أحمد المديني أحمد يقرأ «علبة الأسماء» لمحمد الأشعري بشكل بديع. هي عنده علبة ضخمة، لا بعدد صفحاتها وحسب، وإنما بما تحوي من أسماء ومعالم وأزمنة وأمكنة وسرود وأشجان تشيب لها الولدان، حتى إنك لتسأل إن كان المؤلف قد سعى إلى وضع «مكتبة بابل» جامعة مانعة، قد عجنت الحاضر في الماضي بين المباهج والأوزار، وشيعتهما معا في مرثاة فجائعية. ماذا لو بدأنا هذه القراءةَ المركزةَ بالانتباه إلى إشارة أدبية هامة، تأتينا من تاريخ أدبنا الحديث لتذكّرنا أن الزمن دار ستين حولا بين صدور روايتين: أرى في الأولى استهلالا فريدا لكتابة سردنا التخييلي الحديث، أعني «La boite à merveille» ( صندوق العجب، 1954) لأحمد الصفريوي (19152004)، والثانية الباذخة، وآخر ما عرفه إنتاجنا الروائي: «علبة الأسماء» لمحمد الأشعري (المركز الثقافي العربي، بيروت 2014). ورغم أن العملين يفصل بينهما ما يظهر بونا شاسعا زمنيا ورؤية وفنا، ولغة أيضا، كما تعلمون، إلا أن البون يتقلص بحساب التاريخ الإبداعي الذي لا يقاس بالآخر الزمني، لنفكر بأن الأدب، والسرد تحديدا، تولى منذ وقت مهمة الوصف والكشف والنقد بعين جمالية لمجتمعنا الحديث بين حقب ومراحل، على الرغم من غمز قناته بالتصنيف شبه الإقصائي الذي تعرض له الصفريوي بوصف أعماله بالإتنولوجية» والعجائبية (كذا)، ويمكن أن تلحق بالأشعري نعوت جاهزة، جرّاء كيلِه الصّاع صاعين في هذا العمل بالذات لزمن أطبق على المغرب، فأغلق عليه عقودا داخل علبة العسف وما تعرفون، وعندئذ سنحيد عن الأدب ونحاكم النوايا، وهذا خطأ وخلط كبيران بات بإمكاننا أن نتفاداهما لأننا انتقلنا إلى لحظة نضج مرموقة في فهم الأدب، بتحويله إلى شكل، وهو فعلا شكل (علبة)، وفي رفع ما تحتها بوعي ومسؤولية وشجاعة لنرى، والروائي هو من يجعلك ترى في تضاريس الذات ومجرى الحياة، فماذا يا ترى؟ هي بالتأكيد ليست (دار الشوافة) التي فرز الصفريوي سكانها، وسرد حكاياها وما حولها، على طريقته. هذه علبة ضخمة، لا بعدد صفحاتها (446) وحسب، أكثر منه بما تحوي من أسماء ومعالم وأزمنة وأمكنة وسرود وأشجان تشيب لها الولدان، حتى إنك لتسأل إن كان المؤلف قد سعى إلى وضع «مكتبة بابل» على طرز مغاير لبورخيس تأتي مثلها جامعة، مانعة، قد عجنت الحاضر في الماضي بين المباهج والأوزار، وشيعتهما معا في مرثاة فجائعية، نحن شخصياتُها وكورالُها وضحاياها، بعد أن شيّع عبد الكريم غلاب الماضي وحده (1968) فيما كان وقتها حاضرٌ يلوح، وسرعان ما أفل. وبما أن محمد الأشعري ابتغاها روايةً شاملة، بانوراما لتطلعات ومسارات، ونوستالجيات بأنواع، محصلتُها إخفاقٌ فرديٌّ وجماعيّ، بدِلالة الزوال والانقراض، في مشهد التقاطع بين مدينة آفلة ومدنية تهجنت (الرباط)، بتاريخ وناس وقيم، تاريخ غارق في لجة مثقلة بالخسارات؛ بما أنها كذلك، فلا يمكن لأية قراءة جدية أن تحيط بأطرافها مجتمعة، لتزيد إضاءتها، إذ ما تركت وضعا إلا وصفته، وزاويةً إلا أضاءتها، ونبعا باطنا ففتَّقتهُ، وصوتا دفينا فكلمتهُ، فإن القارئ المحترفَ في وضعنا يجد، بحُكم تصوّر نظريٍّ، ونُزوعٍ نقدي، أن أنسبَ مُقاربة هي رسم ُبناءِ الشكلِ في هذا العمل، بالأحرى إعادةُ بنائِه من شأنه اختصارُ عرض عالم الرواية وطوله أيضا، لأنها موضوعةٌ ومسرودةٌ ومُشخصّةٌ ومنتظمةٌ على شكل اسمُه (العلبة)؛ شكلٌ بمثابة وعاء، ولذلك يحوي مادةً، حياةً، عالماً، ومعنى. هي مقاربة وإن تقتضي من البداية الشكلَ، تتّسع لأكبرَ منها ولا يوجد بدونها، وهو ما قرره الكاتب نفسه في نهاية الكتاب:»(…) كلُّ شكل حرفٌ، وكلُّ زواج بين شكلٍ وشكل كلمةٌ، وكلُّ تعدُّد جُملةٌ، وكلُّ جُملة شكلٌ، لعبةُ أشكال وأعداد يصب بعضها في بعض(…) أشكال مربعات تلد مربعات محسوبة، لا مكان فيها للصدفة» (419). وإليكم الرسم/ القصة: هناك علبة كبرى، أولى، هي الرواية وتتدرّج تحتها، على غرار دُمية الماريوشا الروسية، عشرات العلب: شخصياتٌ وأحداثٌ ودِلالاتٌ متعالقةٌ في بنية اجتماعية ثقافية واحدة ومتفاوتة نسبيا، هي التالية: 1 علبة الرباط بوصفها الفضاء الذي تعيش فيه الشخصيات، وتتجسّد الأشياء، وتُنسج حبكة الوقائع ، وبدءاً منها وحُفورا في تاريخها، ونفوذها امتداداً لما حولها، على أرضها وبين أسوارها وقليلا خارجَها، تبدأ القصة وإليها تنتهي. 2ع ثريا: الرباطية (بنت بركاش) زوجة ريشار، الباحثة عن مصيرها بين سيناريوهات سينمائية ضائعة. 3 ع ريشار: البريطاني الذي حل بالمغرب صدفة وبقي فيه يبحث عن وضع مالي واسترجاع مجد سلالة في آن، وانتهى إلى ضياع صوفي، رمز الخلاسية صانع التهجين الأول باختراق بنية التقليد. 4 علبة مصطفى، ابنهما، غريب الخلقة، ضحية هوس تحليق النوارس، ومصدر شقاء إضافي لثريا. 5 :ع عماد: المحامي الوديع، الرباطي بحق، سليل عائلة مولاطو، ابن المدينة القديمة بألف حق، جذورهُ في قعرها، الموزعُ بين تعلقِه بجدته شيمرات، وحبِه المستحيل لثريا، وولعِه بالطرب الأندلسي، ومتاهتُه علاقات زوجية ومهنية ومحيطية. 6:ع القاضي بركاش، رمز السلالة الصامدة ومرجعيتها وسلطة الحسم فيها. 7 ع شيمرات: الجدة، حارسة المدينة القديمة والكنز المفقود: «آخر اسم ثوْراتي حملتهُ مسلمةٌ في مدينة الموريسكيينوالأورناشيروس»(425)عشيقة بيدرو، وطلل عالم يرحل لغةً وزينةً ومباهج. 8 ع بيدرو: الموريسكي الأخير، المتفاني في حب شيمرا، سيد الطرب الغرناطي، هو وشيمرا الرمزان الأخيران ل «مسلمي الرباط» وضياع الأندلس للمرة الأخيرة. 9:ع البودالي: وسيط ومحور للحكاية، الباحث الأول عن كنز مدفون في قصبة الأوداية. 10 ع الفقيه الزمزمي: وسيط السِّحر والخرافة لاستخراج كنز الأوداية، تعبيرٌ عن مخيال، ومظهرُ عجائبية وواقعية سحرية في الرواية. 11 ع الكنز:المفترض وجودُه في الأوداية ودار شيمرا بالذات، حُليٌّ من التاج البريطاني ترجع إلى القرن 17 مع جمهورية أبي رقراق، إلخ.. هو الخيط السحريُ الناظم للقصة كلها، عنصرُ تشويقِها في حبكة كلاسيكية، ورهانُ عقلية تتغذى وتكبر منها أوهام، بنتُ زمن آخر في مواجهة عهد قوة البطش والحيتان الكبيرة. 12 ع بديعة، زوجة عماد وسيلةٌ للخلاص من أسْر ثريا له ووثاقُ إدامة الالتصاق بالمدينة القديمة نسَبا، رغم ذمامتها، وفي صورتها المبشّعة وسلوكها الناشز تجميع لمثلث الخرافة والغرائبي والغروتيسك، تعميقا لرمز عتاقة مدينة بين الأسوار، ومفارقةً لما تسبح فيه الشخوص من سكون واتساق وطلاوة عيش. 13 ع ابّا عمر،عمُّ عماد، المنفصم بين وطنيته ووظيفته حارساً بسجن لعلو، وبين عشقه القديم لشيمرا، الشريك في مغامرة الكنز، في دور مشوش، وإن بتعِلة الجمع بين عالمين، ومفترق شخصيات القصة ومفترقها. 14:علبة السجن(سجن لعلو): تحتوي القسمَ الثاني من الرواية، نصفَها، بعنوان (كورال)، كبيرة ومتشابكة وحافلة بالحكايات والإثارة، والمصائر فيها متضاربة والمسارات عديدة، شأن مراتب الحياة وأسباب العقاب، (الحي العصري، الحي الشريفي، حي السياسيين).علبةُ مؤسسة عقابية مغلقة، نعم، ومفتوحةٍ على الخارج بعلاقة العاملين داخلها (ابّا عمر) والمتعاملين معه (عماد) والزوار (Le parloir) والسَّحرة أيضا، أي نعم(!)مثل الصبنيوليوالغيغائي فقيه أمزميز، زد ذكريات وأحلام السجناء وخيالاتهم ومشاريعهم لغد السراح. هي أيضا تقع داخل علبة الرباط، فوقها علبة المغرب الكبرى، ودونها عُلبٌ صغيرة يتفاوت حجما وسعة أقواها. 15ع مالك الرامي: سجينُ الرأي الشاب، ضحيةُ انتفاضة 1984 لفضحَه في الصحافة الأجنبية المقابرَ الجماعية في الناظور، بطلُ الصدفة الذي عثر على معنى لوجوده هنا وعلى جذور منسية (248)، يعْبُر الكاتب عبر ورطته إلى عالم يعرفه جيدا ليصف في شبه رواية مستقلة وضعَه وصورةَ العيش داخله من خلال حيوات طوّح بها القدر إلى جحيم مصيره، منهم: 1 لهبيل؛ 2 :الخرموزي؛ 3 : القرصان؛ 4 النمرود؛ 5ع يوسف؛ 6 طارق؛7 خديجة؛ 8 ظهور الإسلام (اللقب)ممثلا في فضاء السجن للمعتقلين الإسلاميين ورؤيتهم للعالم. 16 ع ثريا(مكرر)أصبحت الجسر الثاني للكاتب للعبور إلى العالم السجني، اعتقلت في إطار تحقيق قضائي اشتباها بتسببها في سقوط ابنها مصطفى من شرفة شقتها وهلاكه. من ثم استفحالُ أزمتها بافتقاد أيّ بوصلة مع نفسها ومحيطها أهلاً وزوجاً وأصحاباً وكاتبةَ سيناريو افتراضية. 17 ع عود الثقاب، لعبة ابتدعها لهبيل، تجمل ك (حمام الزاجل) رسائل يتبلدلها السجناء والسجينات عبر سور فاصل لتفريج الغُمة والتعبيرعن مكامن، أقواها بين لهبيل وخديجة، ثريا ومالك، وامتدادا من العلبة المشتركة يتواصل محكي الرواية وأشجان الشخصيات، والعقدة المشتركة بين الداخل والخارج، المغلق والمفتوح عربتُها ابّا عمر وعماد ولفقيه الساحر والبارلوار، تتسع وتُروى فيها حكايات جديدة تمثيلا لأوزار المجتمع، ومآسي الشخصيات وبحجم ظلم الواقع أوالصدفة العمياء، وتسلطُ المخزن، (الرجل المهم). من أحشاء ظلام السجن، جناةً وجانحاتٍ ومسحوقين ومقموعين تحت جبل الظلم والاستبداد تتحدد علبةٌ مستقلةُ تلميحا وخطابا ودلالة هي: 18 ع الرجل المهم، كناية عن الملك الراحل الحسن الثاني، وخاصة من خلال معلمة مسجد الدارالبيضاء وحواشيها. علبة لاسمٍ مفرد، واقعة في منطقة الالتباس: «وكان عرشه على الماء» وجمعٍ بحكم مشاركة المغاربة قسرا. 19 ع الحي الميت، مرزوق لحسن، واقعٌو باروديا! والآن، تعالوا إلى العلبة حاوية العلب الأسماء كلها، وغيرها مما لم نقف عنده، نخص بالذكر الأمكنة والفضاءات الإشارية والدلالية معا، المدينة القديمة، ديور الجامع ومساحة الانتقال بينها وبين والمدينةالجديدة،إلخ..؛ تعالوا إلى لعبة الألعاب، فبواسطتها استوت الرواية كما وصلتنا، صنعت لكل علبة لعبةَ شكلَها ولغتَها، لبوسَها، وحجمَها، لونَها وإيقاعَها، تعيينية وإيحائية، ومتناسبة محكومة بقانون الأواني المستطرقة الفيزيائي، مجدولة بسابقاتها وتتكامل لضبط لحن الجنازالكبير لخطابها، تُشيّع مكانا وثقافة وتاريخا، وخاصة بشراك النجوم هم آخر السلالة الموريسكية، رمزُ نهاية حنين فردوس الأندلس، فليكن أولُها 20 ع الفردوس: تحوي المتنَ الموسيقيَّ، موشحاتٍ تِطرب الآلة الأندلسي. هي وأماسي الانشراح في صحن الدار القديمة برحيق عشق شيمراوبيدرو، وشطحات عماد في إنشاده وضربه على الدف، دعك من لذاذت (الغرفة الفوقية)؛ ف: «لا يوجد أي مكان ولا في غرناطة نفسها يمكن أن تسمع فيه غناء شَجيّأً يَبكي حبا ضائعاً وأمكنةً تتلاشى، سوى بيت شميرات»(294). متنٌ حاضرٌ بكثافة، مبرّراً أو مقحما، ما هَمّ، وظيفيا أو تطريزا، إما تجلبه الأشواق، وإما تعبيرا عنها كلما قولُ الشخصية الكائن الرباطي الأندلسي ضاق، مُتناصا أو واردا ميتا خطاب، إما ينوب عن بوْح وإما يؤجج مشاعر العشاق، شأنَ أغاني ناس الغيوان تشدو بها فرقة (كورال) النمرود، تشرح الأحوال وتثير الجذبة في مفاصل سجناء لعلو، ومعهم مغرب السبعينيات وما بعده (أهل الحال/يا اهل الحال، إمتى يصفى الحال؟!) لسان الشجن المغربي مقابل نوستالجيا الفردوس. 21 ع اللغة، اللغات، متعددة، حسب البيئة والحِرفة والتيمة. واللغة بعد هذا لغتان، سجلان: نثريةٌ عارية، وظيفية، صريحة الغرض، توثق وتندد وتدين، أو لَغْوية متخللة، وثالثة شعرية، تُبحر في المجاز وتمرح في استبطان الذوات وتيار الاستيهامات، ما أبهظها كُلفة على الرواية، حين تبين في نسجها فجوات يتسرب منها غزيرا كلام الكاتب لا الشخصية أو تداعي خاطرها، قد تفلت من قياد السارد العليم، هو رب هذه الرواية يتنازع السلطان عليها مع كاتب، هو شاعر، يضاعف العبارة، ويبحر مع الإحساس والتشبيق، أيضا، إلى أعالي بحاره، حتى ما استطاع منها فكاكا ولا عنها فراقا، لولا أن لكل شيء نهايةً، أو ليس رهان هذا العمل الحفرُ في تضاريس أفول مجدِ مدينة وسلالة وصراع تغلبُه جرثومة الانقراض، وما يوازيها من ويلات مغربية وثبور؟!. 22: لعبة شكل تتناسل فيه الحكايات حمّالة أوجه: «تُغرق الحقيقةَ المفترضة في بحر من الاحتمالات الزائفة»(240)، تتقاطع، تفترق لتلتقي وهي تنمو بتعدد الروايات ومحوها عودا على بدء، شأن سيناريوهات ثريا تتخيل السيناريو تلو الآخر وتنسخه. من هنا 23: لعبة شكل نسْخ الكتابة ككل في هذه الرواية، تنسج وتنسخ وتعيد وتنقض فيما تحفر، إلى ما لا نهاية، منطقها:»كل شيء يدخل في العلبة يخرج من الزمن»(383) وشعارها مثل رقصة السمورف في زمانها:» استنبات حداثة مستفزة في صخرة التقليد الجاثمة هنا منذ قرون»(259)، ولِمَ لا سيناريو يُبكي المغاربة جميعا، أو يضحكهم، بطموح ثريا، ولكنه حتما سيكون ضحكا كالبكا!