أمس أطفأ عبد الإله بنكيران شمعته الثالثة فوق كرسي رئيس الحكومة. الكثيرون لم يكونوا يتوقعون أن يظل زعيم الإسلاميين كل هذه المدة في مكتبه المجاور للقصر الملكي. الأكثر تفاؤلا كانوا يظنون أن صفحة بنكيران ستطوى سريعا، خاصة عندما انقلب الربيع العربي إلى خريف، وانحصرت الموجة التي جاء على ظهرها أول رئيس حكومة ملتحٍ في تاريخ المغرب، لكن بنكيران، بدهائه وبرغماتيته، نجح في الانحناء للعاصفة، وقدم تنازلات كثيرة، وعينه على المستقبل. بلا شك حققت الحكومة جزءا من الإصلاحات المهمة، وفي مقدمتها تقليص ميزانية صندوق المقاصة، وما تبع هذا الإصلاح من تقليص عجز الميزانية، وتخفيف ضغط الدعم عن الدولة، علاوة على الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي، والتوجه نحو دعم بعض الفئات الهشة ماليا، وبشكل مباشر (صندوق للأرامل، صندوق للمطلقات، تأمين صحي للطلبة، التعويض عن فقدان الشغل، توسيع قاعدة المستفيدين من المساعدة الطبية راميد، استرجاع جزء من الأموال المهربة إلى الخارج، تنزيل عدد من القوانين التنظيمية المكملة للدستور، الشروع في إصلاح الإطار القانوني للعدالة، الشروع في إصلاح صناديق التقاعد، إنقاذ المكتب الوطني للماء والكهرباء، وتخفيض أسعار عدد مهم من الأدوية…). هذه الإصلاحات، على أهميتها، كانت لها كلفة اجتماعية دفعت جلها الفئات الوسطى، دون أن تتلقى هذه الفئة الحيوية في المجتمع مقابلا لما دفعته من جيبها في المحروقات والكهرباء ومواد أخرى زاد سعرها بفعل زيادة أسعار المحروقات، قبل أن تنزل أخيرا بسبب انخفاض البترول في السوق الدولي. المقابل الذي كان من المفروض أن تأخذه الفئات الوسطى مقابل تضحياتها هو إصلاح التعليم الذي يستنزف جزءا كبيرا من مدخول هذه الفئات، وإحداث مناصب للشغل، والنهوض بالمرفق الصحي، وتحسين بيئة العيش في المدن والبوادي، ومحاربة الفساد والرشوة والزبونية، التي تحد من تكافؤ الفرص، وتجعل القوي يأكل الضعيف في السوق والمقاولة والإدارة… سبق أن تحدثت عن الإنجازات التي حققتها حكومة بنكيران والأحزاب المنضوية تحت مظلتها، وذلك بفضل التوافق الذي سعى بنكيران إلى تحقيقه مع القصر، واليوم نتحدث عما لم يقم به بنكيران في الثلاث سنوات الأولى، لنصل إلى رؤية موضوعية لحصيلة الرجل وحكومته… أولا: الورش الأول الذي لم يحقق فيه بنكيران أي تقدم، بل يمكن القول باطمئنان إن تراجعا وقع فيه، هو ورش التنزيل الديمقراطي للدستور، حيث ضحى بنكيران بالوثيقة الدستورية لصالح التطبيع مع القصر، دون أن ينتبه إلى أن جزءا من سوء الفهم، الذي كان قائما بين حزبه وبين الدولة، كان هو عدم تطبيق الدستور، وتغول الطابع التنفيذي على حساب الطابع البرلماني للنظام السياسي المغربي. بنكيران يطبق جيدا دستور 1996، لكنه مازال بعيدا عن دستور 2011، وهذا أمر حساس ويتطلب مراجعة لأن ذلك يتصل بمستقبل البناء الديمقراطي والمؤسساتي للبلاد. ثانيا: بنكيران عمد إلى إعادة رسم مجال عمل حكومته واختصاصاتها بعيدا عن الوثيقة الدستورية، فاعتبر، مثلا، التعليم خارج صلاحياته منذ خطاب 22 غشت 2012، والأمن كذلك والداخلية أيضاً، دعك من الشؤون الدينية والدبلوماسية، فهذان مجالان يقعان خارج تفكير السيد بنكيران تماماً، رغم أنهما مجالان حيويان وعلى ارتباط بتطبيق البرنامج الحكومي، والنتيجة هي ما نراه من وجود فريقين حكوميين داخل الحكومة نفسها، وأحيانا يعزف هذان الفريقان لحنين متناقضين، وأحيانا يمنع وزير نشاطا عموميا يشارك فيه زميله الوزير الآخر، حتى دون تنسيق لحفظ ماء وجه الحكومة. رأينا كيف منعت الداخلية ندوة حول حرية الصحافة كان الخلفي مشاركا فيها، ورأينا الرميد يصرف منحة للجمعية المغربية لحقوق الإنسان، في حين أن حصاد يمنع الجمعية نفسها من النشاط وحرية الاجتماعات… ثالثا: عبد الإله بنكيران نجح في أن يصير زعيما وطنيا بفضل أسلوب تواصله الخاص، وقدراته على مخاطبة كل الفئات، وحديثه بصراحة ووضوح مع الجمهور، حتى إن هذه الصراحة جلبت له متاعب كثيرة أحيانا، لكن هذا الزعيم نفسه لم ينجح في تشكيل فريق من الخبراء والمتخصصين والكفاءات حوله في رئاسة الحكومة التي أعطاها الدستور صلاحيات كثيرة ومتشعبة، والتي تتطلب فريقا كبيرا من الخبراء في كل المجالات حول قائد الأوركسترا. بنكيران يبدو وكأنه يفضل اللعب لوحده في ميدان كبير، وبسبب تقديمه الثقة على الكفاءة في اختيار من حوله فإنه لم يستعن سوى بفريق صغير من زملائه في الحزب، الذين لا يمكنهم النهوض بالمهام الكثيرة الملقاة فوق مكتب بنكيران مهما كانت كفاءتهم، والنتيجة أن محرك الأفكار والمبادرات والمشاريع والاقتراحات لا يشتغل إلا بعشرة في المائة من طاقته. رابعا: بنكيران نجح في ما أخفق فيه عبد الرحمان اليوسفي، وأعني الحفاظ على وحدة الحزب وقوته وإشعاعه، وهذا ما يبدو بنكيران واعيا به، ولهذا يحرص على حضور كل الأنشطة الحزبية، الصغير منها والكبير، لكن، في المقابل، فإن بنكيران، وبفعل شخصيته ومزاجه، أضعف الجانب السياسي في الحزب، وجعل من المصباح آلة تنظيمية أكثر منها سياسية، فهو الذي يدير دفة القرار في الحكومة والحزب، وعنده كل الأسرار، وبيده كل الخيوط، وعلى قيادات الحزب وأطره أن يتبعوه وأن يثقوا فيه، وألا يكثروا من النقاش والسجال، فالقائد يعرف خارطة الطريق… هذه بالمجمل سلبيات السنوات الثلاث الماضية، فهل يتدارك بنكيران ما فاته مادام شيء من الوقت مازال في يده؟