بعد عشر سنوات إلا سبعة أشهر قضاها في عرش مملكة النفط والحرمين الشريفين، ترجّل إذن، مساء أول أمس، الملك الذي ارتبطت باسمه آمال الحالمين بالإصلاح والانفتاح والليبرالية في مملكة يحكمها تحالف بين القبلية ورجال الدين المحافظين. آمال سرعان ما بدّدتها السنوات المتوالية من حكم الملك الراحل، حيث عجز عن إدخال إصلاحات سياسية حقيقية على بنيان مملكة آل سعود، مكتفيا باختراقات متعددة في الجبهة الاجتماعية، خاصة منها المتعلقة بحقوق النساء ومشاركتهن في العمل والشأن السياسي. «عليك أن تعلم أن جلالة الملك في تعامله مع العاهل السعودي، كان كمن يعامل أخاه، كانت بالفعل علاقة عائلية لم تتأثر بأي من العواصف التي هبّت على المنطقة في السنوات الأخيرة». الحديث هنا لمسؤول كبير في الدولة المغربية، متحدثا إلى «أخبار اليوم» في وقت سابق محاولا تفسير سرّ احتفاظ هذه العلاقة بتماسكها رغم الاختيارات السياسية والاجتماعية التي تبدو مختلفة بين العاهل السعودي الذي توفي أول أمس، والملك محمد السادس. هذا الأخير كان أحد أوائل المعزّين، معتبرا أن «وفاة الفقيد الكبير، لا تعد خسارة للمملكة العربية السعودية وحدها، وإنما هي رزء فادح حل بالمغرب أيضا، وبالأمة الإسلامية جمعاء، بفقدان أحد قادتها الأفذاذ». وفي الوقت الذي كانت مملكة آل سعود تجري آخر الترتيبات الداخلية قبل إعلان انتقال الملك عبد الله إلى جوار ربه، كان القصر الملكي بفاس يستقبل الأمير خالد بن بندر بن عبد العزيز، رئيس الاستخبارات العامة بالمملكة العربية السعودية. وفد اكتفت الوكالات الرسمية بالحديث عن «رسالة شفوية» نقلها المسؤول السعودي من الملك الراحل إلى عاهل المغرب، وذهبت بعض التحليلات إلى القول إن الزيارة تتعلّق بدعم أمني تحتاجه العربية السعودية في الحرب ضد «الإرهاب»، بات من شبه المؤكّد أن الزيارة كانت جزءا من تحضيرات انتقال عرش شديد الأهمية بين ملوك طاعنين في السن. رحيل ملك حاول الإصلاح بعد عشر سنوات إلا سبعة أشهر قضاها في عرش مملكة النفط والحرمين الشريفين، ترجّل إذن، مساء أول أمس، الملك الذي ارتبطت باسمه آمال الحالمين بالإصلاح والانفتاح والليبرالية في مملكة يحكمها تحالف بين القبلية ورجال الدين المحافظين. آمال سرعان ما بدّدتها السنوات المتوالية من حكم الملك الراحل، حيث عجز عن إدخال إصلاحات سياسية حقيقية على بنيان مملكة آل سعود، مكتفيا باختراقات متعددة في الجبهة الاجتماعية، خاصة منها المتعلقة بحقوق النساء ومشاركتهن في العمل والشأن السياسي. وفيما كان الملك الراحل قد باشر الحكم الفعلي للعربية السعودية قبل رحيل شقيقه وسلفه الملك فهد بن عبد العزيز، لما عاناه هذا الأخير في أواخر عمره مع المرض؛ كانت فترة حكمه الرسمي عقدا من الودّ الثابت مع مملكة محمد السادس العلوية. تنسيق سياسي ودبلوماسي واقتصادي دائم وشامل، تحوّل في إحدى لحظاته إلى دعوة صريحة ورسمية من مجلس دول الخليج العربي إلى المغرب كي ينضم إلى هذا التكتل الإقليمي. وفي مقابل الدعم الأمني والعسكري، الذي دأب المغرب على تقديمه إلى العربية السعودية، كانت هذه الأخيرة بدورها في الموعد في لحظات الحرج التي مرّت منها مملكة محمد السادس، من خلال الضغط الدبلوماسي في واشنطن لصالح الوحدة الترابية للمغرب في مرحلة الأزمة، والعطاء المالي السخي. إحدى أقوى لحظات تجسّد هذا الالتحام بين مملكتي عبد الله بن عبد العزيز ومحمد السادس، كانت في عزّ اشتعال لهيب الربيع العربي، حيث كان الملك الراحل في رحلة للخضوع للعلاج في الديار الأمريكية، واختار منتجع «مازاغان» السياحي غرب المغرب، ليكون محطته التي قضى فيها أسابيع من الراحة والنقاهة والاتصالات الدبلوماسية على أعلى المستويات. هنا بالقرب من مدينة الجديدة، ظل العاهل السعودي الراحل، يستقبل عدة شخصيات عربية وأوروبية وأمريكية، وكل همّه هو الخوف من انتشار عدوى إسقاط الرؤساء العرب بالطريقة التي سقط بها بنعلي في تونس، ولم يجد سوى مملكة آل سعود لحمايته. عاد العاهل السعودي إلى بلاده بعد أشهر من العلاج قضاها في الولاياتالمتحدةالأمريكية، وأسابيع من النقاهة قضاها في منتجع «مازاغان» بمدينة الجديدة، وترك المغاربة حائرين مع عدد من المشاكل خلفتها عطاياه التي يتهم البعض مستلميها بعدم العدل في توزيعها على من خدموه في المنتجع وخارجه. لكنّه أصبح منذ ذلك الحين ثاني الأذرع العربية المناهضة للربيع العربي وأحد أكبر مموّلي خصومه ومقاوميه. بيعة آخر الملوك «السديريين» الخبر الذي حوّل أكبر القنوات العربية في المجالين الفني والغنائي إلى منابر لبث الأدعية وتلاوة القرآن ابتداء من مساء أول أمس؛ هو نفسه الخبر الذي أعلن تلقي ولي عهد الملك عبد الله للتهاني من مختلف زعماء العالم بفعل مبايعته ملكا جديدا للعربية السعودية. سلمان بن عبد العزيز، هو آخر ملوك آل سعود المنتمين إلى المعسكر القوي المعروف إعلاميا ب»السديريين»، أي الإخوة الأشقاء الستة للملك الراحل فهد بن عبد العزيز، والذين يوحّدهم الانتساب إلى أمهم حصة السديرية. واقعة تلقي سلمان بن عبد العزيز لبرقيات التهاني في عز العزاء لم تحصل أمس لأول مرة، بل سبق له أن تلقى البرقيات نفسها شهر مارس الماضي، أي بمجرّد ما بدأت بعض القنوات التلفزيونية السعودية، في بث برامج تأبينية للراحل نايف بن عبد العزيز الذي كان يتولى ولاية العهد. الملك سلمان ين عبد العزيز، هو الابن ال25 للملك عبد العزيز آل سعود، ووزير الدفاع الحالي للمملكة، والذي كان قد أصبح الرجل الثالث في المملكة بعد الملك وولي العهد، بمجرّد ما ورث إحدى القلاع المنيعة لمملكة آل سعود، من ولي العهد السابق سلطان بن عبد العزيز، وهي وزارة الدفاع. وُلد العاهل سلمان بن عبد العزيز عام 1935، وظلّ منذ ذلك التاريخ، يقتفي آثار أخيه الراحل نايف، حيث كان نائبا له في إمارة منطقة الرياض، ثم أصبح أميرا لها حين انتقل نايف إلى وزارة الداخلية، ليبقى سلمان في منصبه هذا قُرابة خمسة عقود، إلى حين وفاة سلطان بن عبد العزيز وتوليه وزارة الدفاع خلفا له. وهو يعتبر أحد أعمدة الإعلام السعودي الموجه للخارج، خاصة منه جريدة الشرق الأوسط، عن طريق ابنه فيصل. وفيما يُعتبر سلمان أحد الوجوه المألوفة في العواصم الدولية، وحظي بلقاء الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخرا، فإن برقية من برقيات الدبلوماسية الأمريكية التي كشف عنها موقع «ويكيليكس»، وضع سلمان بن عبد العزيز بالقول: «الأمير سلمان يرى أن الديمقراطية لا تناسب المملكة المحافظة ويتبنى نهجا حذرا للإصلاح الاجتماعي والثقافي». لكل منهما ولي لولي عهده نهاية عقود طويلة من حكم «السديريين» الأقوياء في مملكة آل سعود، كان قد مهّد لها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، بمسارعته إلى تعيين ولي عهد سلمان دون تفعيل هيئة البيعة التي قام هو نفسه بإحداثها عام 2006. الملك عبد الله حرص على تعيين ولي لولي العهد، واختار لذلك أحد إخوته صغار السن مقارنة بالجيل الأول من أبناء عبد العزيز، الأمير مقرن بن عبد العزيز، وذلك من جهة، حتى لا يترك لخلفه إمكانية اختيار من يراه صالحا لولاية العهد، ومن جهة أخرى، لكون الأمير مقرن يعتبر، في رأي بعض المراقبين، حاملا لنفس فكر الملك الراحل عبد الله، المتّسم ببعض الانفتاح. سلمان بن عبد العزيز سارع صباح أمس الجمعة، ومباشرة بعد تلقيه البيعة كملك جديد للعربية السعودية، إلى القيام بخطوة مشابهة لتلك التي قام بها سلفه، حيث أعلن الديوان الملكي السعودي مبايعة وزير الداخلية النافذ، الأمير محمد بن نايف، وليا لولي العهد ليكون بذلك أول من سيتولى الحكم من أبناء «الجيل الثاني» في آل سعود. كما أعلن الديوان الملكي تعيين الأمير محمد بن سلمان نجل الملك وزيرا للدفاع خلفا لوالده ورئيسا للديوان الملكي. واصدر الملك سلمان عددا من الأوامر الملكية التي تضمنت، خصوصا إعفاء السكرتير الخاص للعاهل السعودي الراحل خالد التويجري من مناصبه، بما في ذلك منصب رئيس الحرس الملكي ومدير الديوان الملكي. وفيما تصف كبريات الصحف الأمريكية العاهل السعودي الجديد ب»المحافظ»، مقارنة بسلفه الراحل عبد الله بن عبد العزيز؛ تحرص مصادر أخرى ملمّة بخبايا المطبخ الداخلي لآل سعود، على التنبيه إلى أن المدة الطويلة التي قضاها العاهل الجديد كمسؤول عن منطقة العاصمة الرياض التي وُلد فيها عام 1935، وتركيزه على تطويرها وتحويلها إلى معلمة حضارية في قلب الصحراء؛ جعله يبتعد عن الساحة الدولية ويبقى «غير معروف» في الأوساط الدبلوماسية من حيث المواقف والتوجهات السياسية. في تحليل إخباري سابق لوكالة الأنباء «رويترز»، اعتبرت أن الملك الجديد للعربية السعودية هو شخصية مألوفة للولايات المتحدة، «إذ ترتاح واشنطن للتعامل معه، وقد اجتمع بالرئيس باراك أوباما من قبل». وتنقل الوكالة عن سفير الولاياتالمتحدة السابق لدى الرياض، روبرت جوردان، قوله إن سلمان قادر على تحقيق توازن دقيق لدفع المجتمع للأمام «بينما يحترم تقاليده وأساليبه المحافظة». وفيما ظل حاكما للرياض قرابة خمسة عقود، برزت شخصية الملك الجديد حين تولى وزارة الدفاع، حيث حرص على تحويل القوات المسلحة السعودية إلى واحدة من أفضل الجيوش عتادا في الشرق الأوسط وتقوية العلاقات مع حلفاء مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا. المغرب يرث صداقة استراتيجية «وإذ أؤكد لكم وقوف المغرب الثابت إلى جانبكم، ودعمي المتواصل لمبادراتكم الخيرة، ومساعيكم الحميدة، فإني أدعو الله تعالى أن يلهمكم كامل التوفيق في النهوض بأماناتكم الجليلة والجسيمة، ويواصل إمداده لكم بالعون والسداد، مشدودي الأزر بإخوانكم الأماجد، أصحاب السمو الملكي الأمراء الأجلاء». هكذا هنأ الملك محمد السادس العاهل السعودي الجديد سلمان بن عبد العزيز. هذا الأخير يعتبر بدوره مقرّبا من مملكة محمد السادس، حيث ظلّت جريدة «الشرق الأوسط» التي يتحكّم في الشركة المصدرة لها، أي لمجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، أفضل سفيرة لهذا الأمير النافذ في مملكة العلويين. الصحيفة واسعة الانتشار، تمتّعت على مدى ثلاثة عقود، بامتياز الطبع في المغرب، وهي الحظوة التي حُرمت منها كثير من كبريات الصحف الدولية الناطقة بالعربية، قبل أن يتقرر إنهاء الأمر ابتداء من فبراير المقبل. العاهل الجديد للعربية السعودية، عُرف بدوره، وعلى غرار باقي إخوته الأمراء، بالتردد على المغرب وقضاء فترات من الراحة فيه. وحين جاء الملك عبد الله صيف العام 2009 للاطمئنان على صحة ولي عهده، الراحل سلطان بن عبد العزيز، كان في مقدمة من وجدهم في استقباله بمطار أكادير، سلمان بن عبد العزيز. بدوره، الملك محمد السادس حين انتقل إلى العربية السعودية شهر يوليوز الماضي، لأداء مناسك العمرة، وجد ولي العهد، الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز في استقباله. فيما تعود «صداقة» العاهل الجديد مع المغرب، إلى عقود طويلة، حيث وشحه الملك الراحل الحسن الثاني عام 1980 بوسام الكفاءة الفكرية. أي مستقبل لمملكة آل سعود بعد جيل الأقوياء؟ خلف الأنباء المتوالية لرحيل ملوك وأمراء آل سعود، توجد الحسابات السياسية الأكثر تعقيدا داخل البيت السعودي، والتوازنات الإقليمية المهددة بالانفجار في أية لحظة، والاعتبارات الدولية في سياق التحولات المخيفة التي يشهدها العالم في المرحلة الحالية من تاريخه. ففي حياة الملك عبد الله، رحل ولي عهده الأول الأمير سلطان بن عبد العزيز، الذي ورغم أنه كان يُعتبر رسميا الرجل الثاني في مملكة النفط والأمن والوهابية، إلا أن كثيرا من العارفين بحقيقة الأوضاع الداخلية لهذا البلد شبه المقدّس، يقولون إنه كان الرجل المتحكّم فعليا في دواليب الدولة العملاقة، والممكن الحقيقي للسلطات فيها. وقبل أقل من سنة من الآن، اختفت المسلسلات التركية المدبلجة من شاشة قنوات ال»إم بي سي» الشهيرة، وتوقفت راقصات الفيديو كليبات عن الترنح في باقة «روتانا»، واعتلت أصوات مقرئي القرآن الكريم جميع القنوات السعودية، وجملة واحدة أسفل تلك الشاشات كانت تفسّر أن الأمر لا يتعلّق بتمكّن جماعات من تنظيم القاعدة من السيطرة على مقرات تلك القنوات أو وسائل بثّها، بل وفاة قاهر شبكة القاعدة وطاردها من الديار السعودية، الأمير نايف بن عبد العزيز. ومنذ رحيل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمان بن فيصل آل سعود، مؤسس الدولة السعودية، عام 1953، بقي عرش المملكة منحصرا في أبنائه يتوارثونه واحدا بعد الآخر، حيث خلّف العشرات من الأبناء. والباقون منهم بلغوا اليوم سنا متقدما، جعل أنظار العالم تتركّز منذ سنوات حول كيفية انتقال العرش إلى جيل آخر من آل سعود، وتأثير ذلك المحتمل على سياساتهم الداخلية والخارجية.