ا يشكل الراحل الكبير الفنان محمد مجد لرفيق دربه محمد الرداني الفنان ، ومدير«الكاستينغ» شخصا عاديا، بل صديقا حميما ق نظيره . و شكل فقدانه مأساة إنسانية حقيقية وكابوسا لم يستيقظ حتى اللحظة، عاش تفاصيل حياته لأكثر عقد من الزمن، كان خلالها الأخ الأصغر، بل والابن المطيع وشكل له الأب النصوح إلى آخر رمق الحياة.. محمد الرداني يكشف في هذا المسار الحكائي عن تفاصيل بعض من حياة الفنان الكبير محمد مجد خلال أيامه الأخيرة وعن بعض ما طبع مشواره المهني المطبوع بالتواضع والبساطة والانسانية.. لماذا الحديث عن محمد مجد! الراحل محمد مجد يعد من أعز وأقرب أصدقائي. إن علاقتي به تفوق هذا الوصف، هي - حقيقة - علاقة الأخ الأصغر بالأخ الأكبر،، بل الابن الذي «ضاع » في أبيه (يجهش بالبكاء).. علاقة دامت حوالي 13 سنة، كنا نلتقي صباحا، في الظهر، ومساء .. باختصار كنا لانبتعد إلا لضرورة أسرية أو مهنية قاهرة، أي عندما يشتغل هو في مكان وأنا في مكان آخر. كنت أساعده في تنفيذ وتلبية مطالبه اليومية ونتحدث ونتناقش في الأمور والمشاكل الشخصية والمهنية التي تعترضه. كان الراحل مجد، الذي كنت أناديه ب «المايسترو»، أبا حقيقيا بالنسبه لي بالنظر لتعامله الإنساني، الرفيع و المثالي، وهذا الأمر يعلمه الكثير من الفنانين والمخرجين .. الذين كان للفنان محمد مجد ارتباط بهم بعيدا عن نطاق العمل. فأي مهرجان يوجه دعوة للراحل إلا وكنت أصاحبه، وأي فيلم أو عمل تلفزيوني يتأهب لتصويره إلا وأذهب معه.. دافعي للحديث عن الفنان الراحل محمد مجد كانت بفضل الرعاية الأبوية التي خصني بها لسنين طويلة بعدما حرمت من حنان الأب الذي توفي رحمة الله عليه، وأنا جد صغير.، حيث كان ينصحني ويساعدني مهنيا.. باعتباري أشتغل في مجال المحافظة (ريجيسور) و«الكاستينغ» وكذا في مجال التمثيل في بعض الأدوار الثانوية.... آخر الأعمال آخر أعمال الفقيد محمد مجد، بعد مشاركته في العمل التلفزيوني «الحياني» للمخرج كمال كمال، و «الزيرو» لنور الدين الخماري ثم الفيلم السينمائي «زينب النفزاوية» للمخرجة فريدة بورقية، كان فيلما أجنبيا حول التزحلق على الماء بمدينة الصويرة، وذلك قبل خمسة عشر يوما من وفاته. ومن الأحداث التي عرفها تصوير هذا الفيلم، كان هناك مشهد يتطلب من الفقيد أن يركب القارب إلى وسط البحر، وعندما فعل، فاجأته أزمة تنفسية، حيث وجد صعوبة كبيرة في التنفس وانتابته نوبة دوخان فتم استدراكه و إسعافه. نفس الشي قبل ذلك عانى منه عندما كنا في المهرجان الدولي للفيلم الأخير بمراكش، حيث انتابته أزمة تنفس وتم اسعافه بالأوكسجين في أحد كوابس (loge) المسرح، وسبب ذلك أن الفقيد كان كثير التدخين بالرغم من أن الأطباء في فترات سابقة كان قد منعوا عليه التدخين حتى لا تكون هناك مضاعفات صحية.. حدس النهاية وعلى ذكر مدينة مراكش، فقد كان الراحل محمد مجد يحب هذه المدينة كثيرا، لطبيعتها وهوائها النقي و الصحي ولأناسها الطيبيبن، لذلك سعى إلى اقتناء شقة بها، وكان له ذلك، غير أنه للأسف لم يمكث بها سوى ثلاثة أيام في حياته (جمعة وسبت وأحد) لنشد الرحال صباح يوم اثنين للدارالبيضاء، وذلك بعد أن تم تجهيزها واقتناء جميع مستلزماتها. وكان المرحوم محمد مجد قد اقتنى هذه الشقة بالتقسيط موازاة مع شقة أخرى في منطقة سيدي رحال الشاطئية، القريبة من مدينة الدار البيضاء، وكان يدفع أقساطهما كل ما سنحت له فرصة الاشتغال في عمل درامي وطني أو أجنبي، إلا أن تعذر إيجاد السيولة المالية ، وفي الوقت الملتزم به لدفع الأقساط، اضطره إلى بيع الشقة الموجودة بسيدي رحال والاكتفاء بشقة مراكش، الأمر الذي مكنه من حيازة ملكية الشقة المراكشية بالكامل مع توفير وشراء جميع مستلزماتها لتكون له السكن الثاني بعد مدينة الدار البيضاء، حيث مقر السكن الرئيسي بالنسبة إليه. والغريب في الأمر في هذه الفترة، وكأنه حدس الرحيل الأبدي عن الدنيا، أعطاني الفقيد محمد مجد، بعد استكمال تجهيز شقة مراكش، قسطا معلوما من المال لتصفية جميع ديونه التي كانت عليه، وكأنه يريد أن يرحل عن الدنيا غير «مثقل» بشيء منها، وكان له ذلك، إذ تمت تأدية جميع الديون إلى أصحابها من منتجين وفنانين وتعاضدية الفنانين وكذا ديون شقة الكراء بالدارالبيضاء ( سنتان) وكذلك شركة تأمينات (السيارة) ونجار بمراكش .. وذلك قبل عشرين يوما بالضبط قبل وفاته (امشى نقي صافي..). وبالمناسبة كان الراحل محمد مجد، في هذه الأيام، أي أسابيع قليلة قبل الرحيل، يسأل ويستفسر عن كل من له شيئا لديه، ويحرص على أن يعطيه إياه، سبحان الله. وكنت أقول له «لماذا بالك مشغول بهذا الأمر، اترك كل أمر لوقته..» فكان يقول لي : «مالك! اعطي للناس فلوسهم. حَيِّد ليَ ديال الناس » . وفي السياق ذاته، ونحن في مدينة مراكش، قبل الوفاة، كنا نلعب الورق في شقته الجديدة وفزت عليه، وفاجأني بالقول «سأؤدي ثمن زوج الطنجيات، لكن هذه هي النهاية»، قلت ماذا: «قال هذه آخر لحظة.. » لم أشعر آنذاك إلا و الدموع تنهمر من عيوني.. والغريب في الأمر أنه عندما التقيت الفنان محمد بسطاوي بعد الرحيل المفاجيء قال لي، وهو يذرف الدموع، إن مجد قال لي نفس الكلام و«هذه هي النهاية..!» الصداقات علاقات وصداقات الفقيد محمد مجد كانت عديدة و متنوعة بحكم المجال الذي يشتغل فيه، وكانت له فيه بصمة قوية ومتمكنة، لكن دائرة هذا المحيط الانساني - الاجتماعي كانت لديه مطبوعة ببعض الخصوصيات والأصدقاء الحميمين، أذكر في هذا الصدد، بالإضافة إلى عبد ربه محمد الرداني، الشاعر مصطفى مفتي، المايسترو صلاح المرسلي الشرقي، الفنان سعد التسولي، المخرج عادل الفاضلي، الفنان ادريس الروخ، الفنان محمد خيي، الفنان محمد الشوبي، والفنان محمد بسطاوي، الذي أذكر بالمناسبة أنه تأثر كثيرا لرحيل محمد مجد «ما صبرش» والأمر نفسه بالنسبة للمنتج خالد النقري الذي قام بمجهود جبار ليعتني بصحة المرحوم في أيامه الأخيرة، خصوصا عندما كان يرقد بالمصحة، حيث لم يترك كبيرة وصغيرة تخص مجد إلا و تكفل بها و سهر على تنفيذها، وكان يقول دائما لمجد بأن لا يحمل هم أي شيء سوى الاهتمام بصحته. أما البسطاوي ، وبالرغم من إقامته بمدينة سلا، كان دائم الذهاب و الإياب بين الدارالبيضاء وسلا، فقط للقاء ومجالسة صديقه الحميم والعزيز محمد مجد، للحديث في شؤون الحياة و المهنة.. كان بسطاوي، في الكثير من الأحيان السند المعنوي، والداعم للفقيد عندما تشتد المحنة على المستوى المهني عندما تطول فترة البياض على مستوى الانتاجات الدرامية، حيث أذكر في هذا السياق أن مجد ، وهو في المصحة خلال أيامه الأخيرة، كان يطلب عدم إزعاج بسطاوي، الذي كان بدوره يمر بحالة مرضية .. وفي هذا الإطار كان الفقيد في حياته اليومية والاجتماعية، يتعامل مع الناس العاديين ليس كفنان معروف، بل كإنسان عادي جد بسيط، يرد التحية على شخص هنا، ويبتسم لشخص هناك، ويلبي رغبات أخذ الصور معه من المعجبين حتى ولو كان حالة إرهاق، بل الأكثر من هذا، ولشدة تواضعه، فعندما تتم دعوته لأي مهرجان لايحبذ أن يلج من الأبواب الرسمية، و يفضل الدخول من أبواب الخلفية، لأنه يحب أن لا تسلط عليه الأضواء. وفي سياق المهرجانات هذه، عندما يحضر لمشاهدة أي فيلم كان لا يجامل أحدا، يقول رأيه بصراحة تامة، فإذا كان الفيلم جيدا يقول لمخرجه «تبارك الله عليك»، وإذا كان الفيلم ضعيفا، يقول لمخرجه «فيلمك خايب» بدون لف ولادوران،. مشاريع لم تحقق كان الفقيد محمد مجد قبل أن تشتد أزمته الصحية ويفارق الحياة، يتأهب للعمل في عدة مشاريع تلفزيونية وسينمائية ومسرحية وعددها ستة، أولها فيلم سينمائي لمراد الخودي، الذي كان مقررا أن يلعب فيه دور البطولة، وفيلم ثان مع المخرج هشام عيوش، كان من المقرر تصويره بفرنسا، وثالثا فيلم قصير لمخرج شاب، ثم مسرحية «كاري حنكو» التي حصلت على الدعم، وكان الراحل هو من سيقوم بإخراجها ويشارك في بطولتها الفنان محمد بسطاوي، وبنعيسى الجيراري.. وآخرين، وكنت سأشغل مهمة المحافظة العامة فيها. فقد كان هؤلاء المخرجون يدعون محمد مجد للمشاركة في أعمالهم لأنهم يرون فيه الفنان العبقري، الذي سيعطي لمسة إضافية قوية لمشاريعهم السينمائية، أكثر مما يتوقعونه مثلما ما وقع في فيلم «زيرو» وبشهادة مخرجه نور الدين الخماري.. وعلى مستوى المشاريع الدرامية التي كانت تعرض عليه كان الراحل عندما يقرأ أي السيناريو ولم يعجبه واستنتج فيه نوعا من الضعف، كان يعتذر عن المشاركة إلى صاحبه بكل لياقة ولباقة، حتى ولو يكن يتوفر على سنتيم واحد . وعلى ضوء كتابة السيناريو كان الفقيد محمد مجد في الشهور الأخيرة مشغولا بكتابة سيناريو مسلسل تلفزيوني كان يعتزم تقديمه إلى إحدى القنوات المغربية لإنتاجه، إلا أنه، للأسف، لم يكتب لمشروع هذا السيناريو أن يكتمل، إذ كان يريد يشكله من ثلاثين حلقة . وبخلاصة، فإن كل دور يتم إسناده إلى محمد مجد في أي عمل، إلا ويندمج معه بسرعة فائقة، أو كما نقول بالدارجة المغربية «كيلبسو أو كيسكنو». وعلى ذكر الأدوار هاته، فالمرحوم لم يندم، قيد حياته، على أي دور قام به سوى عدم مشاركته في فيلم «الرجال الأحرار» للمخرج اسماعيل فروخي، حيث عرض عليه تجسيد شخصية رئيسية في الفيلم، وهي شخصية إمام مسجد باريس، لكنه اعتذر، غير أنه ندم بعد ذلك و بعد فوات الأوان. مجد الودادي المتعصب بعيدا عن مجال الدراما والمهنة، كان الفقيد محمد مجد إنسانا عاديا بسيطا يكره النجومية والشهرة و يحب الظل. جل وقته يقضيه في القراءة والأحاديث والمناقشات مع الزملاء والأصدقاء، أو في المتابعة الكثيفة للأعمال الدرامية التلفزيونية أو السينمائية سواء الدراما العربية أو الأجنبية بما فيها الدراما التركية، التي اعتبر أنها حققت طفرة نوعية على مستوى التوظيف الجيد للديكور والطبيعة الحية، الأمر الذي خول لها الانتشار الواسع في البلاد العربية وغيرها، وتساءل لماذ لا نقوم بالمثل مادمنا نتوفر على نفس المعطيات والإمكانيات.. وعلى مستوى آخر، عرف عن الفقيد أنه كان طباخا ماهرا، خصوصا ما يتعلق بالطبخ المغربي التقليدي من قبيل «الطجين» بكل أنواعه، وطبق الطنجية والكعاوي والسمك.. وهذا لا يعني أن محمد مجد كان أكولا شرها، بل العكس، إنه كما، نقول في تعبيرنا الدارج «كياكل بعينيه» فقط. زيادة على هذا فالراحل عرف عنه، أيضا، حبه وعشقه لفريق الوداد البيضاوي إلى درجة التعصب، يغضب لخسارته، ويفرح «ينشط» لانتصاره . لم يكن يذهب إلى الملعب لمتابعة مبارياته، باعتبار أنه كان يتفادى التواجد في الأماكن العامة، وكان يكتفي بالمتابعة في التلفزيون وفق طقوس معينة، حيث الانفعال والتفاعل مع مجريات ومعطيات المباريات، ونفس الأمر، كذلك، ينطبق مع مباريات المنتخب الوطني المغربي: «الروح ديالو هي الوداد و المنتخب». لقاء جلالة الملك من جملة الأشياء وأبرزها التي ظلت عالقة في ذهن الفقيد محمد مجد في الشهور والأخيرة قبل رحيله الأبدي، هو ذلك اللقاء / الصدفة التي جمعته بجلالة الملك محمد السادس، حيث كنت ومجد عائدين على متن السيار ة من مهرجان سلا لفيلم المرأة الدولي، وبينما كنا واقفين في الضوء الأحمر بطريق زعير، حتى توقفت سيارة بجانبنا، كان على متنها جلالة الملك لوحده، فأخذنا نحييه، وجلالته كان يرد التحية بابتسامة. وعندما انطلقنا بالسيارة عبر لي محمد مجد عن حبه الكبير لجلالة الملك، وقال«كم هو قريب من شعبه..» اللحظات الأخيرة كنت شاهدا على وفاته، رحمه الله، يوم العيد النبوي في السادسة صباحا في إحدى المصحات بالدار البيضاء، حيث يوما قبل الرحيل تم إعلامنا من طرف المصحة أن محمد مجد يعاني من أزمة قلبية حرجة. التقينا هناك مجموعة من أصدقاء الراحل إلى جانب طليقته السيدة فتيحة واتيلي، وأخته وزوجها للإطمئنان على صحته، وبقينا هناك إلى المساء، حيث صرح الأطباء بأن حالة الراحل مستقرة، بل وفي تحسن، إذاك ذهبنا إلى حال سبيلنا بكل اطمئنان، في حين ظلت السيدة نعيمة ملازمة غرفة الراحل.. وبالمناسبة، فطيلة مدة مكوثه بالمصحة التي رغب مجد أن يظل طي الكتمان، كان العديد من الفنانين والمخرجين والمنتجين يتصلون به للإطمئنان على صحته، حيث كان الفنان القديرمحمد بسطاوي، الذي كان يمر بأزمة صحية بدوره في تلك الفترة، يهاتف الراحل يوميا من مدينة سلا، لتحفيزه وتشجيعه معنويا للتغلب على هذه المحنة الصحية، والأمر نفسه بالنسبة للمنتج خالد النقري الذي كان حاضر ا بشكل يومي للسهر على سير العلاج، وكذا فعل الفنان ادريس الروخ وغيره من الفنانين والمخرجين والموسيقيين كالمايسترو صلاح الشرقاوي، نور الدين الخماري وكل أصدقاء الفقيد، بل أكثر من هذا كان مدير الديوان الملكي والطبيب الخاص لجلالة الملك، في هذا الصدد، يتتبعان خطى علاج الراحل بكل تفاصيلها من إدارة المصحة .. وكان الفقيد في هذا السياق يستقبل المكالمات والزيارات بصدر رحب إلى درجة كان جهاز قياس الضغط ونبضات القلب يشرع في إطلاق علامات الإنذار كلما كانت فترة إجهاده في الكلام تجاوزت الحدود المسموح بها.. ومن بين الأشياء التي أذكرها عن الفقيد محمد مجد، يومين قبل الرحيل، تلك الرسالة النصية التي بعثها لي عبر الهاتف المحمول، ولازلت أحتفظ بها، يطلب فيها مني أن أشتري له نصف كيلو من «العنب الأبيض»، لأنه اشتهاه، حيث قال لي بالحرف «خويا غدا في الصباح بغيتك جيب لي نص كيلو عنب.» وفي الغد صباحا بعث لي رسالة أخرى قال لي «آفينك». وعندما وصلت إلى المصحة أعطيته العنب، وطلب من الممرضة أن تضعه في الثلاجة، كما طلب مني أن أشتري له قنينات من مشروب غازي، وأعطاني 200 درهم التي أصر على أن أحتفظ بها. كما أذكر أنه قبل أن يدخل المصحة بأيام جد قليلة كان قد انتابته أزمة تنفسية ليلة أحد - اثنين، حيث هاتفني في الثانية صباحا لكي أصطحبه إلى مستشفى «الصوفي» ( مولاي يوسف) بالدار البيضاء، وكان الأمر كذلك بمعية ابنته، حيث تم إسعافه بجرعات من الأوكسجين، ولما عدنا إلى المنزل لم يتمكن من الصعود إلى شقته، فحملته بين يدي، وأثناء الصعود، رحمه الله، كان يقبل رأسي ويقول لي «اسمح لي خويا الرداني.. » كانت «نفسو واعرة وعزيزة».