يفتح بنعيسى الجيراري علبة أسراره مع الراحل الكبير محمد بسطاوي، الذي فارق الحياة الثلاثاء الماضي بعد معاناة مع المرض، متحدثا، في هذا الحوار، عن الأيام الأخيرة من حياة رفيق عمره. الجيراري رافق بسطاوي في مسيرته الفنية منذ أيام المسرح الأولى، قبل أن ينتقلا معا إلى التلفزيون والسينما. { فقدت أقرب أصدقائك، كما يُعرف في الوسط الفني، الراحل محمد بسطاوي، أكيد أن الأمر ليس سهلا؟ لم أفقد صديقا، وإنما فقدت أخا أكبر، الذي كان قدوتي في كل شيء، كما هو الحال بالنسبة إلى الفنان محمد خيي. كنا قريبين من بعضنا البعض إلى درجة أن أحد المخرجين كان يقول لنا: «إذا ما احتجت إليكم، فيكفي أن أعثر وأتواصل مع أحدكم ليدلني أين الآخران». { لابد أنك كنت على اتصال به أيام مرضه؟ بل كنت قريبا منه، وأزوره يوميا.. وفي اليوم الذي كان سيدخل فيه إلى الإنعاش، بعد ظهور نتائج فحوصات، أظهرت سوء حالته، جلست إلى جانبه وكنت مصابا بالزكام وأسعل قليلا، فتحدث إليّ بصوت وكأنه ينهرني، طالبا مني الاعتناء بصحتي أكثر. { كيف قضى الراحل أيامه الأخيرة بالمستشفى؟ المرة الأخيرة التي أدخل فيها المرحوم إلى المستشفى، عرفت وزوجته سعاد أنها ليست كسابقاتها، فعلى مدى 23 يوما لم يغادر فراشه بالمستشفى العسكري. وقد اقترحت عليه مرة، وكانت معنا زوجته، التي كانت تحب أن أشجعه، أن أحمله على الكرسي المتحرك ونتنقل خارج المستشفى ليخرج مما هو فيه، لكنه لم يكن ليقوى على ذلك، ولم يقو حينها حتى على الكلام، فغرس أظافره في فخدي وأنا أجلس بجانبه لأفهم أن نقله على متن ذلك «الكرسي» كان عذابا بالنسبة إليه، حتى لما كان ينقل عليه بقصد إجراء تحاليل داخل المستشفى. ولم يعد يجد قليلا من راحته إلا مستلقيا على ظهره دون حراك. { هل لك أن تحدثنا عن أهم المحطات التي جمعتك بمحمد بسطاوي؟ هي مراحل كثيرة. لكن أهم المحطات التي كنا خلالها أكثر قربا من بعضنا البعض هي مرحلة التحضير لمسرحية «بوحسنة» سنة 1998، ليوسف فاضل، وكنا نقيم في منزل يقع أعلى «مسرح مولاي رشيد» بالدارالبيضاء، وقد اجتمعنا هناك لمدة تتجاوز الشهر، ولم نكن نفترق من أول اليوم إلى المساء، ونمضي بعد ذلك إلى تحضير العشاء ونتناقش بعده قبل أن ننام. والمحطة الثانية المهمة كانت أيضا زمن تصوير مسلسل «جنان الكرمة» للمخرجة فريدة بورقية، والتي جمعتنا لمدة ستة أشهر. { هذا يخص أهم محطات العمل، ماذا عن أهم المحطات أو المواقف الخاصة التي جمعتك بالراحل بسطاوي، باعتبارك أقرب أصدقائه، إلى جانب الممثل محمد خيي؟ جمعتنا مراحل ومواقف عديدة، تبعا لعلاقتنا الإنسانية الأخوية، وكنا نختار شاطئ الرباط لنجلس بالقرب منه، وتحديدا في منطقة بالقرب من المستشفى العسكري القديم. وكنا نتحدث في الغالب عن واقع المسرح في المغرب وظروفه، كما كنا نتحدث في أمور خاصة، وكنا نحلم كثيرا، ويحضرني من تلك اللقاءات موقف مؤثر جدا، وهنا سأحكي شيئا لم يشأ الراحل بسطاوي أن أعلنه، لكني فعلت على أثير الإذاعة الوطنية قيد حياته، وأكرره اليوم، وهو أنه في أحد الأيام من سنة 1997، بينما كنا جالسين قرب البحر، ونحن بصدد الحديث عن واقع المسرح، وجدنا أنفسنا غارقين في دموعنا واستغرق ذلك وقتا طويلا، وكان أول من بدأ البكاء هو بسطاوي رحمه الله، حسرة على ما آل إليه وضع المسرح، الذي لم يرق إلى مستوى أحلامنا الكبيرة. { كانت تجمعكم حينها فرقة مسرح الشمس؟ هذه الفرقة المسرحية «مسرح الشمس»، التي كان لها إشعاع كبير على المستوى الوطني، بقيت مستمرة في ذلك الوقت بنضال أعضائها لا غير، الراحل بسطاوي ويوسف فاضل وخيي والشوبي وعبد ربه… لأن الظروف لم تعد مواتية لاستمرارها، إلى أن تعبنا فقررنا الانصراف عن المسرح إلى التلفزيون بعدما وجدنا أنفسنا ندور في حلقة مفرغة، إذ كان لكل منا مسؤولياته، وكان للراحل واجبات مادية، الكراء ومصاريف الأسرة والأبناء، لذلك لم يكن الاشتغال في المسرح يسعفنا على الوفاء بها. { هذا يعني أن انصرافكم عن المسرح لم يكن طوعا؟ لا، فقد كنا مجبرين على ذلك، إذ كان المسرح بالنسبة إلينا حبنا وعشقنا الأول، الذي لا نريد مفارقته، ولو كانت للمسرح في المغرب ضوابط ليمارس على نحو معقول وكريم كما في البلدان التي تملك مسرحا حقيقيا، ما تركناه واشتغلنا في التلفزيون أو السينما. { لكنكم عدتم سنة 2013 إلى المسرح عبر عمل «الباب مسدود»، فهل استطعتم فتح باب النجاح مرة أخرى بهذه العودة؟ مر على مغادرتنا «مسرح الشمس» وانشغالنا بالتلفزيون لنكسب عيشنا 13 سنة، قبل أن نعود إليه ما بين 2012 و2013، بطلب من إحدى الجمعيات في الدارالبيضاء التي نادت على الفرقة وكرمت مسرح الشمس، وألح علينا الأصدقاء والزملاء بأن يعود مسرح الشمس إلى تقديم روائعه ك»خبز وحجر» و»فانتازيا» و»أولاد البلاد»، وغيرها. فأنجزنا مسرحية «الباب مسدود»، بمشاركة كل من الراحل محمد بسطاوي ومحمد خيي ومحمد الشوبي والبشير أوكاين وجليلة التلمسي وعبد ربه بنعيسى الجيراري، وصاحبنا في الموسيقى عبد الفتاح النكادي، وقدمنا خلال هذه الفترة أربعة عروض معتقدين أننا سنجد واقعا آخر. { وكيف وجدتم الواقع الجديد للمسرح، أمام الحماس الذي عدتم به؟ في مقابل الحماس الذي عدنا به لم يكن أمامنا إلا واقع مؤسف، كما تركناه من قبل وأكثر. واقع لا يمكن معه ممارسة المسرح، لذلك طوينا الصفحة وعدنا من حيث أتينا. { كل هذه الأمور التي رويتها يمكن أن نقول إنها غير خفية، حدثنا عما هو خفي بينك وبين الراحل بسطاوي؟ أعترف هنا أن محمد بسطاوي كان من يوجهني في كل شيء، بما في ذلك أموري الخاصة، التي تهم أسرتي وكل ما يعترضني في حياتي، إلى جانب توجيهه لي في العمل. وكثيرا ما كنا نكتفي بإشارات بالعيون أثناء تصوير عمل ما لينبهني إلى شيء ما، وكذلك كان يفعل محمد خيي، حتى إنه كان بإمكاننا أن نجالس بعضنا نحن الثلاثة دون أن نقول كلمة واحدة، لكن نقول كل شيء ونفهم بعضنا بالعيون. { في آخر عمل جمعك بمحمد بسطاوي، هل كانت بادية عليه آثار المرض حينها؟ آخر عمل جمعنا هو فيلم تلفزيوني «العريس» ليوسف فاضل، صورناه شهر شتنبر الماضي، إلى جانب الفيلم السينمائي «أكادير إكسبريس»، للمخرج نفسه، ويلعب فيه الراحل محمد بسطاوي الدور الأول، وسيعرض ضمن المهرجان الوطني للفيلم. وهنا أريد أن أنبه إلى أن بسطاوي مرض منذ سنة ونصف حين اكتشف أنه مصاب بسرطان البروستات، ولم يكن يريد أن يُعلم أحدا. وكان يقول دائما إنه بخير وقد أجرى عملية جراحية أولى كُللت بالنجاح، وعاد ليستأنف عمله، لكنه تعب مجددا وعاد ليجري عملية جراحية أخرى ويعود إلى العمل مرة أخرى، قبل أن يعود للمستشفى العسكري مرة ثالثة، وكانت هي الأخيرة. وأشير هنا إلى أن تكاليف علاج صديقي تكفل بها الملك محمد السادس من أول يوم دخل فيه المستشفى إلى يوم وفاته، وفي هذا الصدد أريد أن أشكره وأشكر الطاقم الطبي الذي لازم المرحوم. { هل تغير شيء في تعامل أو في سلوك الراحل حين علم بالمرض؟ في نهاية تصويره مسلسل «كنزة في الدوار» بدأ يشعر بالتعب، لكنه كان ما يزال قادرا على العمل، ولم يكن يبدو عليه أي شيء، لكن بعد ذلك تغير بسطاوي، إذ أصبح يرفض البقاء وحده، وكان في حاجة دائمة إلى من يجالسه ويحدثه، وكان ذلك جليا أثناء فترة تصويرنا معا الشريط التلفزيوني الأخير «العريس» ليوسف فاضل، وكنت أرافقه طيلة الوقت بعد إنهاء التصوير. { هل كشف لك شيئا مميزا في تلك الفترة؟ في إحدى الليالي بعد الانتهاء من التصوير، كعادتي دخلت غرفتي قبل أن أغادرها للبقاء مع بسطاوي في غرفته في الفندق، حدث أن حدثني الراحل عن أشياء خاصة جدا لأول مرة، أعتقد ألا أحد يعلم بها سواه والله ووالده، وربما زوجته، هي أمور خاصة ودقيقة جدا باح لي بها بعد 28 سنة من الصداقة. صحيح أننا نعرف الكثير عن بعضنا البعض، بدءا من الطفولة، لكن تلك الأمور لأول مرة كشفها لي بسطاوي، وأثر فيّ ذلك جدا، خصوصا أننا في اليوم الموالي، أثناء تصوير أحد مشاهدنا في الفيلم الذي أتقمص فيه شخصية «حمادي»، كان يقول لي: «حمادي راك بحال خويا الصغير»، وهو فعلا ما دفعه للبوح لي بتلك الحقائق التي تخصه. { هل يمكنك أن تطلعنا على شيء منها؟ طبعا لا، فتلك خصوصيات المرحوم التي لن أحكيها ما حييت. { بخلاف مجموعة من أصدقائك، وعلى رأسهم الراحل بسطاوي، ألا ترى أنك لم تنل حظك من الشهرة رغم تمكنك وتميزك في أداء الأدوار التي أنيطت بك؟ في هذا الصدد أريد أن أقول إن محمد بسطاوي اشتغل أيضا بتميز في «مسرح اليوم» لعشر سنوات، وفي المسرح أكثر من 20 سنة، ولم يكن يعرفه أحد، نظرا لكون المسرح لا يسمح بالانتشار، تبعا لطبيعة جمهوره النخبوي. لكن جاء الوقت الذي كتب له فيه أن يُعترف بمجهوده الإبداعي، وبكفاءته التي لا يمكن أن يعوضه فيها أحد، انطلاقا من دوره «بوجمعة» في «دواير الزمان»، وما تلاها من أدوار للتلفزيون والسينما. وأستحضر مقولتين، الأولى كان يرددها أمامي الراحل وهي: «لما علمت أن رزقي لن يستولي عليه أحد غيري اطمأن قلبي»، والقولة الثانية كنت أرد بها عليه وهي: «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت». من هذا المنطلق أومن أن لكل شيء أجل. { أدوارك قليلة جدا في السينما، وآخر عمل رأيناك فيه كان مع فريدة بورقية في فيلم «زينب.. زهرة أغمات»، ماذا وراء ذلك؟ الأمر لا يعود إليّ، لأني حاضر في الساحة الفنية والمخرجون يعرفون قدراتي، وأعتقد أن الأدوار الحقيقية لم تمنح لي بعد. { على ذكر الأدوار الحقيقية، لم نشاهدك في السينما إلى الآن في دور محوري، وقدمت فقط أدوارا ثانوية بصرف النظر عن بصمتك الجيدة فيها؟ الأدوار التي منحت لي لم أخترها، فقط وجدت نفسي قادرا على تقديمها ففعلت، كما هو الشأن بالنسبة إلى دوري في الفيلم السينمائي «أندرومان». هذا بخصوص السينما، أما التلفزيون والمسرحة فأعتقد أني أخذت نصيبي من الأدوار الأولى والثانوية ومارست عشقي للتشخيص كما أريد شرقا وغربا. { الكثير من المخرجين الذين تعاونت معهم في بداية مسارهم الفني، أداروا لك ظهورهم بعدما اشتهروا؟ هذا صحيح، لأن عددا منهم اشتغلت معه حين بدأت موجة إنجاز ثلاثة أشرطة سينمائية قصيرة للحصول على بطاقة مخرج، وتمردوا ومضوا وكأنهم الأفضل بعد حصولهم على البطاقة، في الوقت الذي لا يضم رصيدهم الفني سوى بضع أشرطة لا تشرف فنانا حقيقيا، ولو كنا مثل هؤلاء لحققنا أفضل مما وصلوا إليه، هؤلاء لا يشتغل معهم اليوم إلا «بوسنطيحة»، أما نحن ف»كنحشموا على عرضنا»، شأني في ذلك شأن الراحل بسطاوي، لأننا نقدر فكرة الرجل المناسب في المكان المناسب، وأن الاسم الحقيقي الذي يمكنه أن يأتي عليه يوم ليقف شامخا، هو الذي يبنى على أساس فني حقيقي، وسنوات طويلة من التجربة، لا على أشياء وهمية تقف على الدعاية الإعلامية لا أكثر. { ألم يكن يحز في نفسك أن ينادى عليك لتقديم دور ثانوي إلى جانب صديقك الذي ينادى عليه لتقديم دور أول؟ لا. مادمت أرى الرجل المناسب في المكان المناسب كما هو شأن الراحل بسطاوي. أما حين أرى غير ذلك، ويبدو لي «الكاستينغ» سيئا، فالأمر طبعا يزعجني. وأريد أن أقول في هذا الصدد إن أحد المنتجين اقترح عليّ مؤخرا دورا بارزا بمقابل مادي مغر، لكني رفضته إيمانا مني أنه لا يناسبني ولا أناسبه. لكني رفضته بعد قراءته. { ألا يخالف رفضك هذا كون الممثل الحقيقي هو من يُشخص كل الأدوار رغم اختلافها؟ لكن ثمة أدوارا لا تناسب أعمارنا رغم استعمال الماكياج، كما أن هناك أدوارا بعيدة نفسيا واجتماعيا جدا عن الممثل ولا يمكنه أن يتقمصها. { لنختم بأهم شيء كان قريبا ومحببا لدى الراحل بسطاوي؟ كان يحب أبناءه بشكل كبير، وخصوصا ابنته الصغيرة، فاطمة الزهراء. وكان يحب الحياة، إلى درجة أنه ذات يوم وقبل وفاته، وكان موعد تصوير مسرحيتنا الأخيرة «الباب مسدود» للتلفزيون، حاولت أن أزرع فيه الحماس وأشجعه موجها إليه حديثي «انهض بسرعة لنصور المسرحية»، فرد عليّ: «سأقوم إن شاء الله وسنصور، لكن كل حاجة بوقتها»، وكان ينطق بذلك وكأنه فعلا سيقوم من جديد.