يحلل جيل كيبل، المختص في الإسلام، في هذا الحوار تأثير هجمات الأسبوع ما قبل الماضي على المجتمع الفرنسي، ويعود إلى استراتيجية الدولة الإسلامية المستعدة لاستغلال كل الثغرات. وللتذكير، فكيبل متخصص في الحركات الإسلاموية، وهو عضو بالمعهد الجامعي الفرنسي، وأستاذ العلوم السياسية، ونشر مؤخرا مؤلفا يحمل عنوان «شغف عربي..يوميات 2011 و2012.» و مؤلف آخر يحمل عنوان « شغف فرنسي..أصوات الأحياء الهامشية « بمنشورات غاليمارد. { هل ستؤدي الهجمات (التي تعرضت لها باريس) إلى توحيد المجتمع الفرنسي، أم ستفاقم من انقساماته؟ إن سياق هذه الهجمات هو سياق حركة «داعش» التي تمكنت من تحديد ما تعتبره تمزقات ثقافية ودينية داخل المجتمعات الأوربية، وبشكل خاص داخل المجتمع الفرنسي، التي تعمل على تعميق هذه التمزقات، وتحويلها إلى «هوات»(failles). وتراهن هذه الجماعة على تحولها إلى حرب أهلية بين السكان ذوي الأصول الإسلامية وبين «المعادين للإسلام»، بعد أن تكاثر هؤلاء بشكل ملحوظ بسبب الهجمات الجهادية. من جانبهم، سيجنح السكان المسلمون على الأرجح إلى التطرف كرد فعل على ذلك، لدرجة سيعتبرون معها الجهاديين أبطالهم. لقد تم التعبير عن هذه الاستراتيجية في شهر دجنبر من سنة 2004 من طرف أبو مصعب السوري، وهو المنظر الإيديولوجي السوري الذي قمت بترجمة أطروحاته سنة 2008 في كتابي الذي يحمل عنوان «terreur et martyre» (إرهاب و شهداء). لم تكن هذه الإستراتيجية قادرة على المرور إلى مرحلة التطبيق على أرض الواقع، لأنه كان يتحتم عليها الاعتماد على الشبكات الاجتماعية، وكانت تحتاج إلى أرض قريبة للجهاد والتدريب، وهذان العنصران لم يكونا متوفرين آنذاك. أما اليوم، فهناك «يوتوب» و «تويتر»، فضلا عن أرض المعركة السوري-العراقي التي توجد في متناول الرحلات الجوية. { هل تشكو فرنسا من هشاشة كبيرة؟ هي مستهدفة نعم. أما أن نقول هشة فقطعا لا. لست متأكدا أن مظاهرات مثل تلك التي شهدتها فرنسا يوم الأحد (11يناير) كان يمكن أن تجري في دولة أوروبية أخرى. ويبدو لي أنه مع كل ما قيل في السنوات الأخيرة حول انفراط عقد الميثاق الجمهوري، وتبخيس الهوية الفرنسية اليعقوبية (jacobine أي التي تؤمن بالدولة المركزية) في زمن الأنترنت، حدثت (في ذلك الأحد) هزة نوعية ومدهشة، بين ساحتي «الجمهورية»(republique) و»الأمة»(la nation) بباريس قام بها أفراد من كل المشارب ومن كل الأصول، ومن كل الأعمار، وبرهنوا من خلالها أن الميثاق الاجتماعي والثقافي ما زال موضوع الساعة، ويتعين دوما إعادة بنائه معا، حتى وإن كانت هناك غيابات. بهذا المعنى، تشكل مظاهرات 11 يناير سدا ثقافيا منيعا جدا ضد إيديولوجيا «داعش» وضد إستراتيجيتها القائمة على تعميق الانكسارات والتمزقات من خلال الهجمات… { لماذا تم استهداف «شارلي إيبدو» بالضبط؟ إن استهداف «شارلي إيبدو» أكثر فعالية بكثير من القيام بهجمات عمياء، لما يكون الهدف هو تعميق هذه التمزقات. بهذه الطريقة تريد «داعش» أن تقدم نفسها على أنها المدافع الوحيد عن الإسلام المهان تماما، كما فعل الخميني عبر فتواه الصادرة بتاريخ 14 فبراير 1989 ضد كتاب «الآيات الشيطانية». إذ يخول قتل الرسامين المتهمين بإهانة الرسول الحصول على تعاطف أوسع، ما دامت الرسوم الكاريكاتورية لم تصدم السلفيين فقط، بل عددا كبيرا من المسلمين التقاة والمتدينين البسطاء كذلك. بالمقابل، فإن البلاغة السلفية التي كانت تقول إن النساء والأطفال، ضحايا الهجمات العمياء، مسؤولون عن مصيرهم وكان عليهم تفادي الوجود في مواقع تلك الهجمات؛ لأنهم جزء من الخسائر الجنابية الضرورية، لم تقنع سوى دوائر ضيقة تجذر فيها التطرف. { ألا ينخرط الهجوم الذي تعرض له المتجر اليهودي ضمن هذا المنطق؟ لقد أعلن كوليباني ذلك في شريطه المصور: «جندي الإسلام». لكن، هناك انزياح دلالي بين الهجومين… وقد قلل الهجوم الثاني (الذي استهدف المتجر اليهودي) من التأثير الإيديولوجي للهجوم الأول لدى المتعاطفين المحتملين. فقد حدث تحول يوم الجمعة عندما بدأت عملية حجز الرهائن في الوقت الذي كان فيه الأئمة يلقون خطبهم داخل المساجد، وكان اليهود المتدينون يحضرون أنفسهم لاحترام طقوس «الشباط».. إن (يوم الجمعة) يشكل لحظة توتر أسبوعية داخل جمهوريتنا الفرنسية العلمانية. إذ فجأة، وداخل المنطقة «الرمادية» التي تضم أولئك الذين شجبوا بالتأكيد جرائم القتل، ولكن كانوا يلمحون إلى أن الذين أنجزوا الرسوم الكاريكاتورية للرسول كانوا فعلا يسعون إلى هذا المصير، ظهر شعور بالقلق ذكرني بما سبق أن رأيناه خلال فترة الحرب الأهلية الجزائرية مع قضية خالد قلقال. في ذلك الوقت، وبالرغم من أن عددا من الشباب ذوي الأصول الجزائرية كانوا يكرهون النظام في الجزائر العاصمة، ويتعاطفون مع جبهة الإنقاذ الإسلامية، فإن توسع النزاع في فرنسا جرت محاصرته. إذ انطلاقا من اللحظة التي ارتكبت فيها «الجماعة الإسلامية المسلحة» عمليات قتل في فرنسا، فإن جزءا كبيرا من السكان المعنيين، الإباء خاصة، شعروا بخطر فقدان وضياع كل ما شيّدوه هنا. وشرعت الشبكات المجتمعية وعدد من الأئمة، في إطار تفاعل مع السلطات، في القضاء على المشاغبين. وهذا ما سمح لنا بأن نعيش دون حدوث أية هجمات طيلة 16سنة، وخاصة عقب أحداث 11 شتنبر، إلى غاية «قضية مراح» في سنة 2012. لقد كان لعملية اغتيال رهائن المتجر الذي يبيع منتوجات الحلال اليهودية صدى أقوى بكثير على مستوى الحياة اليومية. فقد استوعب كثيرون فجأة أن هناك، من الآن فصاعدا، خطرا جوهريا يهددهم. لقد تغير المجتمع الإسلامي في فرنسا منذ الحرب الأهلية الجزائرية في التسعينيات. لم يعد جيل الآباء هو صاحب القيادة، بل انتقل زمامها إلى الأكثر تدينا، وبين أيدي «الأربعينيين»، وخاصة أولئك الذين أطلق عليهم «مقاولو الحلال»، الذين يشرفون على تسيير مواقع «اليقظة الإسلامية» على الأنترنت. بالنسبة إليهم، من المهم جدا أن يقدموا أنفسهم على أنهم مدافعون عن الدين «الكامل» كما يقولون، وتفرض عليهم «شرعيتهم المجتمعية» محاربة «شارلي إيبدو». بالمقابل، عليهم التعامل يوميا، حتى وإن كان ذلك من أجل التجارة، مع فرنسيين آخرين واليهود على الخصوص. أما بعض «الكفار» و»الصهاينة»، فتلك مسألة مختلفة. وهذا الأمر يجعل التأثير الرمزي للهجومين مختلفا، في إطار ما يبدو، عدا ذلك، مأساة واحدة. { هل نحن اليوم في فرنسا بمنأى عن الحرب الأهلية التي تتمناها داعش؟ تشكل مظاهرة (11 يناير) جوابا استثنائيا في المرحلة الأولى من أجل تجنب هذا المناخ. إن تأثير هجوم إرهابي يتعمق أكثر في حال تعدد الهجمات. فقد كان تنظيم القاعدة يسعى جاهدا إلى تنفيذ عمليتين أو أربع بشكل متزامن، كما كان عليه الحال في 11 شتنبر مع الطائرات الأربع المختطفة، وبعد ذلك في مدريد وإسطنبول ولندن. يوم الجمعة (9 يناير) ظهرت حالة من الارتباك بعد الزوال إثر انتشار إشاعة بخصوص وجود إرهابيين في جميع مناطق باريس. ثم بعد ذلك، جاء الخلاص مع العملية الهجومية المزدوجة (لقوات الأمن). إن تعدد الهجمات يخلق شعورا بأن المستهدف هش وضعيف، والحال أن الهدف الفرنسي ل»داعش» أظهر قدرة مدهشة على رد الفعل، وقامت قوات حفظ النظام بعمل فعال جدا. وكما أنني لست متأكدا من إمكانية حدوث مظاهرة مثل التي جرت في باريس بدول أوروبية أخرى، فإنني كذلك ليس لدي اليقين أن مصالح أخرى كانت قادرة، وفي ظرف 24 ساعة، على تحديد هوية منفذي الهجمات، وكشف مكان وجودهم وتصفيتهم. صحيح أن الأخوين كواشي و كوليبالي أفلتوا من ردارات المراقبة قبل تنفيذ أفعالهم، لأن النموذج الذي تشتغل به الأجهزة الخاصة هو نموذج معمول به منذ سنوات1996-2012، وهو العهد الذهبي للأجهزة الفرنسية في محاربة الإرهاب. لكن الهجمات الأخيرة كشفت طريقة العمل الجديدة التي تعتمدها «داعش». وهذه الطريقة لا تخلو من نقاط ضعف أيضا. { تتحدث عن «داعش» وليس عن تنظيم القاعدة، فهل هذا راجع إلى كون التنظيم الأول هو الذي يفرض إيقاع وطريق العمل؟ في سنة 2004، وانطلاقا من انتقاده للمركزية المفرطة التي يتبناها تنظيم القاعدة، ونقده على الخصوص ل»استراتيجية 11 شتنبر» التي اعتبر ذات عواقب سيئة سياسيا، لأنها سمحت لأمريكا بتدمير البنى التحتية لبن لادن في أفغانستان، وضع السوري أسس ما سيصبح فيما بعد «الدولة الإسلامية» أو «الدولة» كما يقال في عالم الجهاديين. كان يدعو إلى تعدد الهجمات الإرهابية المتزامنة التي تمس الحياة اليومية، لإحداث استفزازية متكررة داخل المجتمعات الأوربية، التي يرتكبها مسلمون أوروبيون. ويستحسن أن تستهدف تلك الهجمات اليهود والمثقفين»الكفرة» المسلمين»المرتدين» و التظاهرات الرياضية من أجل تخويف المجتمعات الغربية، ودفعها إلى المبالغة في رد الفعل. إنها المقولة اليسارية القديمة والمبتذلة «إثارة – قمع – تضامن». ينضاف إلى كل هذا تلك الفكرة التي تقول إن الدول لن تكون قادرة على التصدي لما يجري، وإن من شأن تلك العمليات أن يؤدي إلى صعود اليمين المتطرف الذي سوف يحرق المساجد.. وأن أوروبا ستنهار قبل أن تصبح تحت السيطرة الإسلامية. إنه تفوق ال «rhizome» (الجذور) (المفهوم الذي جاء به المفكر الفرنسي جيل دولوز) على المركزية اللينينية، بعد أن تم نشره في عصر «اليوتوب» والتعبير عنه بلغة الجهاد (للتذكير أبو مصعب السوري عاش ودرس في فرنسا في عقد الثمانينيات). لم يعد هناك «مصدرون للأوامر» و «منفذون» كما كان عليه الحال في عهد بن لادن. أصبح كل شيء يستند إلى التوجيه والإرشاد، وعلى التلقين الروحي والتدريب العسكري مع وجود هامش واسع للمبادرة بالنسبة للخلايا الصغيرة المؤدلجة للغاية ب»الإلهام» (l'inspiration)، ومن هنا جاء عنوان المجلة التي ينشرها تنظيم «القاعدة في الجزيرة العربية» باللغة الإنجليزية على الأنترنت.:inspire. عندما أسسها الأمريكي اليمني العولقي، كان تنظيم «القاعدة» ما زال العلامة التجارية الأكثر شهرة في العالم مع كوكا. واليوم، أصبحت «داعش» هي الأكثر شهرة بشكل أو بآخر. لكن لدى أصحابها مشكل في التسمية بين isis وdaech وisilوdawla، سيضر في نهاية المطاف بسعيهم إلى تحقيق الشهرة. { الدولة الإسلامية تأخرت كثيرا في الدعوة إلى مهاجمة الغرب لماذا؟؟ تتوفر الدولة الإسلامية على أرض بخلاف تنظيم القاعدة. وتمكنت في العراق من الركوب على المطالب العربية السنية لتأسيس نوع من دولة «سنستان»، يكون لها امتداد في سوريا. وبهذا المعنى، كانت تجذب عددا من المنتمين إلى المذهب السني من جميع مناطق العالم، الذين يأتون لمساعدتها في حربها القبلية ضد الشيعة والأكراد والعلويين والمسيحيين، وبعدما يصبحون مقاتلين أشداء وذوي خبرة، يتم إعادة نشرهم في بلدانهم الأصلية من أجل القيام بالجهاد. وهنا تواصل بين مختلف أراضي الجهاد التي تم توحيدها بمرآة العالم الافتراضي. فالحوار المذهل الذي جرى بين الأخوين كواشي المطاردين داخل مطبعة «دامارتان» في مقاطعة «كويل سين ومارن»، الذي تم بثه مباشرة على قناة «BFM TV»، يوجد حاليا على العديد من المواقع الإسلامية بالشرق الأوسط، وبترجمة عربية، وذلك بهدف الاستقطاب. { ألا يمكن لتأثير هذه العملية غير المألوفة ضد «شارلي إيبدو» أن يحث آخرين على تقليدها؟ إنه عمل مرتجل، ولكنه معد بعناية، حيث استهدف رمزا قويا جدا، أي قيم وثقافة الخصم، وكان يحمل رسالة بسيطة هي :»تمكنا من تدميرك في المكان الذي قمت فيه بالإساءة إلينا». داخل الفضاء الجهادي، هناك عدد من الناس الذين قاموا بتمجيد الأبطال الثلاثة، تماما كما حصل محمد مراح على آلاف «الايكات» (LIKES). فضلا عن ذلك، حكى كوليبالي في نهاية شريطه المصور أنه قام بجولة في المساجد الغاصة بالناس في منطقة «إيل دوفرانس» (المنطقة التي تضم باريس والمحافظات المحيطة بها)، وأنه رأى آلاف الشباب في صحة جيدة، الذين عليهم اتباع السبيل التي سلك. الهدف هنا دفع الشباب إلى محاكاته. فهل سيستفيد الإرهابيون المحتملون من محيط ملائم لنشاطهم، أم إنه على العكس من ذلك سيتم تحديدهم وتهميشهم و فضحهم كما حصل في فرنسا عندما تجاوزت الحرب الأهلية الجزائرية الحدود الجزائرية ووصلت إلى التراب الفرنسي؟ يجب أن يفضي الجواب السياسي قطعا إلى إعادة تأسيس تلك الشروط (التي حصرته) في السياسة التواصلية للسلطات. ومن الأهمية بمكان تذكير مجتمعنا بكامله أنه من بين ضحايا الميول الجهادية يوجد أيضا مسلمون يعتبرون من طرفهم أنهم»مرتدون»، كما هو الحال بالنسبة إلى العريف أحمد مرابط، الذي قتل عمدا على الأرض في شارع ريشارد لونوار.. وأن أغلب ضحايا «داعش» هم مسلمون… بتصرف عن «ليبراسيون» الفرنسية