في الحلقة السادسة من كتاب « شكرا على هذه اللحظة»، تقف الصحافية فاليري تريرويلر على مخاوفها من المستقبل غير المضمون بعد قرار الانفصال عن رفيقها السابق، رئيس الجمهورية الفرنسي الحالي، فرنسوا هولاند. فاليري ترسم مشاهد مؤلمة من طفولتها التي جعلتها تحسب ألف حساب على كل فرنك تُنفقه. يعرف فرنسوا أن الراتب الذي كنت أتقاضاه في مجلة «باري ماتش» لا يكفيني وحده لتأمين سومة كراء شقتنا ومصاريف أطفالي، أي كراء مسكنهم ومصاريف دراستهم. وعندما وقعنا عقد الكراء أنا وفرنسوا، كنت أجمع بين مداخلي في «باري ماتش» وفي التلفزيون، بالنظر لأني كنت أشتغل متعاونة مع قناة ( D8)منذ 2005. بعد انتخابه رئيسا، أصر فرنسوا كي أتخلى عن عملي بالتلفزيون، رغم أني كنت قد تحدثت مع إدارة القناة عن إطلاق برنامج جديد له طبيعة إنسانية واجتماعية يتوافق مع دوري بصفتي السيدة الأولى، في صيغة سلسلة من البرامج الوثائقية أجري فيها حوارات مع شخصيات حول مواضيع لها علاقة بالمنفعة العامة: تعليم الفتيات في العالم، حماية الماء، واللاجئين. إذ كانت كل حلقة تتطلب زيارة بلدين إلى ثلاثة بلدان. كنت متحمسة كثيرا لهذا المشروع الذي كان إنجازه قد قطع شوطا مهما، غير أن «كنال بلوس» قامت بحيازةD8 بموافقة المجلس الأعلى للسمعي البصري بفرنسا. أثار، بعدها، بعض الصحفيين قضية تضارب المصالح. وفي صباح جميل من شهر شتنبر، في إقامة «لانتيرن» وبصوت جاف، أمرني فرنسوا: «ينبغي أن تتخلي عن فكرة العمل للتلفزيون». لم تترك صيغة الأمر أي مكان للتفاوض، فوافقت على الفور. كانت هناك أسباب قديمة للتوتر، فلم أرد جدلا إضافيا أو مشاكل أكثر بيننا. ففي الربيع الماضي، وقعت قضية «تغريدتي على التويتر» وهزيمة سيغولين رويال في دائرة لاروشيل، ولكن بقبولي التخلي عن العمل في التلفزيون، والرضوخ لأمره في ذلك اليوم، فقدت ثلثي مداخلي، وفرنسوا كان يعرف ذلك. لم يكن المال أبدا هو المحرك لكل تصرفاتي، غير أني بدأت أشعر بالخوف من الغد. كان ذلك بمثابة هواجس داخلية: الخوف من الفقر، والخوف من عدم إيجاد سقف يحميني عندما أصير عاجزة عن العمل. أنا أعرف العوز الذي توفيت عليه إحدى جداتي، وأتذكر دائما والدتي، كيف كانت قبل أن تجد لنفسها وظيفة أمينة صندوق، مجبرة على استجداء المال من والدي الذي كان يقتات على المساعدة الهزيلة عن الإعاقة، من أجل التسوق. وأنا طفلة، كنت أعيش هذه المشاهد كما لو أنها نوع من الإذلال والإهانة، وبمثابة حرمان مطلق من الحرية. كبرت وبنيت حياتي على هذا الرفض. فلم أكن قط أعيش في تبعية مالية لأي شخص كان. ولم يسبق، ولو مرة واحدة في حياتي، أن طلبت المال من أي كان، فبالأحرى أن أطلبه من رجل. لم أنس مشهد والدتي عندما أدركت أنها فقدت محفظتها وهي داخل متجر تجاري. رأيت هلعها وذعرها، وكانت تتساءل مع نفسها كيف يمكنها أن تجلب لنا الطعام في الأيام المقبلة. لا أعرف كم كان عمري آنذاك، ولكن مظهرها الحزين بقي راسخا في ذاكرتي. نعتبر في أسرتي أنه لا يمكننا أن ننفق مالا لا نكسبه، ونواصل جميعا إعطاء الاهتمام لسعر كل شيء. يعود بي تفكيري إلى اليوم الذي ذهبت فيه رفقة صديقة لشراء الملابس مخفضة الثمن في مخازن المصانع. ففي الوقت الذي كنت فيه منهمكة في شراء ملابس لأبنائي، خاطبتني إحدى البائعات ب»السيدة ساركوزي»، ضحكت وأشرت بيدي: «لا..لا»، فردت إحدى البائعات: «بل أنت زوجة هولاند». بعدها، سمعت زوجا يتهامس أمامي «إذا كانت حتى زوجات الرؤساء يأتين هنا للتسوق، فهذا دليل على أن الأزمة الاقتصادية حقيقية». في يوم آخر من أيام المبيعات المخفضة- نحن لا نتغير أبدا- اشتريت فيه زوج من الأحذية الرياضية لأحد أبنائي، فقال لي البائع الذي تعرف علي: «أنت في قصر الإليزيه وتشتغلين مع ذلك.» أجبته: «لكن سيدي، كيف سأدفع لك قيمة هذه الأحذية الرياضية إذا كنت لا أتوفر على مدخول؟». فهم كلامي وتناول مني البطاقة الزرقاء وهو يبتسم. إذا كنت قد قبلت التخلي عن برنامجي على (D8) من أجل فرنسوا، فقد كنت مصرة على الاحتفاظ بعملي في باري ماتش»، فلم يكن بإمكاني أن أتصور نفسي بدون عمل، وبدون راتب. كنت رفيقة رئيس الجمهورية، وكنت أتوفر على مكتب بالإليزيه كما كان عليه الحال بالنسبة لزوجات الرؤساء السابقين. وهي، بالمناسبة، وظيفة تطوعية وبلا مقابل. كنت على رأس فريق صغير من المكلفين بمهام إنسانية واجتماعية.. لكن تحت أية ذريعة يجب عليّ التخلي عن عملي؟ ولماذا يجب عليّ أن أكون المرأة الوحيدة في فرنسا التي ليس لها الحق في العمل؟ عندما أصبحت علاقتنا معروفة للعموم سنة 2007، كنت قد تخليت منطقيا عن زاويتي السياسية بالأسبوعية «باري ماتش»، والتحقت بالصفحات الثقافية التي لا تطرح فيها مسألة تنازع المصالح، فكيف يمكن للكتابة عن الروايات أن تسبب الحرج لأي كان؟ لم يسبق لي منذ ثمانية سنوات أن ادعيت أنني ناقدة أدبية. كنت أحاول، بكل بساطة تشجيع قراء باري ماتش على القراءة، ونقل حساسية امرأة جعلتها القراءة تنضج وتكبر وتنمو. فالقراءة فتحت لي كل الآفاق وكل الإمكانات. بدون قراءة، لم يكن بإمكاني أن أصبح ما أنا عليه الآن. أحببت القراءة منذ السن التي تعلمت فيها قراءة الكلمات وفك رموزها. وأنا طفلة، كنت أقضي ساعات طوال في المكتبات البلدية. وتعودت أمي أن تتركنا، أنا وشقيقتي في المكتبة في الوقت الذي كانت تذهب هي للتسوق، لأننا نكون وسط الكتب وديعات وهادئات. وكان بإمكاني أن أتعرف من بين ألف رائحة على رائحة الكتب التي لم تخرج من الرفوف منذ أمد بعيد. كان عمري ست سنوات عندما جمعت شقيقتي الكبرى باسكال فرنك أو فرنكين حتى تشتري لي هذه الكتب الصغيرة. مع مرور العمر وتوالي السنوات، أصبحت أقرأ كل شيء، وبالتأكيد أي شيء. لم يكن أحد يوجهني أو يقدم لي المشورة. ومثل الكثير من الفرنسيين، كان والداي، مشتركين في نادي «فرنسا لوازير». وكانا يحملان معهما، كل ثلاثة أشهر، كتابا جديدا إلى المنزل. كنت أقرأ وأحلم وأتعلم. وكنت منذ أن بلغت 13 سنة، أمسك مفكرة أسجل فيها ملاحظاتي على الكتب التي أقرؤها. وعندما أتصفح الصفحات الأولى، أتذكر الروايات الجميلة مثل كل الكتب المنسية التي وقعت ذات يوم بين يدي.