد النبي لكعيوي اختنقا في بئر مشابها في ماي 2013، وهو الحادث الذي أخرج أهالي المدينة إلى الشارع استنكارا واستهجانا للوضعية التي بات يعيشها العمال المنجميون، قبل أن يقابل هذا الخروج بقمع أمني. رحل بلقاسم وجمال وعبد النبي، وتركوا عائلات تبكي عليهم، رحلوا وقبلهم رحل الكثيرون من أبناء هذه المدينة، بالطريقة نفسها، ومن نجا من بطش هذه الآبار والحفر، أو كما يسميها أهل المدينة «السندريات»، قتله «السيليكوز» ببطء. المهم أن الموت هو زائر دائم ومعروف لدى صغيرهم قبل كبيرهم. قانون الأباطرة بعد مغادرة شركة «مفاحم المغرب»، وإغلاق مناجمها بجرادة في فبراير 1998، دخل إلى القطاع مجموعة من ذوي الإمكانيات ورؤس الأموال، بعدما فتحت الدولة المجال أمامهم لاستغلال الفحم، وفق دفاتر تحملات فرضتها الاتفاقيات المبرمة للحفاظ على المكتسبات الاجتماعية للعمال، لكن «المستثمرين الجدد» لم يلتزموا بهذه الدفاتر، وعاد بالتالي زمن «الأقنان»، وفق توصيف الناشط الجمعوي سعيد عاشور، الذي أضاف في تصريح ل « اليوم24» أن نمط الاستغلال السائد –اليوم- بمدينة جرادة يعود إلى القرون الوسطى. «منذ 6 سنوات تقريبا قلت بأننا نشهد في هذه المدينة عودة نظام الأقنان»، يقول عاشور قبل أن يسترسل ويذكر بوضعية العمال العاملين في القطاع: «الوضعية كارثية، فهؤلاء العمال يعملون في ظروف قاسية لساعات طويلة يمكن أن تصل إلى 10 ساعات، بدون تأمين ولا تقاعد، وأكثر من ذلك يضطرون إلى بيع المنتوج الذي يتحصلون عليه من يوم شاق من العمل المحفوف بالمخاطر للأباطرة المسيطرين، وبالأثمنة التي يفرضها هؤلاء المستحوذون». رغم الموت المحدق بهم إلا أنهم لا يبدون أية رغبة في ترك هذا العمل، بل إن عاشور يقول بأن الدولة «خدعتهم»، وأوهمت العاملين في المجال، والذين قدر عددهم –حاليا- بأكثر من 2000 عامل، وأنها بعد ذهاب الشركة المستغلة في تسعينيات القرن الماضي ستشرع في خلق المشاريع المدرة للدخل، والمشاريع التي تضمن لهؤلاء الرفاهية وتحفظ لهم كرامتهم. لم يتم خلق أي مشاريع مما بشر به، وحتى المشاريع التي خلقت في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية فشلت فشلا ذريعا. «تصور معي أن مركزا لتعليم الحرف بالمدينة لم يجد من يؤدي عنه فاتورة الكهرباء منذ انطلاق العمل به»، يضيف نفس المتحدث. وإذا كان الناشط النقابي (الشبيبة العاملة)، مصطفى السلواني يتفق مع عاشور في مستويات الاستغلال، التي يرى بأنها هي التي أدت إلى بروز هذه الأزمات التي يعيشها العاملون في القطاع، فإنه يرى بأن ما أزم أكثر وضعية المنجميين البسطاء، وكرس سيطرة الأباطرة الذين يفرضون شروطهم، هو غياب التكتل بين العاملين أنفسهم، كالعمل داخل تعاونيات تمكنهم من ضمان تسويق منتوجهم، وفق الشروط التي يفرضونها، ووفق أسعار المنتوج في السوق الدولية. «لكن يغلب على 70 في المائة من العاملين في المجال ضعف التكوين والمعرفة، وهو سبب كاف لإضعاف قدرتهم في التكتل ومواجهة كل أشكال الاستغلال»، يؤكد السلواني. السليكوز يتربص بالناجين الذين ينجون من حوادث الموت في الآبار، لا يعني أنهم أفلتوا من الموت المبكر، فالسنوات التي يقضونها تحت الأرض تجعلهم لقمة سائغة لمرض فتاك يحمله المئات منهم. إنه «السيليكوز» المعروف علميا ب»داء الرئة الصواني»، الذي يصيب الإنسان نتيجة استنشاقه لغبار «السيليس» في الهواء، وهو المرض الذي يقتل العديد من المنجميين سنويا، ويحول حياة الآخرين إلى جحيم! رغم الصرخات المتتالية التي أطلقها المرضى، إلا أنهم يقولون بألا حياة لمن تنادي، إذ كشفوا -في بيان لهم يحمل الرقم 35- أنه «رغم الالتفاتة الملكية لهذه الفئة المظلومة والمنهكة بالمرض والعوز، فإن مطالبها لم تتحقق، ولم تنل حقوقها المشروعة. زيادة على ذلك، فإن هذه الفئة من مصابي المرض المهني «السيليكوز» تعاني من ضعف أمد الحياة ضمن الفئة النشيطة التي ساهمت بقوة في الاقتصاد الوطني بالمغرب، لهذا «فمعاناتنا اليومية مع المرض لا تكفي»، يؤكد المصدر نفسه. المرضى الذين يؤكدون أيضا بأنهم يعانون دائما من نقص في الأدوية، ينتظرون منذ مدة إحداث جناح متخصص لمعالجة مرضهم، إذ تم بدل ذلك استغلال جناح الطب العام بأكمله، وأحيانا جناح الجراحة العامة بالمستشفى الإقليمي لتقديم العلاجات. كما أن المرضى يلحون على عمل الوحدة الصحية «ابن رشد»، طبقا للاتفاقية الاجتماعية المبرمة بين وزارة الطاقة والمعادن (شركة مفاحم المغرب سابقا) والمركزيات النقابية بتاريخ 17 فبراير 1998، حيث اتفقت –حينها- الأطراف على توفير طبيبة مختصة وممرض، وكذا سيارة إسعاف.