محمد الأشعري في منتصف السبعينيات، وبتزامن مع التحولات السريعة التي عرفتها قضية الصحراء المغربية، استقر التوجه السياسي للأحزاب الوطنية، وضمنها اليسار، على اختيار النضال من أجل الديمقراطية سبيلاً إلى الخروج من مأزق الاستبداد والحكم المطلق، وطي صفحة المواجهات العنيفة التي أهدرت كثيراً من الوقت والفرص، وخلفت كثيراً من الضحايا، وكثيراً من الجراح العميقة. وفي قلب هذا الاختيار، حصل نوع من التصالح مع مبدأ المشاركة، فصار مقبولاً أن نشارك في الحوار السياسي، وفي الانتخابات، وأن نشارك في التدبير الجماعي، وفي الحياة النيابية، وفي تحمل المسؤوليات الحكومية، بعد أن كانت «المقاطعة» ردنا الوحيد على المهازل الانتخابية التي كان يُراد من بهرجتها السطحية إخفاء بناء آيل للسقوط. وفي المقابل، حدث نوع من الانفراج السياسي، سمح لهذه المشاركة بتحقيق تحول نوعي في الحياة العامة بالمغرب، على الرغم من الاحتقان السياسي الذي ظل ثاوياً في الأعماق، وجرَّ، عند اشتداده، إلى مواجهات وانفجارات في بداية الثمانينيات وفي منتصفها، وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي، لكن الثوابت التي استقرت عليها الحركة الوطنية كانت واضحة، وغير قابلة للمساومة: انتخابات نزيهة، إصلاح دستوري يضمن فصل السلط وتوازنها، احترام الحريات وحقوق الإنسان، أي، في نهاية المطاف، الاحتكام إلى «قواعد» ديمقراطية، وليس فقط إلى توافقات «معلنة أو مضمرة»، ومن المؤكد أن هذا المسار هو الذي أدى، في نهاية التسعينيات، إلى تغيير جوهري في الحياة السياسية المغربية، بمجيء حكومة التناوب، بعد عقود من هيمنة النمط التحكمي. في التاريخ السياسي المغربي الحديث، هناك ما يمكن تسميته «عقدة القطيعة مع القصر». لقد كانت إعادة جسور الثقة بين اليسار المغربي والملكية مفتاحاً لفتح صفحة جديدة في التطور السياسي للبلاد، وبدا، عندئذ، أن كل شيء يمكن إنجازه بهذه الثقة، بل بدا أن لا شيء، ولا إصلاح، ولا تغيير يمكن إنجازه، إلا عبر هذه الثقة، إلى حد أصبح معه الخوف من انهيار هذه الجسور، مرة أخرى، عقدة مستحكمة. وكم مرة سمعت من بعض قادة حزب الاتحاد الاشتراكي أن أسوأ شيء يمكن أن يحصل لنا هو أن «نتخاصم» مع الملك، لأن التأخير الكبير الذي حصل في بناء الديمقراطية يرجع، بالأساس، حسب زعمهم، إلى أزمة الثقة التي كانت بين يسارٍ يعتبر أن «لا إصلاح للحكم إلا بزواله»، وحكم يعتبر اليسار مجرد متآمرين يتوجب محقهم، وهؤلاء القادة اقتنعوا، بعد إعادة جسور الثقة، بأن الإصلاح، أي إصلاح، يجب أن يكون مع الملك وليس ضده، وهي قناعة على قدر كبير من الحكمة والواقعية، لولا أن المسار السياسي المرتبط بتطبيقها في أرض الواقع أدخل المغرب في جمود مزمن، بسبب الخوف من «الخصام»، وبسبب التحلل من القواعد، تجنباً لأي اصطدام مفترض أو وهمي، والاحتكام إلى التوافقات الهشة، والترتيبات الفوقية، حتى أصبح الخطاب عن الديمقراطية في تعارض مستمر مع الممارسات المرتبطة به، ولم يعد الفاعل السياسي مناضلاً ديمقراطياً، بل «خبيراً» في تلفيق التبريرات لكل المواقف، حتى انهارت جسور ثقة أخرى، لا تقل جوهريةً، هي جسور الثقة مع الشعب. كل المجتمعات التي نجحت في بناء ديمقراطية حقيقية نجحت في ذلك بالتفاوض الصبور والحكيم الذي يضع القواعد، فيرفض كل طرف أن يلعب خارجها، لا يمكن لأحد، مثلاً، أن يصبح عمدة بالترتيبات الفوقية، ولو كان أقلية الأقليات في النتائج الانتخابية. لا يمكن لرئيس حزب أن يصبح رئيسا للبرلمان وحزبه في الرتبة الخامسة. لا يمكن لأحد أن يصبح عضواً في حزب بعد أن يستوزر باسمه. لا يمكن لحزب أن يقبل تحالفاً ضد الطبيعة، ولا أن يقبل بخسارة هنا مقابل ربحٍ هناك. كل هذه الممارسات ليست تفاوضاً، بل «مساومة» وإعمالاً لقاعدة «اعطيني… نعطيك»، في ارتباط بالمصالح الخاصة، وليس بمصلحة وطنية مشتركة. لهذه الأسباب، خسر الحقل الحزبي مصداقيته وقوته، لأنه فرط في «القواعد»، وركن إلى ما تجود به القسمة، أو الرضى بالمقسوم، والمغاربة يقولون في هذا المقام: «المفرط أولى بالخسارة».