مرة قال المفكر العربي عزمي بشارة، «إن إسرائيل تقدر أبطالنا أكثر منا، ولذلك تُجند من أجل اغتيالهم أكفء رجالها». تبدو هذه المقولة متطابقة مع حالة المهدي بن بركة، الرجل الذي تكالبت عليه أكثر الأجهزة السرية خطورة في العالم فقط، لأنه قال «لا». وحينما اعترف مدير العمليات السرية في الموساد، رسميا ولأول مرة بمساهمته في اغتيال المهدي، كان الوجه البشع للجريمة يتجاور مع وجه الشهيد، يعيده إلينا بقامته القصيرة بإصراره الطويل، بمنفاه القسري، باختياره الثوري، وبالحلم في معانقة تراب هذا الوطن.. خمسون عاما ظل يسأل، خمسون عاما ظل المهدي يطارد قتلته، خمسون عاما كان الجثمان المغدور يبحث عن شاهدة.. منذ ثلاثة أيام، ظهر على التلفزيون الإسرائيلي عجوز في عقده الثامن اسمه «رافي إيتان»، وهو يقول ببساطة: «نعم لقد ساهمنا في قتل المهدي بن بركة، بعدما قتلوه إغراقا في حوض من المياه، أشرنا على قتلته بمحو آثار الجريمة».. ليتابع قائلا: «كانت مجرد مجاملة من الموساد للدليمي». قتل رجل من حجم المهدي كان مجرد مجاملة.. كانت أول مرة يجيب فيها مسؤول بالموساد عن سؤال عمره نصف قرن.. وعلى الجانب الآخر كان البشير بن بركة يمسك بيده جريدة «أخبار اليوم»، وباليد الأخرى كان يهاتف قاضي التحقيق الفرنسي ليعيد فتح الملف من جديد، فهناك أمل يحيا من جديد.. قبل 49 عاما و38 يوما وبضع ساعات، كان اثنان من رجال الشرطة الفرنسية، وهما «لويس سوتشون» و»روجر فيوطوت»، يقتادان المهدي بن بركة نحو سيارة بزجاج غامق من أمام مقهى «ليب براسيري» في باريس. كان المكان يعج بالكثير من الجواسيس ورجال العمليات الخاصة، وكانت تلك آخر مرة يُشاهد فيها المعارض المغربي في مكان عام. صديق تشي غيفارا ورفيق جمال عبد الناصر، الذي كان على موعد مع اثنين من صانعي الأفلام السينمائية بأوروبا، لمناقشة مشروع فيلم حول تصفية الاستعمار، اختفى منذ ذلك اليوم ولم يعثر على جثته أبدا. وكان مقتله فاتحة لعهد جديد، عهد دموي وبشع في تاريخنا الحديث، حتى إنه يحق القول: المغرب قبل مقتل بن بركة والمغرب ما بعد مقتل بن بركة. ولأزيد من شهرين خيّم صمت مريب على باريس، لكن الضحية كانت أقوى من جلادها. ففي يوم 10 يناير 1966 ستنشر صحيفة «إكسبريس» الفرنسية مقالا بعنوان:»رأيت بن بركة يُقتل»، وهو عبارة عن شهادة للمنتج الذي كان على موعد مع بن بركة، فتفجرت الفضيحة، وصارت فرنسا رمز الإخاء والمساواة والحرية، مسرحا لواحدة من أبشع جرائم القرن، أدان القضاء الفرنسي الجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية المغربية ورئيس المخابرات حينئذ. وغضب ديغول من الحسن الثاني. في الخامس من شتنبر من العام 1966 ، انطلقت محاكمة المتهمين في اختطاف المهدي بن في باريس. المحاكمة التي لن ينساها الفرنسيون، استمرت لمدة 9 أشهر ونيف، وحضرها 167 من الشهود، أنطوان لوبيز الشاهد الوحيد، الذي كان مدير المحطة في أورلي، ومتعاونا مع أجهزة المخابرات المغربية ورفيقه لويس سوتشون، حكم عليهما بالسجن لستة وثماني سنوات على التوالي. الجنرال محمد أوفقير وجورج بوسيتش الذي كان أهم عضو في العصابة التي تمركزت في فونتيناي-لو-فيكونت، حيث أعدم المهدي بن بركة، حكم عليهم غيابيا بالسجن مدى الحياة. في هذا الوقت كان عبد القادر بن بركة شقيق المهدي وغيثة بناني زوجة المهدي يبحثان بمختلف الطرق عن الحقيقة، ما الحقيقة؟؟ فقط، قبرٌ أو جثةٌ أو رفاتٌ.. ستظل قضية عائلة المهدي بن بركة، قضية حقيقة، وقضية صراع مع الغموض، وقضية الحق في قبر، الأمل في مجرد قبر، أمل ظل ميتا إلى أن أحياه بعد أربعة عقود العميل السري المغربي السابق أحمد البخاري في كتابه «السر»، حين اتهم وزير الداخلية السابق محمد أوفقير بطعن بن بركة وإعادة جسده إلى المغرب وتذويبه في حوض من الحمض. الحمض المقيت الذي ذاب فيه الجثمان وذاب معه كل ذاك البصيص من الأمل في شاهدة يقف عندها الأبناء والأحفاد والرفاق ويقرؤون للمهدي دعاء الوداع. لكن الإصرار لم ينته. ففي سنة 2004 سيطالب البشير بن بركة وعائلته، ب»قرار نهائي من فرنسا» يقضي برفع السرية عن الملف وإلغاء عبارة «سري للغاية» التي ظلت تختم الملف لمدة 39 عاما، كان البشير وكما أسرّ لكاتب هذه السطور يعلم أن هناك تفاصيل أخرى لازالت خفية، وأنه لن يتراجع دون الحقيقة كاملة. سنة أخرى بعد ذلك، وفي أكتوبر 2005، وتزامنا مع الذكرى ال40 لاختفاء المهدي بن بركة. سينتقد القاضي الفرنسي «باتريك رمايل» المسؤول عن التحقيق، عدم وجود تعاون من طرف القضاء المغربي، محملا المسؤولية لوزارة العدل المغربية لعدم تعيينها لجنة للتحقيق مع عشرين مسؤولا مدنيا وعسكريا مغربيا.. ومرة أخرى بدا البشير بن بركة متمسكا بهذا الخيط، ربما يسفر التحقيق عن شاهدة نقف أمامها، ونبكي والدنا الشهيد.. الحصول على شاهدة للقبر سيزداد سوادا، عندما نشرت الصحيفة الفرنسية «جورنال دو ديمانش»، في أكتوبر من 2009 مقالا ل»جورج فلوري» يؤكد فيه أن جثة المهدي بن بركة قد تم حرقها في إيسون، مدعيا أنه يتوفر على تقرير للشرطة لم ينشر من قبل. اليوم، وبعد كل هذه السنوات، يأتي الرجل الذي دمر مفاعل تموز العراقي وقاد أكثر العمليات شراسة في التاريخ الدموي للموساد، ليقول «نعم لقد قتلنا المهدي بن بركة ونصحنا الدليمي بدفن الجثة وصب الجير على الحفرة، كي لا تصل إليها كلاب الحراسة». لكن يبدو أن كلاب الحراسة أكثر رحمة من كلاب البشر، الذين اغتالوا رجلا كان عمره أطول من عمر جلاده.. وربما كان قدرُ ابنه وعائلته أن يواصلوا البحث عن أثر شاهد للقبر الذي حرم منه المهدي.