تقديم بعض القضايا القانونية يبدو ظاهريا وكأن حكمها محسوم ومستقر بما جرى عليه العمل وترسخ بالممارسة، غير أنه لا يكاد يحدث طارئ يدعو لإمعان النظر فيها والتدقيق في حكمها، حتى تتبين الحاجة إلى وضع هذه الممارسة موضع المساءلة، في ضوء التأصيل الفقهي والقانوني لها، بحثا عن مدى انسجام الممارسة وانضباطها لحكم القانون. ذلك ما أثاره النقاش القانوني الذي اندلع فجأة خلال إحدى الندوات المسجلة عن بعد، في سياق الظرف الطارئ الناتج عن جائحة كورونا، بشأن سؤال إلزامية الاستعانة بمحام أمام المحكمة التجارية في ما يخص الطلبات المقدمة أمامها في إطار مساطر الوقاية من الصعوبة. تحرير مناط الخلاف تبنى فضيلة رئيس المحكمة التجارية بالدار لبيضاء، خلال عروض الندوة، طرحا يبدو (أقول يبدو) جديدا ومستجدا، ينفي صراحة إلزامية الاستعانة بمحام في هذا النوع من المساطر التي تقدم في شكل "طلب" وفقا لصياغة ومنطوق المادة 576 من مدونة التجارة وليس في شكل "مقال" كما تسميه صراحة وحرفيا المادة 13 من قانون المحاكم التجارية. وقد انبرى لدحض وتفنيد هذا التوجه فضيلة السيد نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء، في مقال له نشرته الجريدة الإلكترونية "هسبريس" في عددها ليوم الأربعاء 10 يونيو 2020، ساق فيه أسباب ووسائل اعتراضه على هذا التوجه، نعرض لها بتفصيل في حينه. بعد تسجيل ملاحظات أولية وضرورية، ذات طبيعة منهجية، نعتبرها مفاتيح لفهم الاعتراض الشديد والمطلق للتوجه المعبر عنه من طرف رئيس المحكمة. الملاحظة الأولى: من العنوان الفرعي والتفصيلي للرد الذي جاء فيه "... في ظل نصوص التشريع، وبعيدا عن التفسير الفقهي والقضائي لرئيس المحكمة التجارية..". خطاب في المنهج وظاهر هنا الكلام ينصرف إلى أن صاحب الرد سينهج في استنباط الحكم المتعلق بالمسألة، أو القضية منهجا بعيدا عن التفسير الفقهي والقضائي الذي تبناه رئيس المحكمة، ليحتكم فيه مباشرة إلى النصوص التشريعية، وهو يقصد المعنى الحرفي والصياغة اللفظية للنص الواجبة التطبيق بدون تفسير ولا تأويل، كما يؤكد ذلك قوله: "أن التطبيق الحرفي والسليم للقانون، متى أراد القضاء التقيد بالقانون، يمنع في الواقع...". وهو منهج غريب في الاستنباط يلغي تماما الضوابط الفقهية في استنباط الأحكام التي لا يسعف فيها دائما الارتكان إلى منطوق النص وحرفه، على اعتبار أن النص نظم لفظي أي كلاما يقصد معنى، و"الكلام حمال أوجه"، أي أوجه متعددة ومختلفة في المعنى أو "حمال معان" كما يقول اللغويون والأصوليون. وإلا لما كنا أصلا في حاجة إلى فقهاء وقضاة ومحامين باعتبارهم هم أهل هذا الفن ومن يملكون أدواته وأصوله، أو هكذا يفترض، ولكان كل من يستطيع فك حروف النص كفيلا باستنباط مضمونه وحكمه. والخشية أن يكون هذا التوجه رجع صدى لتوجه عام بل لحالة عامة، يؤذن بأفول صناعة الفقه والتأصيل الفقهي للأحكام الذي أصبحنا نفتقده في أحكامنا القضائية، ومناهجنا الجامعية في تدريس القانون الذي غدا في أغلبه مجرد اجترار لمعلومات تلقن على أنها مسلمات لا مجال للمحيد عنها. وهو ما يؤكده تفشي مصنفات في القانون تعلي من شأن الجانب العملي في القانون وكأن الأمر في القانون أيضا يحتمل وصفات عملية جاهزة ومجردة عن أصلها العلمي وتأصيلها النظري. وهكذا فشت عناوين من قبيل "الدليل العملي في المنازعات التجارية" أو في قضايا الأحوال الشخصية أو ما شئت من هذه الدلائل التي أصبح لها نفاق (بفتح النون لا بكسرها) في الأسواق الطلابية والمهنية. ويعكس هذا التوجه خصاما وانفصاما بين النظرية والتطبيق يهدد باندثار أصول ونظرية القانون وليس القانون كنصوص ومدونات لا تتوقف عن الصدور، ولا يتوقف العلم بها على تتبع روايات وأسانيد كما هو الشأن بالنسبة للنصوص الشرعية، طالما أنه متاح من خلال المنشورات والجرائد الرسمية ولكن كعلم قائم الذات، وكحقل ومجال معرفي له نظرياته وأصوله، وقواعده وضوابطه، مما قد يتيح لمن شاء أن يقول في أي قضية ما شاء بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ويتم تسويق الكثير من التفاسير على أنها تمثل "وجهة نظر" بدعوى ديمقراطية المعرفة، وأنه لا أحد يستطيع ادعاء امتلاك وتملك الحقيقة، وبدعوى أن علم القانون ليس من العلوم الحقة Les sciences exactes التي يكون الدليل فيها حاسما في البرهنة على النتيجة. والحال أنه في نظرية القانون أو علم القانون كغيره من العلوم، تؤطره ثوابت نظرية وقواعد منهجية، هي الفيصل والحكم عند اختلاف الفقهاء ومن يمارسون حقيقة عمليات الاستنباط التي يصطلح علها بمفهوم " الاجتهاد". وخارج هذه الضوابط والأصول المرجحة تتساوى جميع الآراء، ولا معنى في ظل هذا التوجه للحديث عن الأمن القانوني، أو الأمن القضائي طالما أن الأحكام قد أضحت مجرد تعبير عن وجهات النظر، ويصبح المتقاضي تحت رحمة من عهد إليه بقضيته أو طلباته، وتصبح الأحكام والقرارات الإدارية والقضائية مسألة حظ لا تخضع لأي ضابط أو حكم، ويستحيل توقع مآلها. تداعيات هذا التوجه الذي يهدد سلامة الممارسة القانونية، قضاء، ومحاماة، وفي كافة المجالات، وتهدد الأمن القانوني والقضائي، هي أكثر ما استفزني لخوض غمار هذا النقاش القانوني، وقد سكتت دهورا عن الكلام المباح لأسباب ليس هذا مجال ولا زمن الخوض فيها. الملاحظة الثانية: تتعلق بالباعث المنهجي الذي حض أو حرض الأستاذ النقيب على الرد الذي لا يخفي بل يعلن صراحة دوافعه وخلفيته المهنية، كما جاء صراحة في حيثيات ودوافع الرد "فوجدتني مضطرا بحكم موقعي كمسؤول مهني، وبحكم منصب المسؤولية الذي يتقلده السيد الرئيس إلى الإدلاء بدلو هيئة المحامين بالدار البيضاء في هذه المسألة..". فالأمر إذن لا يتعلق أصلا بتأصيل المسألة واستنباط حكمها فقها وقانونا، بقدر ما تتعلق برد مدفوع ببواعث مهنية متصلة بموقع النقيب، الذي يرد من موقعه باسم الهيئة ونيابة عنها، في مواجهة توجه معلن لمسؤول قضائي، يؤطره ويغذيه ما أسميه ب "الإيديولوجيا المهنية " التي لا يخلو منها أي قطاع أو مجال مهني. فهي عند الأطباء يجب أن تحد من الحديث عن الخطأ الطبي الموجب لمسؤولية الطبيب، بدعوى أن الخطأ الطبي هو من مخاطر المهنة الواردة مهما اتخذ من الاحتياطات، وهي عند الصحفي نجحت في تنقية قانون الصحافة من العقوبات الحبسية بدعوى أن الصحفي يتعامل مع الخبر والمعلومة كضرورة مجتمعية، وأن الخبر من طبيعته احتمال الصدق والكذب، وهي عند القضاة توسيع غير مشروط لمبدأ استقلال القضاء بشكل ينفي مبدأ المسؤولية أو المساءلة عن الخطأ القضائي مهما كان جسيما، باعتباره أيضا واردا ومحتملا يمكن جبره بوسائل الطعن، وهي عند المحامين نزوع إلى الاحتكار المطلق للخدمات القانونية.. وهكذا، علما بأنه لا أحد يشكك في شرف ونبل هذه المهن والوظائف، كما أنه لا عاقل يشكك في شرف ونبل العمل كقيمة اجتماعية وإنسانية، أيا كان الشغل أو الوظيفة. ولا بأس طبعا بالانتصار لإيديولوجيا المهنة، فهذا من مستلزمات الانتماء إليها، خاصة من موقع المسؤولية، على أن يكون ذلك باعتدال لا يجافي المنطق وطبائع الأشياء، ولا يجنح إلى تطويع المبادئ والثوابت لخدمتها، وإلا انقلب الأمر إلى تطرف فئوي لا يختلف كثيرا عن التطرف المنسوب إلى بعض الطوائف الدينية والعرقية التي لا ترى وجودها إلا في نفي ما يخالف تصوراتها. محاورة الطرح المقابل ولا تبتعد الأسباب أو الحجج التي ساقها السيد النقيب عن هذا الهم أو الهاجس المهني: ففي معرض رده على السند المعتمد من رئيس المحكمة، والمتخذ من التمييز بين "المقال" كما ورد في الماد13 من القانون رقم 95 53 المتعلق بإحداث المحاكم التجارية، وبين "الطلب" كما تسميه المادة 576 من مدونة التجارة، اعتبر النقيب من جهته أن "المقال" لا يعدو أن يكون سندا ماديا يتم من خلاله تقديم ما سماه ب "الطلب القضائي" الذي هو موضوع الدعوى، لينتهي إلى أن "القول بهذا التفسير ( يعني تفسير الرئيس الذي يرتكز على التمييز بين المقال والطلب) من شأنه أن يحول دون استحقاق الرسم القضائي النسبي وفقا للأحكام المطبقة على المصاريف القضائية طالما أن هذا الرسم لا يستخلص إلا على أساس مجموع الطلب" حضور هاجس المصاريف والرسوم القضائية هنا لا يفسره في نظرنا إلا الباعث المهني، وإلا فلا علاقة البتة بين تحصيل الرسوم ونوع السند المقدمة من خلاله الدعوى، طالما أن الرسوم تحصل في جميع الأحوال لينتقل بعدها السيد النقيب في تحليله إلى جرد وتعداد النصوص القانونية، سواء من مدونة التجارة أو مقتضيات قانون المحاكم التجارية، ليخلص إلى أن "المشرع في مدونة التجارة لم يستعمل لفظ "المقال" إلا مرتين اثنتين، في المادة 578 والمادة 761 في حين نصت المدونة على عدد كبير من الطلبات التي تعرض على الأجهزة القضائية بالمحكمة والتي يتعين عليها الفصل فيها بناء على سلطتها القضائية (يعني التقديرية). والأمر نفسه ينطبق على القانون 17.95 الذي لم ينص على مصطلح "المقال" إلا مرتين أيضا في المادتين 340 و352، في الوقت الذي تطرق لعدد كبير من الطلبات القضائية التي من بينها طلب الأمر بتسوية عملية تأسيس الشركة (م12)..". لينتهي إلى أن القول بأن هذا التفسير سيؤدي إلى إقصاء عدد كبير من الدعاوى القضائية المنصوص عليها في نصوص قانونية موضوعية من دائرة النيابة الإلزامية للمحامي. ليتضح أن المؤاخذ على تفسير وتوجه السيد الرئيس، ليس هو خطأه فقها وقانونا، أو صوابه، وإنما تداعياته على شرط النيابة الإلزامية للمحامي. وبغض النظر عن القيمة الاستدلالية لهذين السببين اللذين أوردهما السيد النقيب فيما سماه ب "السبب العقلي" ومخرجاتهما التي لا أثر لها في دحض التوجه المعبر عنه من طرف رئيس المحكمة التجارية، لفت انتباهنا استعمال الأستاذ النقيب تعبير "الطلب القضائي" وهو ما يطرح إشكالا منهجيا آخر يتعلق بتدقيق المفاهيم والمصطلحات، وذلك من حيث نسبة الطلب إلى القضاء. وحسب علمنا، من موقع من مارس هذه المهنة لما ينيف عن ربع قرن، فإن القضاء لا تصدر عنه طلبات، وإنما يصدر أحكاما وأوامر وقرارات، ومن ثم يمكن الحديث عن حكم قضائي أو قرار قضائي، ولكن نسبة الطلب إلى القضاء يعكس خللا في الجهاز المفاهيمي والاصطلاحي لا يخدم وضوح النقاش. ومن هذا القبيل أيضا تعبير "السبب اللفظي" الذي أورده النقيب في مقابل "السبب العقلي" وهو يقصد الحكم المستفاد من لفظ وحرفية نص المادة 31 من القانون رقم 0828 المتعلق بمهنة المحاماة التي تنص على أنه "لا يسوغ أن يمثل الأشخاص الذاتيون والمعنويون والمؤسسات العمومية وشبه العمومية والشركات، أو يؤازروا أمام القضاء إلا بواسطة محام، ما عدا إذا تعلق الأمر بالدولة والإدارات العمومية تكون نيابة المحامي أمرا اختياريا". معلقا بشكل جازم وقاطع أن "هذا المقتضى القانوني صريح وواضح وضوح الشمس بأن المحامي هو الواسطة الوحيدة بين القضاء والمتقاضين، كيفما كان نوع الطلب أو الملتمس المراد عرضه على المحاكم". والحال أن النص إذا كان بهذه الصراحة والوضوح في حصر تمثيل الأشخاص ومؤازرتهم في المحامي الذي يحمل هذه الصفة قانونيا، فإن هذا المعنى لا يمكن حمله على دلالة النص على إلزامية توكيل محام مطلقا، بالنظر إلى صيغته ولفظه، من حيث اعتماد صيغة المضارع المبني للمجهول لا يسوغ أن "يمثل ... أو يؤازر الأشخاص الذاتيون... إلا بواسطة محام" والتي تفيد حصر مهام وصلاحية تمثيل الأطراف في محام يحمل هذه الصفة قانونا. وهو الحكم الذي جاء نص المادة لتأكيده بالنظر إلى سياقه القانوني الذي جاء فيه، والذي هو نفسه السياق العام للقانون 0828 بشأن تنظيم مهنة المحاماة، في الفرع الثاني تحت عنوان "مهام المهنة"، من الباب الثالث المخصص ل "ممارسة مهنة المحاماة" ومعلوم في قواعد التفسير أن السياق حكم (بفتح الكاف) وأن القرينة السياقية كما يسميها الأصوليون مرجحة، ولذلك فقد أصاب المحامون في أن يستنبطوا من أحكام هذا الباب مبدأ "احتكار مهنة تمثيل الأطراف أمام القضاء" وليس إلزامية التوكيل، أو ما يسمى اختصارا بمبدأ "احتكار المهنة" حتى لا يتطفل عليها من لا يحملون هذه الصفة كما ينظمها قانونها. فبعد تأكيد القانون نفسه على احتكار هذه المهام وممارستها على مستوى النطاق الترابي الذي يشمل جميع تراب المملكة مع مراعاة استثناءات محددة (المادة 30)، تتولى المادة 31 تأكيد هذا المبدأ وظيفيا باستبعاد أي مهنة أخرى من ادعاء هذه الصلاحية، لتتولى المادة 32 حماية هذا المبدأ إقليميا وقطريا بتقييد ممارسة المحامين الأجانب بشروط وإجراءات خاصة. فنحن إذن في هذا الباب الثالث في نفس سياق تنظيم ممارسة المهنة، في ما يتعلق بكيفية ممارستها، (الفرع الأول من المادة 25 إلى29) الى توضيح وتحصين مهام المهنة (الفرع الثاني من المادة 30 إلى34). وشتان بين هذا الحكم الذي يعززه السياق القانوني للنص والرامي إلى تحصين المهنة من المنافسة، وبين أن نحمل النص حكما بإلزامية الاستعانة بمحام لم يأت النص لأجله ولا علاقة له بسياقه. ذلك أن المجال والسياق الطبيعي والملائم لفرض إلزامية الاستعانة بمحام عندما يرى المشرع ذلك هو قانون المسطرة المدنية، باعتباره الشريعة العامة في المجال الإجرائي، أو القوانين الخاصة التي ترد بها بعض المقتضيات المتعلقة بإجراءات التقاضي بشأنها، كما هو الشأن في قانون المحاكم التجارية (المادة 13)، قانون المحاكم الإدارية - المادة 3)، فيما يبقى قانون المحاماة قانونا خاصا، مهتما بتنظيم ممارسة المهنة و تحصين وحماية مجالها. ومن ثم تتضح محدودية التفسير اللفظي الذي يؤاخذ عليه انتزاع النص من سياقه، وتحميله ما لا يحتمل، إذ لا يمكن لنفس النص أن يفيد حكمين في نفس الآن: حكم من جهة سياقه الذي وضع من أجله، وحكم ثان من جهة لفظه. وقد انتظرنا أن يثير هذا الموضوع نظرا لحيويته وراهنيته اهتماما موسعا في الأوساط القانونية وأن يذكي نقاشا محتدما يحرك القرائح والأقلام لبحث معمق للقضية من قبل المختصين، قضاة ومحامين وفقهاء، وانتظرنا على الخصوص تعقيبا من السيد رئيس المحكمة التجارية الذي بادر بإثارة القضية لمزيد من التوضيح والتأصيل النظري والفقهي لاتجاهه، فلم نقف، في حدود علمنا إلا على مداخلتين: إحداهما للأستاذ النقيب عبد الرحيم الجامعي، في صيغة خطبة بلاغية عصماء، تشيد وتنوه ب (حكمة نقيب) وتزري و تندد ب (خرافة رئيس..) نحسبها على الحماسة الجياشة والغيرة المهنية الجارفة المعروفة للأستاذ النقيب، أكثر منها على التحليل العلمي الرصين الذي لا يعوز الأستاذ النقيب حينما لا تجيش مشاعره بسبب الوضعية الحالية للمهنة التي طالما نبه إليها وندد بأسبابها. وفي الثانية: انبرى للإسهام في هذا النقاش من أساتذتنا الجامعيين، الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المريني، في دراسة له نشرتها الصحيفة الإلكترونية (موقع العلوم القانونية Maroc droit) تحت عنوان: (قول على أقوال، بخصوص التمثيل الإجباري بمحام أمام المحكمة التجارية في إطار مسطرة التسوية القضائية)، ويحيل هذا العنوان اللطيف على البرنامج الأدبي والشعري العريق الذي كانت تذيعه محطة "ال بي بي سي" هيئة الإذاعة البريطانية للشاعر الأديب حسن الكرمي (قول على قول). تدخل الفقه وتثير هذه الدراسة لأول وهلة ملاحظة منهجية تتصل بهذا الارتباط الوثيق بالحالة أو النازلة المثار بشأنها النقاش والمتعلقة بالذات بالطلب المقدم في إطار التسوية القضائية، هروبا ربما من التعميم الذي يقتضيه المنطق والتعليل الذي استند إليه رئيس المحكمة التجارية، والذي ينسحب على مثيله ونظيره من الطلبات، كما فطن إلى الأستاذ النقيب في جرده للمواد المتعلقة بالطلبات في مدونة التجارية، وقانون المحاكم التجارية، بل ويتجاوزه ليشمل كافة الطلبات المقدمة أمام جهات قضائية أخرى. وعلى مستوى المفاهيم والمصطلحات يلاحظ استعمال الأستاذ الدارس تعير أو مصطلح إجبارية التمثيل بمحام مرادفا لتعبير أو مصطلح الإلزامية، والحال أن هناك فرقا دقيقا بين المفهومين، ف "الإلزام" حكم عام بإيجاب أو وجوب القيام بفعل أو امتناع، بينما يعني مصطلح "الإجبار" إعمال وسائل الجبر القانوني لحمل الملزم على تنفيذ ما ألزمه به القانون. وهكذا نقول مثلا: المواطن ملزم بدفع الضريبة عن دخله وأرباحه، لكن لا يمكن الحديث عن الإجبار إلا عند تحقق امتناعه عن أداء هذا الواجب تلقائيا، والمحكوم عليه ملزم بتنفيذ الحكم طوعيا، ولا يتأتى اللجوء إلى وسائل الإجبار إلا عند تحقق امتناعه بدون مبرر عن التنفيذ. وهناك التزامات قانونية لا سبيل إلى استعمال وسائل الإجبار بشأنها، كما هو الشأن بالنسبة لإلزام المدعي بإثبات دعواه، بحيث لا سبيل لإجباره على ذلك، وإنما عليه ان يتحمل تبعات امتناعه بالحكم برفض طلباته وخسران دعواه. وقل مثل ذلك في إلزامية الاستعانة بمحام حيث لا يتأتى إجبار المدعي الذي عليه أن يتحمل القضاء بعدم قبول دعواه. وفي ارتباط وثيق بمحور النقاش كما تم طرحه في الندوة، فقد استهل الدارس بمحاولة لتتبع الاشتقاق اللغوي ل مصطلح "المقال" الذي اعتبره مستوحى من التراث القضائي المغربي وأرجعه إلى لفظ "المقال" (بسكون الميم وفتح القاف) وهي في الحقيقة صيغة عامية، دارجة على لسان المواطن في تعبيره اليومي (هكذا "لمقال" بسكون اللام والميم معا) كعادته في تخفيف صياغة اللفظ الفصيح الذي لم يجد له مقابلا في لهجته العامية، ولا علاقة لها بثراتنا القضائي الناطق رسميا وتاريخيا ودستوريا بالعربي الفصيح. على أن ما أثار دهشتي حقا هو ارتكان الدراسة إلى بعض المعطيات التي أوردها الدارس على سبيل القطع والجزم مع مخالفتها الصريحة والواضحة لما هو ثابت ومستقر علميا وكذا على مستوى الممارسة. من ذلك على سبيل المثال، قول الدارس مثلا بعد هذه الدوامة اللغوية وبجمل قطعية جازمة: "فالمقال إذن ليس مصطلحا قانونيا، وليس فكرة قانونية، وليست له أي حمولة قانونية أو مسطرية محددة ومنتجة لأي أثر، بل هو كلمة...". فكيف وبأي معيار أو مفهوم يمكن سحب وصف المصطلح عن لفظ "المقال" الذي هو جسم الدعوى، ودعامتها المادية التي تعرض من خلالها وبواسطتها وقائع النزاع وأسباب الدعوى وملتمسات وطلبات المدعي، وبهذا المعنى درج استعمال كلمة مقال في المواد القانونية، وبه أيضا درج استعمالها في الممارسة العملية من المحامين وغيرهم. والذي يبدو أن الدارس قد ضاع بين المعنى اللغوي للمقال الذي يعم جميع أنواع القول مكتوبا أو ملفوظا، وبين المفهوم الاصطلاحي الذي تواترت به النصوص ودرجت عليه الممارسة في مجال إجراءات التقاضي، علما بأن الدارس نفسه قد تتبع أصل الكلمة في الصياغة والممارسة القانونية بالمغرب، في مقابلته بمصطلحات مقابلة: "صحيفة الدعوى" في مصر واغلب دول المشرق "لائحة" في الأردن، و"عريضة" في تونس. ومعلوم أن لفظ أو كلمة مقال أو المقال قد درج استعماله في قانون المسطرة المدنية وغيره من المقتضيات الإجرائية الواردة في القوانين الخاصة، بما أضفى عليه صبغة مفهوم ومصطلح إجرائي، أكدته الممارسة العملية، وخرجت بذلك من معناها العام اللغوي، وكذا استعمالاتها المختلفة المتداول في مجالات معرفية أخرى، كالمجال الأدبي أو الصحفي.. ورحم الله فقهاءنا الذين يحرصون في مثل هذا المقام، حين يتصدون لتعريف أو تحديد مفهوم أو مصطلح، على التميز بين المعنى اللغوي للكلمة وبين مدلولها ودلالتها الاصطلاحية. فقد درجوا رحمهم الله في تعريف الصوم مثلا على القول: الصوم لغة هو الامتناع والإمساك، وشرعا هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وفي تعريف الزكاة، الزكاة لغة هي النمو والزيادة والتطهير، وشرعا هو إخراج مقدار من مال بلغ نصابا وحال عليه الحول وإعطاؤه لمستحقيه... وهكذا، فلا يلتبس المعنى العام الدارج للكلمة بالمفهوم الاصطلاحي لها. ومن نفس القبيل أيضا تأكيد الدارس بنفس الجزم والقطع أن " الطلب ليس هو موضوع الدعوى، لأن الدعوى ليس لها موضوع، فهي حق إجرائي شخصي ينتمي لطائفة الحقوق، وهو معرض للانقضاء والانتقال" فكيف يمكن تصور دعوى بدون موضوع؟ وعلى أي أساس يمكن تكييفها وتحديد وصفها القانوني وإطارها الإجرائي، والجهة القضائية المختصة بالبت فيها؟؟ وكيف الامتثال لنص المادة 32 من قانون المسطرة المدنية التي تحدد البيانات اللازم توفرها في المقال وتنص صراحة وعلى سبيل الوجوب الذي تقتضي مخالفته عدم قبول الدعوى: "يجب أن يبين بإيجاز في المقالات والمحاضر، علاوة على ذلك، موضوع الدعوى، والوقائع والوسائل المثارة...". بل، إن الأمر يتجاوز مجرد شكلية أو بيان إلزامي ليشكل ركنا من الأركان الأساسية التي لا قيام للدعوى بدونها، وهي كما يحددها الفقه الإجرائي: الأطراف (المدعي أو الطاعن، والمدعى عليه أو المطعون ضده) المحل، وهو موضوع الدعوى والغاية التي يرمي المدعي إلى تحقيقها من الدعوى، والسبب وهو المبرر الواقعي والمستند القانوني للدعوى، وهناك من الفقه من يضيف الركن القانوني وهو الإطار القانوني الموضوعي والإجرائي للدعوى. بل كيف يتصور عقلا مقال أو قول، حتى بمعنى القول العادي الدارج في مجالس الناس بدون موضوع؟؟ فحين يحدثك محاورك أن صديقا لك أو شخصا تعرفه أو حتى لا تعرفه، تزوج، أو سافر، أو أنه مريض، فحديثه في جميع هذه الأحوال ذو موضوع، بل إن الألفاظ لا تصبح كلاما أو قولا، أو جملة مفيدة بتعبير اللغويين إلا إذا أفاد معنى، أي إذا كان له موضوع..!! ولعل أستاذنا الدارس هنا أيضا قد ضاع بين مفهومين مختلفين، رغم كونهما متكاملين، هما: مفهوم الحق في اللجوء إلى القضاء Droit d'accès au juge ou le droit d'ester en justice كحق عام من الحريات العامة، وبين مفهوم الدعوى أو الطعن action ou recours كوسيلة قانونية إجرائية لممارسة هذا الحق. وعلى أي حال فسواء تعلق الأمر بالحق في التقاضي، كحق عام مقرر ضمن منظومة الحقوق المدنية والسياسية للأفراد، غير القابلة للتصرف على خلاف قول الدارس بأنها معرضة للانقضاء والانتقال أو بالدعوى كوسيلة قانونية لأجرأة هذا الحق، فإنه لا يستقيم بحال القول بأن هذين المفهومين الأساسيين أو أحدهما غير ذي موضوع. وأخيرا، كخلاصة، وبعد تقليب الأطروحة والأطروحة المقابلة، ورغم أن الأستاذ الدارس استبعد مستند رئيس المحكمة الذي يقابل بين المقال والطلب، لينتهي في الأخير إلى خلاصة غير بعيدة تماما عن هذا السند، استند فيه إلى معيار: "يتعلق ببنية الخصومة وأشخاصها" وما إذا كان الأمر يتعلق بتقديم طلب من مدع ضد مدعى عليه حالة المادة 578 من مدونة التجارة أو من المقاول أو الشخص ضد نفسه !!(حالة المادة 577 م)، معتبرا أنه في حالة تقديم طلب فتح مسطرة التسوية، أن صاحب المقاولة " هو في نزاع مع نفسه" وليس ضد أي طرف آخر. وهو بهذه الصفة ملزم بتقديم البيانات والمستندات التي تتيح للمحكمة البت في طلبه. وبالتالي فمتى كان هناك "خصمان متقابلان، وهناك خصومة حقيقية" فهناك حاجة لمحام للدفاع والتمثيل" بينما "لا يبدو ذلك ملحا بنفس القوة" في حالة تقديم طلب. وينتقل الحكم هنا من الحديث عن الإجبارية إلى مجرد تقدير الحاجة إلى محام للدفاع التي هي متوفرة في جميع الأحوال بنسب متفاوتة. ويستوقفنا هنا أيضا تعبير مقاضاة الشخص لنفسه، ومنازعته لذاته، وهو تعبير إذا كان يجري على لسان العامة، فإنه أمر غير متصور في إجراءات التقاضي. وقد سبق أن أوضحنا أن أركان الدعوى تقتضي أن يكون هناك نزاع بين طرفين مستقلي الذمة والشخصية القانونية، سواء بالنسبة للأشخاص الذاتيين أو الاعتباريين. وحقيقة الأمر أن مجال الطلبات كما سنوضح ذلك عند التصدي للتأصيل الفقهي للقضية هو غير مجال المنازعات، بل إن ما يميز مجال الطلبات هو بالذات خلوه من عنصر التنازع، وأن جوهر الطلبات هو توخي الطالب إفادته من وضعية أو مركز قانوني يعتبره مفيدا له ويعتبر نفسه محقا في الاستفادة منه، وتبقى للقاضي أو للمحكمة سلطة تقدير أحقية الطالب في هذا الزعم من عدمها، ومن ثم لا يصح القول بمنازعة الطالب لنفسه مع انتفاء عنصر المنازعة أصلا. وبالجملة، "فمتى كان الطلب يقتضي الحجاج والنقاش القانوني، كان وجود المحامي ضروريا ولا محيد عنه، ومتى لم يكن كذلكن أصبحت الاستعانة بمحام أقل درجة". مقاربتنا في التأصيل الفقهي والقانوني للقضية: رغم أن الأستاذ النقيب آثر الابتعاد عن التفسير الفقهي والقضائي للمقتضى القانوني المثير للخلاف، فإننا لا نعرف طريقا آخر أو منهجا ثالثا لتفسير القانون واستنباط أحكامه غير التفسير الفقهي أو القضائي، علما بأن التفسير القضائي هو في حقيقته تفسير فقهي يعتمد نفس القواعد والضوابط المقررة فقهيا، بالنسبة للواقعة أو النازلة المعروضة على نظره، بينما يسبح الفقه في فضاء عام تأصيلا وتقعيدا بهدف إرساء أحكام وقواعد عامة من خلال رصد لما يستجد من الوقائع والنوازل والإشكالات. ويبرز في هذا المبحث من هذه الورقة مصطلحا: "التأصيل" و"التقعيد"، فما المراد بهما؟ أما التأصيل فهو كما يدل عليه اشتقاقه اللغوي، من أصله يؤصله أي أرجعه إلى أصله، وفي معناه الاصطلاحي: إرجاع الوقائع والقضايا الجزئية التفصيلية إلى أحكامها الكلية العامة. ويقابله التقعيد الذي يهتم كما يدل عليه اشتقاقه اللغوي أيضا باستنباط ووضع القواعد العامة من خلال استقراء الجزئيات التفصيلية، وتحديد خصائصها ومميزاتها المشتركة. وهكذا يشتغل الفقه، في التأصيل، صعودا نحو القواعد والأحكام العامة لبيان الحكم المناسب للواقعة أو الإشكال المطروح، وهبوطا إلى مجال الوقائع والجزئيات، لاستنباط حكم أو قاعدة تكون هي الحكم المقرر الجامع لهذه الجزئيات وأشباهها ونظائرها، فيما سماه الحكيم اليوناني أفلاطون في منهجه الاستدلالي ب"الجدل الصاعد" نحو التجريد والأفكار والمفاهيم المجردة، و"الجدل النازل" نحو الاستقراء العلمي للوقائع المادية. فلننزل من هذا الفضاء التجريدي لمعاينة واقعة الخلاف التي أحطنا ببعض جوانبها في ما تقدم، على أن نعود إليه صعودا وفقا للمنهج. تطرح المسألة سؤال إلزامية الاستعانة بمحام عند تقديم المقاول طلب فتح مسطرة التسوية القضائية في إطار المادة 577 من مدونة التجارة، وباستقراء الوقائع المماثلة يتضح أن الإشكال مطروح أيضا بخصوص جميع الطلبات المماثلة والتي أحصى الأستاذ النقيب عددا مهما منها في معرض رده على أطروحة السيد رئيس المحكمة التجارية، والتي لا مجال لحصرها في هذه الورقة، بل وعلى كل الطلبات المقدمة عموما إلى القضاء والرامية إلى الاعتراف للطالب بوضع أو مركز قانوني معين، لا يمس بجوهر النزاع ولا يضر بحقوق الأطراف حسب تعبير المادتين 148 و149 من ق م م، والتي ينبغي أن يشملها نفس الحكم وفقا لقاعدة قياس الأشباه على النظائر أو كما تقول القاعدة بالفرنسية situations identiques requiertent un jugement identiques Les. وهكذا فإذا كان الأمر إذن يتعلق بسؤال إلزامية الاستعانة بمحام بخصوص تقديم طلبات بعينها، فإن هذا السؤال الجزئي يحيلنا على سؤال عام بشأن إلزامية الاستعانة بمحام في إجراءات التقاضي عموما، كأصل تنضوي تحته هذه الجزئية، وهنا نبدأ جدلنا الصاعد باتجاه تأصيل هذا الحكم في عمومه، انتهاء إلى الحكم الملائم للمساطر الجزئية. ونسجل هنا بداية أن الحديث هو عن إلزامية الاستعانة بمحام L'obligation du ministère d'avocat، وهو التعبير الاصطلاحي الجاري في قاموس إجراءات التقاضي أدبيات الترافع، باعتباره تعبيرا جامعا يشمل المهام المختلفة التي يباشرها المحامي "الترافع نيابة عن الأطراف ومؤازرتهم والدفاع عنهم وتمثيلهم أمام محاكم المملكة..." المادة 30 من القانون المهنة، وهو غير مصطلح النيابة القانونية الذي عنون به الأستاذ النقيب مقاله، والذي ينصرف إلى النيابات المقررة قانونا للولي الشرعي للقاصر أو عديم الأهلية، أو لممثلي الأشخاص الاعتباريين المسندة إليهم هذه المهام بموجب قانونها أو نظامها الأساسي، علما بأن نيابة المحامي هي ذات طابع تعاقدي ناتج عن تكليف من طرف الموكل يقبله المحامي ويتصرف بمقتضاه. والآن لنبدأ جدلنا الصاعد باستقراء المقتضيات القانونية التي تقرر هذا الحكم بإلزامية الاستعانة بمحام، فنجد أن المادة القانونية الصريحة في هذا الصدد، لا تتجاوز فصلين أو مادتين قانونيتين، يتعلق الأمر بالمادتين: 13 من القانون رقم 9553 بشأن إحداث المحاكم التجارية التي تنص صراحة على أنه: "ترفع الدعوى أمام المحكمة التجارية بمقال مكتوب يوقعه محام مسجل في هيئة من هيئات المحامين بالمغرب...". والثالثة (3) من القانون رقم 41 90 المحدثة بموجبه المحاكم الإدارية بالمغرب، التي تنص أيضا على أنه: "ترفع القضايا إلى المحكمة الإدارية بمقال مكتوب يوقعه محام مسجل في جدول هيئة من هيئات المحامين بالمغرب". أما بخصوص المادة 31 من القانون رقم 2802 بشأن تنظيم مهنة المحاماة، فقد أسهبنا في توضيح حكمها وشرح سياقها فيما تقدم. ويكفي أن نذكر هنا بأن المادة عنيت بتحصين المهنة وحصر ممارستها في من يحملون قانونيا صفة محام، كما هي منظمة بمقتضى قانون المحاماة ولا تتعلق بحال بحكم الإلزام الذي نحن بصدده. وبإمعان النظر في مقتضيات المادتين يتضح أن الكلمة المفتاح في المادتين هي مصطلح الدعوى، المعبر عنها أيضا في المادتين بمصطلح مشترك هو "القضية" أو "القضايا" حيث تنص المادة 13 من مدونة التجارة في فقرتها الثانية: "تقيد القضايا في سجل معد لذلك". ويحيل مصطلح القضية أو الدعوى إلى وجود نزاع بين طرفين أو أطراف متعددة بشأن حق أو مركز قانوني، بحيث يكاد يصبح "المقال" مرادفا لمصطلح الدعوى أو القضية. وهو ما يميزه عن الطلب الذي يرمي إلى إفادة الطالب من وضع أو مركز قانوني لا ينازعه فيه أحد. وبهذا المعنى يمكن فهم تمييز رئيس المحكمة التجارية بين "المقال" و"الطلب" مسايرة لتعبير المشرع بمصطلح "المقال" كلما تعلق الأمر بنزاع أو خصومة قانونية بين متنازعين، وبمصطلح "الطلب" في غير هذا المقام الذي لا يتغيا سوى إفادة الطالب من وضع قانوني يعتبر أنه محق فيه، ومن ثمة تقييم حجته التي تشهد هذه المقتضيات القانونية بوجاهتها. وتندرج هذه الطلبات التي يخضع البت فيها زيادة على ما يقدمه الطالب من وثائق ومستندات لإثبات أحقيته في طلبه للسلطة التقديرية للقاضي أو المحكمة، في ما يسمى بالسلطة الولائية للقاضي المعروض عليه الطلب. ويحتاج هذا المفهوم بدوره (السلطة الولائية) إلى وقفة جادة لتوضيح وحصر دلالته المرتبطة في تراثنا الثقافي بالفصل بين خطة القضاء التي تعني اليوم السلطة القضائية، وبين الولاية التي تعني تدبير شؤون الناس في مجال ترابي محدد، وهو ما يقابل سلطة التدبير المجالي أو السلطة الإدارية اليوم. وهو غير مفهوم الولاية الشرعية العامة للقاضي المعبر عنها بقاعدة "القاضي ولي من لا ولي له". وعليه فإن القاضي وهو يبت في الطلبات المقدمة إليه، يخرج من صفته كقاض للفصل بين المتنازعين، ليتقمص دور التدبير الإداري الذي ينحصر في فحص مبررات الطلب، وتقدير مدى ملاءمة الاستجابة للطلب أو رفضه، وهو في ذلك لا يختلف عن السلطة الإدارية وهي تبت في طلب ترخيص بالبناء مثلا، أو غيره من التراخيص اللازمة لممارسة بعض النشاطات الخاضعة للترخيص. ويكون الإبقاء على هذا المصطلح التراثي مقصودا فقط للتمييز بين القضاء كسلطة، وبين والإدارة كجهاز تنفيذي، حين يمارسان نفس المهام، ولكن كل في مجال اختصاصه. ولتفسير وفهم هذه الوضعية القانونية المتمثلة في محدودية المقتضيات القانونية الصريحة المقررة لحكم الإلزام، ينبغي أيضا استحضار مفهوم و مبدأ "الحق في التقاضي" أو "الحق في اللجوء إلى القضاء" Droit d'accès au juge ou le droit d'ester en justice كحق من الحقوق الأساسية للأفراد، يندرج ضمن منظومة الحقوق المدنية المقررة بموجب الإعلانات و المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، حيث تنص المادة 8 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه: "لكلِّ شخص حقُّ اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصَّة لإنصافه الفعلي من أيَّة أعمال تَنتهك الحقوقَ التي يمنحها إيَّاه الدستورُ أو القانونُ.الأساسيةَ " كما تقرر المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية أن: "الناس جميعا سواء أمام القضاء. ومن حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية توجه إليه أو في حقوقه والتزاماته في أية دعوى مدنية، أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية، منشأة بحكم القانون". ومن الواضح أن الأمر هنا يتعلق ب"حق ذاتي :Droit subjectif أصيل للفرد ذاته المعترف له ب موجب هذا الإعلان العالمي، في مادته السادسة، "الشخصية القانونية" المؤهلة لاكتساب الحقوق، والتي يصطلح عليها في القانون المدني ب"أهلية الوجوب"، حتى قبل أن يكون مؤهلا للالتزام بواجبات، خلافا لزعم الأستاذ النقيب الذي ينفي تماما عن المتقاضين، وبأسلوب الجزم والقطع، الشخصية القانونية المقررة لهم في جميع الشرائع، قبل الإعلانات والعهود الدولية، "ما دام المتقاضي صاحب المصلحة والحق في رفع الطلب وتقديم الملتمسات على حد قول النقيب عديم الأهلية في تمثيل نفسه أمام المحكمة التجارية". وهو حق أساسي غير قابل للتصرف كما تصفه الإعلانات ذاتها Droit fondamental et inaliénable. وتم تكريسه في دساتير جل الدول المخاطبة بهذه الأوفاق الدولية، لم يشذ عنها دستورنا الوطني الذي نص في مادته 118 على أن "حق التقاضي مضمون لكل شخص للدفاع عن حقوقه ومصالحه التي يحميها القانون". وينتج عن استحضار هذا البعد الحقوقي الذي، غيبته الهواجس المهنية في تحليل الأستاذ النقيب، أن الأصل في التقاضي أن يمارس ويباشر من صاحب الحق والمصلحة فيه، وأن وضع المحامي هو وضع وكيل عن صاحب الحق الأصلي ومتكلم باسمه، وخاضع في قواعده العامة لأحكام الوكالة كما ينظمه القانون المدني، وهو ما يفسر وصفها ب "وكالة الخصام"، عدا بعض الأحكام الخاصة التي تقتضيها الوضعية المؤسسية للمهنة كما هي منظمة بقانونها الخاص. بل إن قانون المسطرة المدنية قد فتح بصراحة بمقتضى المادة 33 في فقرتها الثانية لمن لا يتمتع بحق تمثيل الأطراف أمام القضاء، إمكانية الترافع عن الغير من الأقارب إلى الدرجة الثالثة بإدخال الغاية، فقط بشرط إثبات الوكالة بسند رسمي أو عرفي، دون إلزامهم بالاستعانة بمحام، فضلا عن النيابة الشرعية المنظمة بموجب أحكام الفرع الثاني من الباب الثالث من نفس القانون (الفصول 181 وما بعده) ومن هذا المنظور الحقوقي، الذي يهتم أولا بالحق في التقاضي، وتيسير اللجوء إلى القضاء، وتبسيط مساطره، باعتباره الأساس والوسيلة لصيانة بقية الحقوق، فقد رأى بعض الفقه في إلزامية الاستعانة بمحام، كما في الرسوم القضائية، مما قد يتطلب أحيانا تكاليف تتجاوز إمكانيات صاحب الحق، قيدا يرد على الحق الأصلي في اللجوء إلى القضاء. ويرد على هذا التحليل الحقوقي المحض، بما تعرفه الأنظمة القانونية والإجرائية من توسع وتشعب وتعقيد يستدعي بالضرورة اللجوء إلى فني متخصص، مما يؤول معه هذا الإلزام في غايته ومقصده إلى حفظ حقوق المتقاضي نفسه، ويضفي عليه في الحقيقة طابع حق مكمل للحق في التقاضي وليس نقيضا له. ويورد هذا الرد في الحقيقة ما يعتبر سببا وعلة، وفي الوقت نفسه مقصدا وغاية للمشرع من تقرير هذا الإلزام. ومن المعلوم أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، ومن ثمة يكون من غير المعقول حتى في حالة النص الصريح على إلزامية الاستعانة بمحام رفض الإذن بالترافع أصالة لشخص يستظهر تعزيزا لطلبه بدبلوم في الدراسات القانونية، أو لأستاذ في تدريس المادة مثلا، وإلزامه بتوكيل محام إنكارا لحقه في التقاضي الذي هو الأصل. كما يبدو غريبا توجه بعض أحكام القضاء الإداري بإلزام الدولة بتوكيل محام، استنادا إلى تطبيق حرفي للنص، أو حتى إلى عزم النص، ودون الالتفات إلى المقتضيات القانونية الصريحة التي تعفي الدولة من هذا الإلزام، علما بأن الدولة لا يفترض فيها فقط العلم الشامل والدقيق بالقانون الذي هو صناعتها، وإنتاج مؤسساتها، وكنه وجودها. ومن هذا المنطلق، تكون إلزامية الاستعانة بمحام خلافا لما يعتقد هي استثناء من الأصل، وليس قاعدة أو مبدأ مطردا، ويكون الإعفاء منه هو في الحقيقة رجوع إلى الأصل، ورد للأمور إلى نصابها. وهو ما يفسر قلة ومحدودية النصوص، التي تقرر هذا الحكم، كما يؤكده بوضوح تام خلو قانون المسطرة المدنية، باعتباره المرجع والشريعة العامة في مجال إجراءات التقاضي، من مقتضى صريح في هذا الشأن، اللهم إلا ما كان من المادة 354 منه بشأن المسطرة أمام محكمة النقض، التي نصت على أنه "ترفع طلبات النقض والإلغاء المشار إليها في الفصل السابق، بواسطة مقال مكتوب موقع عليه من طرف أحد المدافعين المقبولين للترافع أمام محكمة النقض" اعتبارا للتقنيات والخصائص الموضوعية والإجرائية للطعن بالنقض. كما يتعين أيضا استحضار أن حكم إلزامية الاستعانة بمحام، هو حكم إجرائي يرد ضمن تنظيم إجراءات التقاضي، ومعلوم أن المجال الإجرائي تنظمه إجراءات آمرة ولا مجال فيه للتوسع والاجتهاد، بخلاف قواعد الموضوع التي توفر مجالا موسعا للاجتهاد والقياس. ومن ثمة فلا إلزامية في الاستعانة بمحام في غياب نص يقرره. غير أن هذا الوضع القانوني للمسألة لحسن الحظ لا يعكس بحال وضعها الواقعي على مستوى الممارسة، حيث لا يسعنا إلا أن نسجل بارتياح هذا الإقبال المتزايد على اللجوء إلى الاستعانة بمحام ليس في مجال التقاضي فحسب ولكن أيضا في مجالات أوسع، في الاستشارة القانونية والتحكيم وأمام مختلف الإدارات والمؤسسات والهيئات، وهذا ليس استجابة لإلزام قانوني محدود، بقدر ما يعزى إلى تطور في الوعي المجتمعي بضرورة احترام التخصصات أولا، وبأهمية عنصر الزمن ثانيا، والذي يجعل المواطن يفضل استثماره في نشاطاته الضرورية، بدل إنفاقه في دوامة الإجراءات والمساطر، وردهات المحاكم والإدارات، ناهيك عن نفور المواطن عموما من مواجهة الإدارة التي تأبى التطور وتغيير سلوكها في استقبال المواطن والتواصل اللائق معه، رغم تضخم الخطاب الرسمي في هذا الشأن. وهو وضع اجتماعي يبدو ناضجا للمطالبة بتوسيع وتحصين مجال تدخل المحامي، الذي يظل مطلبا مهنيا مشروعا في جدود ما لا يؤدي إلى المس بالحق الأصلي للأفراد في التقاضي وإنكار شخصيتهم القانونية. على سبيل الختام: وبعد: فهذا ما انتهينا إليه في مقاربتنا التأصيلية لحكم إلزامية الاستعانة بمحام على وجه العموم. لم يكن رائدنا فيه الاصطفاف إلى جانب هذا القول أو ذاك، بقدر ما كان هاجسنا إعادة الاعتبار لمناهج التأصيل الفقهي والقانوني، وإحياء أصول وقواعد التفسير والتأويل القانوني، وضوابط استنباط الأحكام، التي على أساسها نقف على أرضية صلبة بما تقدمه من ضوابط الترجيح عند تعارض الأحكام. وقد راعني فعلا، وأنا أتوغل في مختلف جوانب المسألة، هذا الانطباع الذي عبر عنه الأستاذ النقيب الذي قرر لأول وهلة الاحتكام إلى ألفاظ النص وحرفه، معتبرا أن المسألة "من أبجديات القانون الإجرائي الذي لم يكن له في الواقع أن يثار نظرا لصراحة نصوص التشريع" وأنه لولا موقع رئيس أهم محكمة تجارية بالمملكة، وما يمكن أن يترتب عنه من تأثير أدبي بمناسبة تفسير القانون وتطبيقه وموقعه هو كمسؤول على رأس أكبر نقابة للمحامين بالمغرب، ما كان ليتطرق إلى هذا الموضوع فقط على سبيل النقاش القانوني. ما زاد قناعتي بضرورة التذكير بالأصول والضوابط العامة لمنهج التفسير والتأويل التي يجب أن نعنى جميعا يتلقينها للأجيال الصاعدة من رجال ونساء القانون، حتى يكونوا على بينة من الأمر، وحتى لا يؤول التعاطي مع النصوص والمقتضيات القانونية إلى مجرد التعبير عن آراء وانطباعات. ويبقى الحكم الذي انتهينا إليه على أي حال صواب يحتمل الخطأ، كما يقول الإمام الشافعي، متى ظهرت وفقا لهذا المنهج المعتبر مرجحات تتجاوزه. (وفوق كل ذي علم عليم) صدق الله العظيم. *مستشار قانوني