تؤثث مختلف أركان مدينة جرادة جبال من النفايات السوداء من بقايا الفحم الحجري التي تبدو كآثار حمم بركان، وأكثر من 2000 من المواطنين المقهورين بالفقر والعوز نزحوا من جميع النواحي، بينهم كهول وشبان وقاصرون، يشتغلون ك«النمل الأسود» لحسابهم الخاص داخل العشرات من الآبار «السندريات» من صنعهم التي هي أشبه بمقابر مفتوحة يصل عمقها إلى 45 مترا، حفروها لاستخراج الفحم منها بوسائل بدائية وفي غياب أي وسيلة وقائية وصحية، لتأمين لقمة عيش سوداء سواد الفحم المستخرج، محكوم عليهم، أصحّاءهم حتى حين ومرضاهم بالسيليكوز، بالإعدام عن طريق الدفن أحياء أو بالموت البطيء اختناقا خلال الأشهر الباردة.. جحيم بكل المقاييس جعل الهروبُ منه، نزوحا وهجرة، نسبةً سلبية من النمو الديمغرافي لجل الساكنة بقرى إقليم جرادة تبلغ 1,1 في المائة... في الغابة الموجودة بمدخل مدينة جرادة والمدعوة ب"قبور النصارى"، نظرا إلى وجود قبور بعض الأجانب بها، وبحاسي بلال كذلك، تم حفر قبور حقيقية يناهز عددها، حسب بعض الساكنة، ال3000.. يتراوح عمقها ما بين 20 و45 مترا، يتحين جوفها الأسود فرصة ابتلاع أجساد آدميين أحياء من ساكنة المنطقة دفعهم العوز والفقر والحاجة إلى ركوب التحدي والمقامرة بأرواحهم والمغامرة بها من خلال الغوص فيها وسبر أغوارها وتحريك أحشائها بحثا عن مصدر رزق «أسود ومتسخ».. آبار عميقة قد تتحول بحركة ما أو زعزعة ما أو زلزلة ما إلى «مسكن أبدي» مظلم كلون الفحم الحجري. غابة لا يغامر بعبورها ليلا أي مواطن تحاشيا لسقوط محتم في فوهة من تلك الفوهات البُركانية المظلمة... إنها «السندريات» أو«الحواسي» أو الثقب السوداء أو آبار استخراج الفحم الحجري التي حفرها مواطنو جرادة بدل أنفاق مناجم جرادة التي أغلقت نهائيا مع مجيء سنة 2001، ويتجاوز عددها ال3000 ما بين الحيّة أو المتخلى عنها، وتتناسل يوما بعد يوم، ينشط بها بشكل مسترسل ومتواصل عمال ك«النمل الأسود» أو ك«جردان الحقول السوداء» داخل الغابة الممتدة على مساحة شاسعة وجبال غير شاهقة.. يشتغ لون في جماعات مكونة من عاملين أو ثلاثة عمال، يغوص أحدهم في جوف البئر ويسحب الآخر قفة مملوءة بالفحم من داخله (البئر) فيما يقوم الثالث بعملية التصفية، دون معرفة بالخريطة الجيولوجية للمنطقة، بوسائل بدائية تتمثل في فأس ومجرفة وقفة وحبل وسواعد ورغبة في البقاء من أجل أطفال ينتظرون مع أمهاتهم رغيف خبز أو أمل شباب في حياة أكثر كرامة، يغوصون لاستخراج كيلوغرامات من الفحم يملؤون بها أكياسا تصل سعتها إلى حوالي 100 كلغ، لا يتعدى ثمنها 70 درهما عند البيع، وهي حصيلة يوم من العمل يمر في أحسن الأحوال، إن رضي المحتكرون باقتناء المادة المستخرجة بعد أن يحددوا جودتها، في غياب أي وسائل وقائية من خطر انهيار أو سقوط أو انجراف أو أمراض... إنه الموت من أجل الحياة والمقامرة من أجل البقاء والمجازفة من أجل العيش... هؤلاء العمال، إن نجوا من الدفن أحياء، فإنهم سيصابون لا محالة بمرض السيليكوز بعد بضع سنوات من العمل، في غياب تغطية صحية ضد أمراض الرئة، كالمرض سابق الذكر، أو تأمين عن الحوادث، وفي غياب قوانين تحميهم من استغلال بعض محتكري الرُخص من خلال وضع أيديهم على الفحم المستخرج واقتنائه منهم بأبخس الأثمان، دون احترام حتى دفتر التحملات الذي يضمن سلامة وصحة المغامرين داخل تلك «القبور المفتوحة» لأجساد منهكة. وقد لقي العديد من العمال حتفهم في آبار الموت التي تحولت إلى قبور سوداء بعد انهيارها، فيما يتنظر الآخرون الموت البطيء اختناقا بمرض السيليكوز الذي ينهش الرئتين نهشا حتى يتقيأ المريض أجزءا منها ويلفظ أنفاسه بعد عذاب أليم ومعاناة طويلة وسط أفراد أسرته الفقيرة العاجزة... مصرع عمال بعد انهيار أنفاق الفحم فقدت مدينة جرادة عددا كبيرا من أبنائها في ريعان شبابهم أو في أوج رجولتهم داخل أنفاق الفحم المهجورة أو آبار الموت المحفورة.. تركوا أسرا مكلومة وزوجات وأطفالا بدون معيل، بعد أن غامروا بحياتهم لتأمين حياة ذويهم. هلكوا تحت الردم ودفنوا أحياء بعد أن انهارت عليهم جنبات تلك القبور بحثا عن كيلوغرامات من الفحم الأسود سواد عيشهم وبيعه بأثمنة لا تكفي حتى لضمان أبسط متطلبات العيش الكريم... انتشلت عناصر الوقاية المدينة بجرادة عشية يوم 8 ماي الماضي جثة شخص عجوز لقي حتفه بإحدى الحفر التي تستغل في استخراج الفحم الحجري بعد أن سقط في قعرها عندما كان يتجول بالقرب من حي السعادة القريب من غابة «ف 3». ولقي قبله، صبيحة يوم أربعاء من ذات الشهر، عامل آخر مصرعه، فيما نجح عمال في استخراج عامل ثان من بئر الموت بفضل مجهوداتهم الذاتية الكبيرة، وتم نقله بعد ذلك إلى المستشفى المحلي في حالة حرجة. وتسبب الحادث في احتجاج أكثر من 700 عامل في هذه الأنفاق على وضع الاستغلال العبودي الذي يتعرض له أبناؤهم في استخراج وبيع الفحم الحجري بالمدينة، انتهى باعتصام أمام مقر العمالة. وأدى حادث انهيار أحد الآبار لاستخراج الفحم الحجري بحاسي بلال بجرادة بعد زوال يوم الثلاثاء 03 فبراير 2009 إلى وفاة بوجخروط، وهو رب أسرة، أب ل6 أبناء، في حين نقل عاملان آخران في حالة خطيرة إلى مستعجلات المستشفى الإقليمي بجرادة. وفي نفس الشهر، نجح مجموعة من المواطنين في إنقاذ حياة شاب من موت محقق ردما تحت الأنقاض بعد أن انهارت عليه جدران بئر/نفق لاستخراج الفحم الحجري بجرادة... مظاهارت ومسيرات احتجاجا على الاستغلال سبق أن أحالت عناصر الأمن الإقليمي بجرادة 18 معتقلا، إضافة إلى عدد آخر من الأشخاص المتابعين في حالة سراح، على العدالة من أجل «التظاهر وأعمال الشغب وتخريب ممتلكات عمومية» على خلفية الأحداث التي شهدتها مدينة جرادة، مساء يوم الجمعة 25 دجنبر الماضي.. أطلق سراح اثنين بعد الاستماع إليهما من طرف قاضي التحقيق باستئنافية وجدة، فيما تقررت متابعة 5 أشخاص في حالة سراح، من بينهم قاصر، يوجد طريح الفراش بعد أن فقد إحدى خصيتيه خلال المظاهرة بعد أن تاه وسط تلك الأحداث التي لم يكن له علم مسبق بها، وخضع لعملية جراحية بمستشفى الفارابي بوجدة... وصرح العمال الغاضبون بأن مسيرتهم التي قاموا بها كانت سلمية وتحسيسية للاحتجاج على استعبادهم والتعبير عن غضبهم ضد عملية احتيال وقعوا ضحية لها بعد أن خدعهم أباطرة الفحم المحتكرين بتواطؤ مع السلطات المحلية، حسب قولهم...، ولم تكن لهم يد في أحداث الشغب والتكسير التي اعتقل بعضهم من أجلها وقامت بها عناصر ليست ضمن صفوفهم بل مدسوسة من طرف هؤلاء الذين أرادوا الشر بالعمال البسطاء وإسكات صوتهم بهدف واستمرار استغلالهم، وفق روايتهم... عمال يعدون بالمئات من مدينة جرادة ومن ضواحيها، بل من بعض المدن المغربية.. يعيلون آلاف الأسر من خلال الاشتغال في تلك الآبار العشوائية لاستخراج الفحم الحجري وبيعه لبعض المحتكرين بأبخس الأثمان في استغلال واضح لفقرهم وعوزهم، للتحكم بعد ذلك في الأسعار، دون مراعاة ظروف اشتغالهم اللاإنسانية وأوضاعهم الاجتماعية المزرية. وتعد تلك الآبار العشوائية أو «الثقب السوداء» التي فتحت قبل إغلاق مناجم جرادة، وتناسلت بعد سنة 2000 يوم إغلاق المناجم وتسريح العمال، مصدر رزقهم وعيشهم الوحيد... التهميش ومرض السيليكوز يعتصمون دخل عمال مفاحم جرادة المصابون بمرض السيليكوز في اعتصام مفتوح من يوم الإثنين 26 أكتوبر الماضي إلى غاية يوم الإثنين 30 نونبر الماضي بمقر المركز الصحي ابن رشد بمدينة جرادة، للتعبير عن احتجاجهم على وضعيتهم الصحية المتدهورة والمادية المزرية، واستنكارهم الشديد للتماطل الذي ووجه به ملفهم المطلبي الإنساني البسيط المدعم بالوثائق القانوني والإدارية... وقضى هؤلاء المصابون بالسيليكوز، ومعظمهم شيوخ متقدمون في السنّ، الليالي البيضاء والباردة بمرأب المركز الصحي، وامتنعوا عن التضحية يوم عيد الأضحى بعد حرمانهم من الاستفادة من العلاج بذات المركز الذي أنشئ من أجلهم... ووجه العمال السابقون في مفاحم جرادة، المصابون بداء السيليكوز، رسالتين مفتوحتين إلى كلّ من وزيري الشغل والعدل في موضوع احترام وتنفيذ ما ورد في الاتفاقية الاجتماعية ليوم 17 فبراير 1998، بين إدارة مفاحم المغرب ووزارة الصحة العمومية، والتي وقعت إثر الإغلاق النهائي لمناجم الفحم في جرادة. وطالب العمال المتضررون في رسالتهم المفتوحة إلى وزير الشغل بضرورة تدخل وزارته لتسريع وتيرة الزيادة في الإيرادات، مع تسوية جميع ملفات مرضى السيليكوز، في جرادة، من طرف إدارة صناديق العمل، التابعة لوزارة الشغل بالرباط مع التنصيص على أهمية إرسال موظفين تابعين لهذه الإدارة إلى جرادة، لمدة لا تقل عن شهر، لدراسة ومعالجة وتسوية ملفات مرضى السيليكوز، وليس ليوم واحد، كما حدث في السابق، حيث تم ادعاء معالجة وتسوية نحو 1200 ملف، في حين لم تعالج، على مستوى الواقع، سوى بضع حالات. التلوث يقتل الحياة بالمدينة تعتبر مدينة جرادة جزيرة حرارية، كما جاء في كتاب الأيام الدراسية الثانية مارس 96، تنعكس نارها على السكان والحيوان والنبات. وإلى جانب أمراض السيليكوز المترتبة عن العمل داخل الأنفاق، هناك أمراض أخرى مصدرها مدخنة المركب الحراري الذي شيد في مكان غير ملائم، حيث تلفظ غازات تنزل على مدينة جرادة وحاسي بلال ويحرم السكان من التمتع من الألبسة البيضاء. ويلفظ معمل كهربائي فحمي في السنة حوالي 1570 ميغاواط من النفايات الحرارية و330 ألف طن من الرماد المتطاير وألفي طن من جسيمات متطايرة و24 ألف طن من ثاني أكسيد الكاربون و6 ملايين طن من ثاني أكسيد الفحم و700 طن من أحادي أكسيد الفحم و20 ألف طن من أكاسيد الأزوط و5 أطنان من الزئبق و5 أطنان من الزرنيخ و0,2 طن من الرصاص. كان المركب الحراري يعتمد على المنتوج المحلي من الفحم، لكن بعد الإغلاق تم الاعتماد على استيراد الفحم من دول أجنبية كبولونيا وجنوب إفريقيا، وهو الآن يشغل عددا من العمال عن طريق مقاولات الخواص. ويتخوف السكان من هذه المواد المستوردة من الفحم المسمى «البيتكوك» (بقايا استغلال البترول) لاحتمال توفرها على نسبة كبيرة من مونوكسيد الكبريت المؤثر على الجهاز التنفسي، وينتظرون التعرف على النسبة الحقيقية من تلك المادة فيه، خصوصا وأن الحدائق الخاصة بحي المسيرة المجاورة لم تعد تعطي نباتا كما كان عليه الحال من قبل. وتتسبب هذه الملوثات في عدد من أمراض الجلد والصداع والتهابات الحنجرة والعيون والأنف والكبد والكلى وسرطان الرئة والأمعاء وفقر الدم واضطرابات في الجهاز العصبي والذهول، بالإضافة إلى الأمراض السرطانية للحيوانات. وتتطلب علاجات مرض السيليكوز الذي يؤدي بصاحبه إلى الموت -حيث يبدأ الجهاز التنافسي في التآكل ويظل يفعل فعله ذاك في المصاب إلى الفناء- (تتطلب) تكاليف باهظة شهريا لا تغطيها الصدقة التي تتكرم بها الشركة على ضحاياها. وتكثر الوفيات عند المصابين بالسيليكوز خلال أشهر الفصول الباردة، حيث لا تؤدي الرئة أو ما تبقى منها وظيفتها ويصعب على المصابين التنفس ويفتقد جسم المريض كميات من الأكسيجين، فيكون ذلك سببا رئيسيا في الوفاة، حسب ما أوضحه الأطباء الاختصاصيون. وتعاني المدينة من قلة الغطاء النباتي الذي يمكن أن يخفف من التلوث، بل لاحظنا تراجعه بسبب قطع ما يزيد على نصف عدد الأشجار في استعمال الحطب وبسبب نفايات الشركة التي مازالت قائمة.»إنها كارثة التلوث بمدينة جرادة»، يصرح أحد أعضاء جمعية بيئية. وتعاني المدينة من الوادي الحار خصوصا في فترة الصيف. تدمير متواصل لغابة جرادة يغطي الملك الغابوي مساحة تقدر ب294.407 هكتارات من مروج الحلفاء، و68.800 هكتار من الغابات الطبيعية، و11.667 هكتارا من الغابات الاصطناعية. وأهم هذه الغابات الطبيعية غابة عين الكرمة، وغابة بني يعلى، وغابة العياط. وتلعب هذه الغابات أدوارا مختلفة على الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وذلك بخلق فرص الشغل لسكان العالم القروي، وتزويدهم بحاجياتهم من عود التدفئة والوحدات العلفية للماشية وغيرها، كما توفر الوسط البيئي الملائم لتكاثر أعداد الوحيش وتساهم في تثبيت التربة وحماية السدود والمنشآت الاجتماعية وغيرها من آثار السيول. تعاني الغابة من قلة عدد حراسها، مما يفسح المجال أمام المخربين لقطع الأشجار بكل وحشية ولأغراض مختلفة، منها استعمال الحطب للتدفئة في المنازل أو في الحمامات العمومية والأفران، ولكن الأخطر في الأمر هو استعمال جذوع الأشجار وبكميات كبيرة في تثبيت آبار الفحم التي تضر بالغابة من خلال تدمير تلك الجذور مع توسع رقعة البئر الفحمي... ومن ناحية أخرى، يتم تحويل مساحات غابوية إلى مساحات زراعية. ومن جهة أخرى، كشف تقرير لجمعيات محلية بمدينة جرادة عن وجود عمليات اجتثاث غير قانونية لمساحات كبيرة من مروج الحلفاء و»الموتورال»، مما أدى إلى «جعل مساحات كبيرة خالية من الغطاء النباتي خلال وقت وجيز». كما أشار تقرير صادر عن فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وجمعية جرادة لدعم التنمية المحلية وجمعية إسعاف جرادة تنمية وتضامن إلى «التحايل على الوضع العقاري الخاص بالأراضي العرشية للاستيلاء على بقع بعد اجتثاثها" ويتم الاعتداء على مُرُوج الحلفاء بهدف الحصول على ملكيات بسهب النعام وبنديمية وكعدة الكطة وفدان العجاج بجماعة بني يعلى، فيما يشكل نصب الخيام داخل الملك الغابوي طريقة أخرى للتحايل بهدف الحصول على قطع أرضية بعد تدمير الغطاء النباتي وتشويهه وتغيير معالمه. وقد أشار التقرير في هذا الإطار إلى قيام أحد أعوان السلطة الموقوفين بتسييج جزء من الملك الغابوي وغرس بعض أشجار الزيتون فيه وحفر بئر ونصب خيمة وحظيرة بأغصان الغابة، واجتثاث مساحة من الحلفاء لاستغلال قطعة أرضية في عملية الحرث بمنطقة الفيضة، كما قام أحد المواطنين بنصب خيمة وإقامة حظيرة بأغصان الأشجار في قبيلة ولاد سيدي الشيخ بهدف الاستيلاء عليها رغم وجودها وسط الغابة، مشيرا إلى عمليات الحرث المتكررة داخل الملك الغابوي. وتحدث التقرير عن العوامل السوسيو اقتصادية التي تدفع بعض المواطنين إلى التدخل العنيف واقتلاع الغطاء النباتي بفعل الرعي المفرط الذي لا يراعي شروط تجدد المراعي أو بهدف توسيع الملكيات. وتتم عمليات التوسع -وفق ما ورد في التقرير- على حساب الملك الغابوي بالإقليم عبر قيام صاحب الأرض الموجودة بأحد مواقع الغابة باستقدام أصحاب الخيام للإقامة فوقها وحرثها مقابل أن يقوموا باجتثاث مروج الحلفاء لتوسيع الملكية ولشرعنة الاستيلاء عليها،