بعدما أثير الجدل مؤخرا حول مصادر التمويلات الأجنبية لجمعيات المجتمع المدني، ومناداة الدولة بضرورة الكشف عنها، وتلويحها باتخاذ إجراءات صارمة في حق المؤسسات التي لا تلتزم "القانون"، " اليوم24″ تحاول تتبع مسارات هذه التمويلات، وكيف تصل إلى الجمعيات المغربية، ولأي هدف. العلاقة بين بعض جمعيات المجتمع المدني، خصوصا الجمعيات الحقوقية البارزة والحكومة تتجه إلى مزيد من التوتر، والسبب غموض التمويل الأجنبي للجمعيات، والأجندات التي على أساسها يقدم هذا الدعم. في البداية، كانت ترشح أرقام ومعطيات مثيرة من الحوار الوطني حول المجتمع المدني، تخص عدد الجمعيات ومقدار الدعم الذي تتلقاه، وحجم التمويل الأجنبي داخله، وعدم تصريح الجمعيات بحقيقة ودقة ما تستفيد منه من أموال. في هذا الإطار، كان الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني، واضحا في أكثر من مناسبة، من بينها إفاداته في لقاء وكالة المغرب العربي للأنباء، الذي قال فيه "إن أكثر من 95 في المائة من الجمعيات لا تصرح بأية معاملات مالية". الجمعيات بقيت صامته بعد هذه التصريحات، لكن الخروج القوي الذي سيجعلها تخرج عن صمتها، كان تصريحات وزير الداخلية، محمد حصاد، في جلسة عمومية للأسئلة الشفوية، يوم 17 يوليوز الماضي، والتي اتهم فيها صراحة جمعيات لم يمسها بتلقي تمويلات لخدمة أجندات خارجية تتوخى تبخيس جهود البلاد في المجال الحقوقي، والحد من نجاعة الأجهزة الأمنية في محاربة الإرهاب والتصدي له. كانت هذه التصريحات بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، فخرجت الجمعيات الحقوقية لتطالب باعتذار وزير الداخلية، قبل أن تقرر رفع دعاوى قضائية ضده. آخر التصريحات وردت على لسان إدريس الضحاك، الأمين العام للحكومة، الذي لوح ب "اتخاذ إجراءات صارمة" في حق الجمعيات التي لا تكشف عن مصادر تمويلاتها الأجنبية، وهدد بحرمانها من صفة "المنفعة العامة"، التي تخول لها الاستفادة من دعم الدولة، مشيرا إلى أنه أعد "حزمة إجراءات إدارية في إطار سعي الحكومة إلى توسيع رقابتها على التمويلات الخارجية التي تستفيد منها الجمعيات". وإذا كان الضحاك قد هدد الجمعيات، فإن وزارة الداخلية انتقلت من القول إلى الفعل، ومن اتهام الجمعيات إلى الحيلولة بينها وبين إقامة عدد من أنشطتها. وفي الوقت الذي ظهر أن هنالك مواقف متباينة على المستوى الرسمي بين وزراء يعتبرون التضييق سوء فهم لموظفي الإدارة الترابية، كما هو حال وزير العدل مصطفى الرميد، يتملك الجمعيات الإحساس أن سلوك الدولة الجديد أسلوب ممنهج للتضييق، سيعود بالمغرب للوراء، بعد الطفرة الحقوقية التي شهدها، وما قضية التمويل سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد محمد النشناش، رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وهي منظمة ذات مواقف معتدلة بالمقارنة بالجمعية المغربية لحقوق الإنسان، يرى أفي تصريح ل " اليوم24″، أن "كلام الضحاك جاء في إطار حملة ضد المجتمع المدني"، مؤكدا أن أغلب الجمعيات المغربية تعمل في إطار الشرعية والشفافية، مشددا على أن هيئات المجتمع المدني تتلقى الدعم الخارجي في إطار برامج محددة ومراقبة من طرف الأجهزة المانحة. محمد العوني، رئيس منظمة حريات الإعلام والتعبير، لا يكتفي بانتقاد التصريحات الحكومية، بل يعتبر أن "على الدولة توفير التمويل للجمعيات قبل مطالبتها بوقف التمويل الأجنبي"، موضحا أن "الحملة التي تشن على الجمعيات"، بخصوص التصريح بمصادر تمويلاتها الأجنبية، من شأنها أن تضر بما أصبح اليوم يعرف ب "الاقتصاد الجمعوي"، الذي أصبح يتطور بالمنطقة المغاربية وببعض دول الشرق الأوسط . دعم المشاريع يؤكد مختلف الفاعلين أن الدعم الذي يتلقونه من المؤسسات الأجنبية أو السفارات لا يعدو أن يكون تمويلا لمشاريع تنخرط هذه الجمعيات في إنجازها، وليس دعما مباشرا. عبد الإله بنعبد السلام، نائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، يوضح أن المساعدات التي تستفيد منها الجمعية تدخل في إطار شراكات مع عدد من المؤسسات والسفارات الأجنبية لدعم الأنشطة المتعلقة بالنهوض بوضعية حقوق الإنسان. محمد النشناش يزكي هذا الكلام، ويقول إن الدعم الذي تتلقاه المنظمة لا يتم عن طريق تقديم أموال مباشرة؛ وإنما عبر عقود مشاريع شراكة مع مجموعة من المؤسسات " لا نتلقى دعما من حكومات أو دول أجنبية، بل من عدد من المؤسسات، من بينها الاتحاد الأوربي، وذلك في إطار أنشطة تخص مناهضة عقوبة الإعدام والتربية على حقوق الإنسان ومراقبة الانتخابات، كما تتلقى دعما من المؤسسة الألمانية "فريدريش يدرك"، وتخص حماية حقوق المهاجرين مثلا". الاتحاد الأوروبي حاضر أيضا في دعم المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، الذي يرأسه مصطفى المانوزي "صناديق دولية تدعم برامج المنتدى، لكن يبقى الاتحاد الأوربي على رأس هذه الجهات المانح" يقول المانوزي النموذج الألماني ما ذا يحدث في الجهة الأحرى من الصورة؟ هل تقدم الدول الأجنبية دعما دون حسيب أو رقيب للجمعيات؟ أم أنها تربط دعمها بالمشاريع والمنجزات؟ من بين أهم البلدان التي تقدم منحا للمجتمع المدني المغربي، هناك ألمانيا، التي تعتبر -مثلا- أن مثل هذه المساعدات تدخل في إطار دبلوماسيتها، حسب ما يشرح عبد الواحد بوكريان، ممثل مؤسسة "فريدريش نيومان" الألمانية. بوكرين يقول إن الدبلوماسية الألمانية تنقسم إلى ثلاثة أنواع، وهي الدبلوماسية التقليدية، وتقوم بها السفارة، ثم هناك الدبلوماسية التقنية والاقتصادية التي تهتم بها مؤسسة تعرف اختصارا ب"GIZ"، أما النوع الثالث فيرتبط بالمؤسسات المدنية التي تربطها علاقة مباشرة بالمجتمع المدني المغربي. مصادرأموال "فريدريش ناومان"، وباقي المؤسسات الألمانية التي تصرف في المغرب، يشرح بوكرين، تنقسم إلى شقين؛ الأول، هو وزارة التعاون الألمانية، وأيضا وزارة خارجية. علما أن المؤسسات الألمانية لا تستفيد من تمويلات وزارة الخارجية إلا بناء على طلب تقدمه وتوضح فيه نوعية المشروع المراد إنجازه، والذي يفترض أن يتماشى مع أجندة وزارة الخارجية الألمانية، وفي هذا الإطار يتم إيلاء الأهمية أساسا للبلدان التي تعرف انتقالا ديمقراطيا، خاصة المغرب وتونس والأردن. وفي المغرب توجد ثلاثة مشاريع يتم تمويلها عبر "فيديريش نيومان" من أموال وزارة الخارجية؛ الأول يتعلق بمشروع هدفه تقوية قدرات النساء للوصول إلى مراكز القرار؛ سواء إداريا أو سياسيا. وفي هذا الإطار تم العمل رفقة "كونكتين غروب" منذ عام 2011، والتي كانت ترأسها الوزيرة حكيمة الحيطي، بلغت تكلفة المشروع 100 ألف أورو خلال العام الماضي، فيما رصد له مبلغ 80 ألف أورو بالنسبة للسنة المقبلة، وهو مشروع حسب بوكريان "أتى بأكله حيث تم تعيين رئيسته في الحكومة الحالية، وأخريات من نفس المنظمة في مناصب مهمة". المشروع الثاني استفاد من تمويله "منتدى المواطنة"، ويتعلق بموضوع تفعيل مقتضيات الدستور في شق المجتمع المدني، إذ اهتمت المنظمة بتكوين المنتدى على إعداد العرائض واستغلالها لفرض وجود الجمعيات، سواء على مستوى الجماعات المحلية أو حتى داخل البرلمان، ورصد له مبلغ 60 ألف أورو للعام المقبل. أما المشروع الثالث فيرتبط بمجال الإعلام وحقوق الإنسان، وخاصة حرية الصحافة ومفهومها، ويدخل في إطار شراكة مع مركز ابن رشد للدراسات والتواصل، ورصدت له ميزانية 60 ألف أورو ستصرف العام المقبل. وفيما يخص الدعم الصادر عن وزارة التعاون الألمانية، فقد خصصت المؤسسة جزءا منه مثلا ل "مركز حقوق الناس" الموجود بفاس، إذ تم تنظيم دورات تكوينية لفائدة الأساتذة وجمعيات آباء التلاميذ والتلاميذ لتكوينهم على إنشاء أندية لحقوق الإنسان في مؤسساتهم التعليمية، وهو المشروع الذي بلغت ميزانيته خلال العام الحالي 12 مليون سنتيم. كما أن المؤسسة مقبلة على تنظيم ندوة فكرية على مدى يومين خلال القادم من الأيام بشراكة مع جمعية "ضمير"، وقد رصدت لها ميزانية 14 مليون سنتيم. بوكريان أوضح أن تمويل "فريديريش نيومان" للجمعيات المغربية لا يتم بطريقة مباشرة، بل عن طريق أداء فواتير الأنشطة التي تم تنظيمها، وهذه العملية تتم عبر طريقتين، سواء عن طريق تأدية المؤسسة لهذه الفواتير بشكل مباشر، أو تقوم الجمعية المغربية بأدائها إلى حين تعويضها من طرف المؤسسة، كما هو الحال بالنسبة لجمعية تحمل اسم "مركز التنمية لجهة تانسيفت"، إذ يكفي أن ترسل الجمعية ملفا خاصا بالنشاط الذي قامت بإنجازه فتتلقى مبلغا من طرف المؤسسة، وغالبا ما يقدر بحوالي 40 ألف درهم. تمويلات غامضة لكن ما يثير قلق الحكومة هي تلك المبالغ التي تستفيد منها بعض المؤسسات بطرق "ملتوية"، ودون أن تكون في إطار برامج مسطرة سلفا. وفي هذا الإطار، يقول فاعل جمعوي، فضل عدم ذكر اسمه، إن المؤسسات الكبرى المعروفة، والتي تكون مقراتها في الولاياتالمتحدة أو الاتحاد الأوربي، تفرض من أجل تقديم تمويلات لمشاريع محددة فتح حسابات لدى مؤسسات بنكية معروفة، وبالتالي فجميع التمويلات القادمة من هذه البلدان تمر عبر "بنك المغرب"، وهو "ما يجعلها شفافة، لكونها تمر أمام أعين الدولة"، وأضاف مستدركا: "المشكل هو في التمويلات التي لا تمر عبر "بنك المغرب"، وهي تلك القادمة من دول الخليج العربي أو من أوربا الشرقية". المتحدث أوضح أن هذه الأموال تمر عبر طريقين؛ إما عن طريق أشخاص أجانب يحملونها للمغرب، أو عبر سفارات هذه البلدان، موضحا أن تمويلات الجمعيات لا تطرح إشكالا حينما يتعلق الأمر بمصادر أجنبية، مشيرا إلى أن الدعم المحلي أيضا يجب أن يخضع للمراقبة قصد التأكد من طريقة صرفه. فكرة مراقبة الدعم المحلي تلتقي حولها عدد من الجمعيات. محمد العوني يعود ليقول "هناك تمويل مهم لبعض الجمعيات خاصة من طرف المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، الأمر الذي يجب أن يخضع لافتحاص حقيقي كونه موجها إلى جمعيات خلقت مع هذه المبادرة من قبل قياد وعمال بغرض الاستفادة من هذا الدعم"، حسب تعبيره. تمويلات متواضعة وفي الوقت الذي توجد جمعيات تتلقى الدعم بشكل مستمر من مؤسسات مختلفة، لا تستفيد أخرى إلا من تمويل واحد أو من تمويل مشروعين، وهذا هو حال منتدى "الكرامة لحقوق الإنسان"، إذ قال رئيسه عبد العلي حامي الدين إن "الحالة الوحيدة التي تلقينا خلالها دعما متواضعا كان من مؤسسة سويسرية تدعى "قرطبة"، مقرها في جنيف، وذلك خلال العام الماضي". حامي الدين أوضح أن هذا الدعم وجه بالأساس لتنفيذ مشروع يدعى "ميثاق العيش المشترك"، وكان الهدف منه هو فتح حوار ما بين السلفيين ومختلف الأطياف، وتم في هذا الإطار تنظيم ورشتين وبعض اللقاءات. العوني كذلك أكد أن منظمة حريات الإعلام والتعبير سبق أن استفادت من مبلغ دعم يقدر ب30 مليون سنتيم عام 2012، من أجل المساهمة في مشروع تكوين "وتقوية قدرات الصحافيين في معالجة الأحداث السياسية"، وقد مولته منظمة بريطانية تدعى "إيريس". وفي هذا الإطار، تم تنظيم دورات تكوينية في كل من الرباط وطنجة لفائدة صحافيين مغاربة. من جانبه، قال طارق السباعي، رئيس الهيئة الوطنية لحماية المال العام، إن الدعم الذي تتلقاه الهيئة غالبا ما يتراوح مابين 5000 و15000 درهم، كان مصدره، مابين أعوام 2006 و2008، منظمة "فريدريش إيبرت" الألمانية لتمويل ميزانية عدد من الندوات. وزير الداخلية يصرح في اللقاءات التي تجمعه بالحقوقيين، كما حدث في لقائه مؤخرا ببعضهم بمنزل عبد السلام بودرار، أنه لا يقصد باتهاماته كل الحقوقيين، والحقوقيون من جانبهم يقولون إنهم ليسوا سواء في عدم التصريحات بتمويلاتهم ، لكن ما الذي سيضير شخصا نقيا وشفافا من أن يعلن على رؤوس الأشهاد حقيقة تمويلاته، سواء الداخلية أو الخارجية؟ لايوجد مبرر أو مسوغ موضوعي، كما أن الدولة ليس من حقها أن توجه اتهامات وتتحدث بصيغة التعميمات، بل يجب أن تفجر الحقائق عندما تتأكد بالمعطيات والوثائق ، وبناء على التحقيقات الدقيقة، أن جهة ما تحصل على المال لخدمة أجندة أجنبية، هدفها الإساءة إلى البلد. مواثيق دولية وقوانين وطنية تؤطر تمويلات الجمعيات التمويل الأجنبي للجمعيات المغربية منظم بإطار قانوني ينقسم إلى شقين، يتعلق الأول بالمواثيق الدولية، فيما الثاني يهم القوانين المغربية. ويقول عبد الحق بنزكري، نائب رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان المكلف بالعلاقات الدولية، إنه وبناء على المواثيق الدولية، التزمت الدول الغنية بتخصيص 0.7 في المائة من منتوجها الداخلي الخام للدول الفقيرة، إلا أن الدول التي تلتزم بهذا الشق لا يتجاوز عددها الخمس، ومن بينها الدول الإسكندينافية، مثل هولندا والنرويج وأيضا السويد، فيما لم تلتزم الولاياتالمتحدةالأمريكية إلا بنسبة 0.2 في المائة. وأشار إلى أن البند الثاني من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يلزم الدول بتفعيل هذه الحقوق، سواء عبر التمويل الداخلي للمشاريع المتعلقة بالتنمية، بما في ذلك جانب حقوق الإنسان، أم المساعدة عبر التمويلات الخارجية. على صعيد آخر، يفرض القانون المغربي على جمعيات المجتمع المدني، التي تعمل في شراكة مع منظمات أو مؤسسات دولية، تقديم كل المعلومات والمعطيات حول هذه الشراكات إلى الأمانة العامة للحكومة. الحوار الوطني: القوانين الحالية مجرد مساطر لا تستحضر عنصر التحفيز سبق أن خلصت نتائج الحوار الوطني حول المجتمع المدني إلى أن "غياب الوضوح والتنميط اللازمين لضبط شكليات مراقبة أموال الجمعيات التي تستفيد من الدعم العمومي أو الدعم الخارجي، فضلا عن ضوابط تقديم الحساب بشأن ذلك"، معتبرة أن المنظومة القانونية الحالية المؤطرة للجانب المالي والجبائي للعمل الجمعوي "لا تعدو أن تكون مجرد مساطر إدارية وقواعد تقليدية لا تستحضر عنصر التحفيز والتنمية في العمل الجمعوي". وشددت الخلاصات على ضرورة إخضاع تمويل الجمعيات من طرف الدولة لمقاربة استراتيجية منبثقة من سياسة الدولة في شراكاتها مع المجتمع المدني، إضافة إلى إلزامية تقديم كل جمعية تستفيد من التمويل العمومي تقريرا سنويا يشمل وصفا مفصلا لمصادر تمويلها، ونفقاتها إلى السلطة الحكومية المعنية.