في خضم النقاش الجاري في الأوساط القانونية، حول مشروع قانون المسطرة المدنية، وعلى هامش ندوة النقاش العمومي التي نظمتها جريدة « اليوم 24 » الإلكترونية مساء يوم 24 أكتوبر 2024، تحت عنوان: ( مشروع قانون المسطرة المهنية… رهانات الحقوق و حصانة الدفاع )، مواكبة منها لهذا النقاش، بحضور ثلة من الفعاليات القانونية من مختلف المواقع، كان النقاش بالفعل محتدما حول بعض مقتضيات المشروع التي اعتبرت مسا خطير بجوهر حق التقاضي أو الحق في اللجوء إلى القضاء، كحق ومبدأ دستوري، بل وكمبدأ عام يسمو حتى على القواعد الدستورية Principe supra-constitutionnel) ) عاش مع الإنسانية قبل الدساتير والمواثيق والإعلانات الدولية، منذ عرفت تنظيمها في مجتمع مدني نبذ منطق القوة كطريقة لحماية الحق والدفاع عنه. والواقع أنه، إذا كان لا يمكن إنكار كثير من المزايا التي جاء بها المشروع، من قبيل تجميع شتات المساطر والإجراءات القضائية في مدونة إجرائية شاملة كشريعة عامة للإجراءات القضائية، ومحاولة تقليص الزمن القضائي من خلال التحكم في بعض الآجال والمدد الزمنية لممارسة الطعون، والتبليغات، وحسم بعض الترددات الإجرائية بشأن مباشرة بعض الدفوع والإجراءات، وضبط إشكالية الدفع بعدم الاختصاص النوعي الذي ظل متأرجحا بين مقتضيات موزعة بين مختلف الجهات القضائية، وغير ذلك مما يمكن أن يحسب في خانة إيجابيات المشروع. هذه المستجدات يقدمها المشروع على أنها مؤطرة بمبادئ عامة، وقواعد دستورية، وخطب ملكية، ووثائق مرجعية وطنية ( مخرجات ميثاق الحوار الوطني لإصلاح القضاء)، ودولية (تقارير الهيئات واللجان الدولية المختصة في تقييم الأنظمة القضائية عبر العالم ). وهكذا تم التركيز على توجهات من قبيل: وحدة القضاء وسبل تحقيق النجاعة القضائية من خلال تكريس الدور الإيجابي للقاضي في إدارة وتدبير الإجراءات، ومبدأ البت في أجل معقول، ومبدأ التقاضي بحسن النية مقرونا بجزاء، كما خصص مكانة للبدائل الأخرى لحل النزاعات عن طريق الوساطة أو التحكيم… وبغض النظر عن أن المشروع كأي عمل بشري لا يخلو من مؤاخذات يمكن تصحيحها من خلال الممارسة الصحيحة، أو الدراسات الفقهية الرصينة، أو التأويل القضائي المستنير، فإن بعض مقتضيات المشروع، لا يبدو أن لها علاقة بالتوجهات والمبادئ المعلن عنها في ديباجته، هذا إن لم تكن تسير في الاتجاه المناقض لها تماما. ولنبدأ بهذا التوجه الذي يعتمد القيمة المالية للنزاع كأساس لحصر طرق الطعن ودرجات التقاضي المتاحة أمام المتقاضي ( المواد 30 35 375 )، ورغم أن هذا التوجه عاش معنا في ظل مقتضيات المسطرة المدنية الحالية وما قبلها، فقد كان دائما محل انتقاد، من حيث كونه يضيق مسار التقاضي، ومن خلاله الإمكانات المتاحة لفحص النزاع ومناقشته من جديد أمام جهة أعلى وأكثر مراسا وخبرة. ويعكس هذا التوجه تقييما ماديا ليبراليا للقضايا والمنازعات يغيب طابعها الحقوقي وقيمتها المعنوية، فضلا عما ينطوي عليه من إنكار لمبدإ المساواة أمام القانون. وإذا كان هذا التوجه يجد مبررا مقبولا نسبيا بالنسبة لقضاء الموضوع، فالأمر يختلف بالنسبة للطعن بالنقض، باعتبار محكمة النقض محكمة قانون مناط بها توحيد تفسير وتأويل القانون وتطبيقه، وهو ما لا يتأتى مع حصر مجال تدخلها. في المقابل يفتح باب الطعون على مصراعيه، وحتى خارج الآجال، أمام النيابة العامة، بل أمام وزير العدل بصفته، عن طريق طلب التصريح بالبطلان ( المواد 17 و 407 و 408 من المشروع كلما ظهر لهما أن حكما قضائيا من شأنه الإخلال بالنظام العام، أو ثبوت خطإ قضائي أضر ضررا فادحا بحقوق أحد الأطراف. وإذا سلمنا للنيابة العامة باعتبارها حارسة النظام العام والحق العام، بالطعن في الأحكام المخالفة للنظام العام مع التحفط على عبارة « من شأنه »، التي تذكر بظهير كل ما من شأنه السيء الذكر فإن التساؤل يبقى مطروحا بالنسبة للأحكام المشوبة بخطإ فادح أضر بحقوق أحد الأطراف، حيث تتحول النيابة العامة من محام للحق العام، إلى حراسة حقوق أطراف النزاع بعد أن سدت في وجوههم طرق الطعن الكفيلة بحماية حقوقهم ومصالحهم، التي هم أولى بتقديرها والدفاع عنها، ثم حين تناط هذه المهمة بالرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بهذه الصفة، نصل إلى حدود المفارقة بين مهام منصب وموقع في مجلس دستوري موكول إليه تدبير شأن السلطة القضائية لينشغل أيضا بتصحيح الأحكام المنفلتة من طرق الطعن… ويبلغ التناقض أوجه حين تنص المادة 17 نفسها على أنه ( إذا صدر حكم من محكمة النقض، حكم بالنقض، فلا يمكن للأطراف الاستفادة منه ليتخلصوا من مقتضيات الحكم المنقوض ) ليكون الطعن أو طلب البطلان المبني أصلا على حصول خطإ في تفسير القانون وتطبيقه، أضرر بحقوق أحد الأطراف في النهاية بدون جدوى… كما أن باب الطعن أو الإحالة كما سماها المشروع مفتوح أيضا لوزير العدل في المقررات التي يكون القضاة قد تجاوزوا فيها سلطاتهم، ويفهم هنا أن هذه المقررات ( الأحكام ) شابها ما يعتبر افتئاتا على اختصاص الحكومة واقتحام مجال السلطة التنفيذية، مما يقتضي أيضا تبعا لهذا المنطق فتح نفس الباب أمام رئيس مجلس النواب، إذا اعتبر الحكم تجاوزا على سلطات التشريع، وهي حالة جد نادرة أو تكاد تكون منعدمة، وتعكس توجسا غير مبرر في حالتنا من تكريس ما يصطلح عليه بدولة القضاة التي تكون اليد العليا فيها للقضاء… والملاحظ أن الإحالة هنا مفتوحة لوزير العدل بصفته هذه، وقد كان الأولى أن تسند إلى رئيس الحكومة، باعتباره الممثل القانوني للحكومة، مع إمكانية ممارستها من خلال وزير العدل، أوحتى من قبل الوكالة القضائية للمملكة بتفويض من رئيس الحكومة. على أن ما يثير الاستغراب حقا، ويشكل صدمة قوية وغير مسبوقة في أي قانون إجرائي، هو ما أتت به المادة 62 من المشروع التي شرعت تغريم المتقاضي بغرامة ثقيلة ( من 1000 إلى 5000 درهم )عن كل دفع شكلي يثيره دفاعه، أو وكيله أو حتى هو شخصيا، ويكون مآله الحكم بعدم قبوله، ليس فقط من حيث إن هذا المقتضى يكبل المتقاضي ويقيد حقه في رسم استراتيجية دفاعه، وإثارة أي دفع يراه جديرا بدفع الإدعاء عنه، ويجهز بالتالي على جوهر الحق في الدفاع كحق أصيل للمتقاضي، كما يضرب في الصميم مبدأ شخصية العقوبة حيث يأخذ المتقاضي بجريرة دفاعه أو وكيله حين يثير دفعا في غير محله، فضلا عن إغفال المشروع أن رد الدفع والتصريح بعدم قبوله قد ينتج عن سوء فهم الدفع أو الخطإ في تكييفه أوتقدير جديته من طرف القاضي أو حتى هيئة المحكمة الذين هم في النهاية بشر يخطؤون ويصيبون… ويقدم هذا المقتضى تحت ذريعة تقوية مبدإ التقاضي بحسن نية، وردع المتقاضي سيء النية عن إثارة دفوع غير جدية لمجرد كسب الوقت وإطالة أمد التقاضي، والحال أنه كما يقول فقهاؤنا: ( لا يصح دفع ضرر بضرر أشد ) علما بأن الجزاء المقرر في المادة العاشرة من المشروع كاف لردع المخالف، كما لا يجوز العقاب على نفس الفعل مرتين… على أن الأفدح في كل هذه التجاوزات، في اعتقادنا، هو تخلي المشروع عن (مبدإ إلزامية الاستعانة بمحام L'obligation du ministère de l'avocat ) كمبدإ أصيل في إجراءات التقاضي، بشكل مطلق، يتضح ذلك من خلال المواد التي تحدد البيانات اللازمة في مقال الدعوى أو الطعن، ومن بينه (الإشارة إلى اسم المحامي والهيئة التي ينتمي إليها وبريده الإلكتروني، ( إذا كان المقال أو الطعن قدم بواسطة محام،) وقد ترددت هذه اللازمة في: ( المواد 57 76 99 216 وحتى أمام محكمة النقض في غير الحالات 1 ،2 ،3 من اًصل 9 حالات من اختصاص محكمة النقض) تكرس مبدأ اختيارية الاستعانة بمحام، وفتح الباب على مصراعيه أمام المتقاضي بالأصالة، أو بواسطة وكيل من الأهل ولأقارب بديلا عن المحامي المحترف. والحال أنه إذا كانت الدعوى هي ملك قانوني للمتقاضي وحق أصيل له، باعتبارها في النهاية وسيلة قانونية لحماية حقوقه ومصالحه، فإن ذلك كان مقبولا في زمن ما، قبل أن تتشعب إجراءات التقاضي، وتتضخم الترسانة القانونية، بشكل يتيه معه في إشكالاتها وتأويلها المتمرسون المتخصصون، وبالتالي يكون الزج بالمتقاضي العادي في هذا الخضم، بمثابة الإلقاء به في محيط متلاطم من الإشكالات والطروحات الفقهية والقانونية لا يكاد يضبطها أغلب الممارسين، بل وتسفر في أعلى مستوى قضائي على تفسيرات وتأويلات متناقضة ومتضاربة أحيانا، ومن ثم يكون هذا الإلزام القانوني بوجوب الاستعانة بمحام، والذي يظهر للوهلة الأولى أنه عبء إجرائي يقيد الحق في اللجوء إلى القضاء، هو في حقيقته ومقصده، دعم وسند لهذا الحق من خلال ممارسته عن طريق وبواسطة خبير بدروب التقاضي ومسالكه. ومع ذلك فلا بأس بإعفاء المواطن المتقاضي من هذا الالتزام ( الاستعانة بمحام ) فبعض القضايا البسيطة من قبيل دعاوى اختصاص قضاء القرب، أو الطلبات ذات الطبيعة الآنيية التي لا تكتسي صبغة نزاعية. وربما يكون الباعث على هذا التوجه ينضوي ضمن خطاب السياسات الاجتماعية التي تروج لها الحكومة، من خلال تخفيف العبء المالي لأتعاب المحاماة على كاهل المتقاضي. ولا يعيب هذا الطرح سوى أنه محاولة لحل معضلة اجتماعية على حساب شريحة اجتماعية أخرى يؤدي هذا التوجه إلى تقليص مجال نشاطها، وبالتبع مستوى دخلها، مع زيادة العبء الضريبي، لتتدحرج هي الأخرى من مستوى الطبقة الاجتماعية الوسطى، إلى مستوى اجتماعي لا يليق بمهنة كانت زمنا ما مهنة النبلاء. ويتساءل المرء مع هذا التوجه إذن، ما جدوى تنظيم امتحانات دورية لتخريج أفواج من المحامين يكون مآلهم المهني في النهاية هو مقعد الاحتياط ؟. ثم هل تسمح وتيرة الحياة الاجتماعية المتسارعة والضاغطة للمواطن اليوم بتكريس زمن غير يسير من وقته وتخصيصه للمحاكم وإجراءات التقاضي؟ وبلغة الاقتصاد المحببة للبعض، ما هي التكلفة الاقتصادية لشغل المواطن بمتابعة الخصومات عن دوره في الإنتاج والتنمية.. ثم إن هذا التعاطي مع مهنة المحاماة على أنها حرفة معيشية، أو في أحسن الأحوال مقاولة اقتصادية، يضرب في الصميم التوجه الحداثي لدولة القانون والمؤسسات التي تعتبر المحاماة مؤسسة عامة، تؤدي خدمة عامة، باعتبارها شريكة للدولة في إنفاذ القانون، بل وفي صناعته وتنزيله، من خلال ما تقدمه من شروح وتأويل عملي بمناسبة المنازعات والقضايا التي تتولاها. نحن إذن، أمام مشروع قانون يثير إشكالات ذات طبيعة دستورية ومؤسساتية، فضلا عن انعكاساتها وتداعياتها الإجتماعية، ومن ثم نتفهم هذا الجدال المحتدم، الذي يثيره المشروع في الأوساط المهنية، والذي تطور إلى أزمة حادة، انقسمت بشأنها المواقف بين من يدعو إلى حوار هادئ ورصين بين الفرقاء ( وزير العدل بصفته من جهة وكأنه جزيرة نائية منفصلة عن الحكومة ككيان دستوري مؤسساتي من جهة وقطاع المحامين من خلال هيئاتهم وجمعيتهم المهنية، من جهة أخرى، والذي يرى في المشروع مسا خطيرا بمكتسبات المهنة، وانتقاصا من وضعها الاعتباري، كما يعتبره انحرافا جسيما في التشريع أضر إضرارا فادحا بالحق في اللجوء إلى القضاء، وحقوق الدفاع المكفولة دستوريا، ويدعو إلى أشكال نضالية تهدد بشل قطاع العدالة شللا تاما. ويقف على رأس الاتجاه الداعي إلى الحوار المؤسس، السيد: المصطفى الرميد وزير الدولة ووزير العدل السابق، مفعما بتجربته كرجل دولة خبر أساليب ودواليب عمل الدولة، وبصفته أيضا مساهما في وضع الأسس والصيغة الأولى للمشروع، متحفظا مع ذلك على بعض التعديلات والإضافات التي طالت المشروع بعد ولايته. وفي الاتجاه المقابل نجد أغلب الهيئات المهنية للمحامين، وجمعيتهم، ممثلة بثلة من أساطين مهنة الدفاع بنفسها النضالي والحقوقي، بعد سلسلة من المشاورات والحوارات التي لا يبدو أنها كانت مفيدة في رأب الصدع. وبين هذا الطريق أو ذاك، وتجنبا لتصعيد قد لا يكون في صالح المؤسسات، أو حوار طرشان قد يصل إلى طريق مسدود، خطر لنا أن هناك بالتأكيد طريق ثالث لحل هذه الأزمة، هو نفسه الطريق الذي تحل به الأزمات والمنازعات في أي دولة تبنت خيار دولة القانون والمؤسسات كخيار استراتيجي لا رجعة فيه. ولن يكون هذا الطريق الثالث ويا للمفارقة إلا طريق التقاضي نفسه، التقاضي الدستوري، والاحتكام إلى الدستور باعتباره التعبير الأسمى عن إرادة الأمة، والقانون الأسمى الذي تقع تحت طائلته جميع التعبيرات القانونية الأخرى والملزم لجميع سلطات ومؤسسات الدولة. أمام قاضيه الطبيعي: المحكمة الدستورية… ( المادة السادسة من دستور 2011 ). ومن فضلكم، وقبل أن يسارع أحد بتذكيرنا بأن هذا المسار نفسه طريقه مسدود طالما أن إحالة القوانين على المحكمة الدستورية، محصورة إجرائيا بمقتضى الفصل 132 من الدستور، ويبقى ذلك رهينة بإرادة الحكومة نفسها، أو الجهات النيابية البرلمانية الموكولة إليها هذه الصلاحية، وطالما أن الأمر لا يتعلق بقانون تنظيمي يتعين إحالته بحكم طبيعته وبقوة الدستور، وقد كان الأمر يقتضي أن يكون كذلك بالنسبة لقانون المسطرة المدنية الذي يقدم اليوم على أنه مدونة عامة، وجامعة، وشريعة عامة لإجراءات التقاضي، وناسخة لما عداها من القوانين، فإنه بإعمال القريحة القانونية، والملكة الفقهية الضرورية لكل مشتغل بالقانون عامة، وممارس لإجراءاته و قضاياه، وإعمال أصول التأويل القانوني، الذي يجعل القانون يعمل من خلال مقاصده وغاياته، وليس فقط من خلال شكلياته وإجراءاته، وباستحضار ما أجمع عليه القانونيون والدارسون من وسم المشروع بأوصاف جسيمة بلغت حد وصفه بالانحراف الجسيم في التشريع، وخرقا فادحا لأحكام الدستور يحيل الحق في اللجوء إلى القضاء إلى مخاطر حقيقية على المواطن المتقاضي، ويهدد بانقراض مؤسسة المحاماة كمؤسسة عريقة من مؤسسات دولة القانون … كل هذه المخاطر تنهض مبررا شرعيا مشروعا للاحتكام إلى القضاء الدستوري، من خلال ما نسميه هنا والآن ( طلب فحص دستورية قانون ) كطريق ثالث غير طريق الإحالة المعروفة إجرائيا من السلطات المخول لها ذلك دستوريا، أو الدفع بعدم الدستورية الذي يثار بمناسبة منازعة قضائية، والذي لا يزال أيضا يراوح مكانه. وسندنا في هذا الطرح، هو ما يعرف في فقه القضاء الإداري بنظرية معدومية أو انعدام القرارات الإدارية: ومفادها أن أي قرار إداري يكون مشوبا بعيب المخالفة الجسيمة للقانون، يجعله، ليس فقط قابلا للإلغاء عن يطرق الطعن العادي بسبب تجاوز السلطة، بل يوصف فقهيا وقضائيا بأنه قرار معدوم ومنعدم الأثر، وكأن لم يكن، ولا يحتاج الأمر إلا إلى إعلان هذا الوصف بحكم معلن غير منشئ. اعتبارا لخطر استمرار تداول هذا النوع من القرارات في المجال القانوني، وتميل نظرية الانعدام، أو معدومية القرار، والتي تظهر في الحقيقة كجزاء يتم توقيعه على إدارة لتذكيرها بسيادة القانون، إلى التخفيف، بل والتحلل ما أمكن من الإجراءات الشكلية والمسطرية، بل وحتى من قواعد الأختصاص أحيانا، إذ يمكن لغير القاضي الإداري معاينة هذا الإنعدام وترتيب آثاره، كل ذلك وصولا إلى سحب هذا النوع من القرارات من التداول حتى لا تبقى واقعا قانونيا يهدد حقوق ومصالح الأفراد… وإذ نستعير هذه النظرية الفقهية الوجيهة من الفقه القضائي الإداري، (والتي تعيد بدوره صياغة نظرية البطلان المطلق والبطلان النسبي، أو قابلية الإبطال المشهورة في القضاء المدني) معتقدين اعتقادا جازما أنها قابلة تماما كنظرية عامة للإعمال أمام القضاء الدستوري، بل هي في هذا المجال أكثر جدوى وضرورة، بحيث لا يسع المحكمة الدستورية أن تتمترس خلف شكليات الإحالة الدستورية لفسح المجال لنصوص تشريعية تنتهك حرمة الدستور. وفي ظني أن خروج هذا المشروع إلى التداول، بكل هذا العوار، والانحراف الجسيم، حتى عن فلسفة التشريع الذي لا ينبغي أن يشرع إلا لحماية الحقوق وتنظيمها، وليس لتقييدها أوإعدامها، لهو أعظم خطرا من مجرد قرار إداري محدود المدى والأثر القانوني. ويجد هذا الطرح أيضا سنده الدستوري في صريح منطوق المادة السادسة من الدستور التي تجعل دستورية القوانين وتراتبيتها قاعدة دستورية أصلية، وركزوا من فضلكم على مصطلح وتراتبيتها، أي تراتبيتها من حيث إلزامية خضوع وموافقة القواعد الأدنى للأعلى، وعلى رأس هرمها القواعد الدستورية فيما يعرف في الفقه الدستوري بسلم كلسن Kelsen نسبة إلى الفقيه الألماني H . KELSEN وينبني عليه أن انعدام القاعدة القانونية المخالفة للدستور، وأن انفلاتها من الرقابة الدستورية بسبب عدم إحالتها ممن له الحق لا يكسبها بالفعل صبغة دستورية مهما طال تداولها قانونا. وسندنا الدستوري أيضا، أنه إذا كان المؤسس (Le constituant واضع الدستور، وليس المشرع كما يسميه البعض) قد فتح للمواطن العادي بابا موسعا لتقييم السياسات العمومية عن طريق عرائض ( المادة 12 ) بل وحتى المشاركة في العملية التشريعية من خلال الملتمسات ( المادة 15 ) فإن إغلاق باب المحكمة الدستورية أمام طلبات فحص دستورية نصوص تنتهك انتهاكا صريحا أحكام الدستور وحقوق وحريات الأفراد، سيكون منافيا تماما لمقصد وغاية وجود محكمة دستورية متعلقة بشكليات الإحالة التقليدية، بل ولوجود الدستور أصلا… ومن خلال هذا الطلب بفحص الدستورية، يكون المحامون من خلال هيئاتهم المهنية، قد مارسوا إجراء من إجراءات التقاضي هو من صميم مهمتهم ومهنتهم الأصلية في خلق وإبداع مساطر قانونية والتأصيل لأسسها فقها وقضاء، ووضعوا المحكمة الدستورية وحكمائها أمام مسؤوليتهم الدستورية والتاريخية، قبل التفكير في التوجه إلى التحكيم الملكي كملاذ أخير…