هو صديق قديم وصدفة التقينا في المقهى ارتشفنا قهوتنا السوداء تحدثنا كثيرا عما يجري في البلاد اذ نطق وقال" منذ زمن بعيد ، وفي أحد الاجتماعات الحزبية ، وكان النقاش يدور حول : ( هل نشارك في انتخابات الندوة التشريعية / مجلس الشعب ، أم لا ؟ ) ..... أحد المناضلين الأشاوس ، وتعزيزاً لمصالحه الخاصّة ، وتمويهاً لإخفاء تلك المصالح ، قال : ( إن مجلس الشعب هو من أهم المنابر التي نطلّ منها على الشعب ) . قبل فترة من هذا الاجتماع السابق الذكر ، وفي تأمل خاص ، كنتُ قد وصلت إلى عبرة مفادها ، ( أن الانسان يتعلم الكلام خلال سنتين على الأكثر ، لكن ربما يقضي عمره ، ولا يتعلم الصمت ) ، بعد كلام المناضل ، ضحكتُ في سرّي وبقيت صامتاً ، وذلك بعد أن عذبني كلامي كثيراً في السنوات السابقة ، وكنتُ يومها في بداية تعلمي الصمت ، لكنّ رئيس الحزب ، وكأنه لمح ضحكتي السريّة ، قال : رفيق x يبدو أنّ عندك رأي ، فنسيت ما بدأت بتعلمه ، وما كاد رأيي يتضح ، حتى قاطعني الرئيس ، وقال ( خلص ... لا تعملنا مشكل ) !! طلب منّي الكلام ... ثم ... أسكتني"" !! ليس في هذا العالم من بناء ، إلا ويقوم على قواعد : العمارة الفكرية تقوم على قواعد ، وكذا الأمر للعمارة الفلسفية ، وللعمارة السكنية وللعمارة الاقتصادية ، وللجسر والطريق وقناة الري والسد ، والنظرة إلى الحياة والكون والفن ، وللمنزل وللعلاقة مع الأبناء ، ومع الأصدقاء والرفقاء ، وللعلاقات العائلية والاجتماعية ....... لكن ... بعض هذه القواعد ، يسمّى بدهيات ومسلمات ... وبعضها يُسمّى مبادئ ... وبعضها يُسمّى قوانين وأنظمة ... وبعضها أعراف وتقاليد...... والآخر يُسمّى أساسات . إذا كانت قواعد الفكر الذي تؤمن به ، تحدد أن معركتك ، هي معركة الوصول إلى الشعب ، فهذا يعني استنتاجاً : أنك إذا نجحت في معركة الوصول إلى الشعب ، فإنّ الشعب هو من يوصلك إلى مجلسه ، وحينها يصبح القول : ( إن مجلس الشعب هو من أهم المنابر التي نطلّ منها على الشعب ) ، يعني أنك سرتَ بعكس المنطق ، وهذا يعني أنكَ ( سرقت انتصارك من وراء ظهر الشعب ) ( كمال خير بك ) ، ويعني أنكَ عمّرت خارج القواعد ، التي دفع بعضهم حياته ثمناً لتثبيتها ، وأنك وضعت أعمدة بناءك على التراب الهش ، وهذا يعني في المحصلة النهائية ، أنك كلما ارتفعت ببنائك أكثر ، كلما كان سقوطه عظيماً. بعد الأخذ بعين الاعتبار ، التعاريف العلمية للدولة ، والتعاريف العلمية لعناصرها : من حكومة وشعب وإقليم وبالتالي سيادة واعتراف بهذه السيادة ، فإن المحصلة تقول أن الدولة أهمّ كيان لتجمع سياسي يمارس السيادة ، فيصبح السؤال : كيف هو الطريق للوصول بالمغرب ليكون أهمّ كيان لتجمع سياسي يمارس السيادة ؟؟ . هل يمكن أن تنهض في هذا العصر بالرياضة ، دون مؤسسات رياضية ؟ هل يمكن أن تنهض بالبحث العلمي ، دون مؤسسات للبحث العلمي ؟ وهكذا ... هل يمكن أن تنهض بأهم كيان لتجمع سياسيّ ، دون مؤسسات سياسية ؟؟ في راهننا ، وحده النظام ، حتى دون ملحقاته من أحزاب ، هو من يمارس السياسة كمؤسسة ، لكنها في نفس الوقت ، هي مؤسسة السلطة ، وحين لا تكون السلطة ، وهي الأداة الأساسية لتنفيذ العدل ، هي الناتج النهائي للحراك والصراع السياسي الديموقراطي في المجتمع ، فإنها لن تكون أبداً أداة لتنفيذ العدل . من هنا نفهم أن الانقلابات العسكرية ، لا يمكن بحال من الأحوال ، أن تنتج سلطة تكون أداة صالحة لتنفيذ العدل ، ذلك أنها وصلت إلى السلطة ، ليس بفعل الحراك والصراع والتنافس السياسي الديموقراطي ، بل بفعل القوة المادية للسلاح . وبالتالي ، وبناءً عليه ، فإن إدارة أي صراع لإسقاط سلطة ، وإقامة سلطة جديدة ، بفعل القوة المادية للسلاح ، لن ينتج أبداً أداةً صالحة لتنفيذ العدل . وحده الحراك والصراع والتنافس السياسي الديموقراطي ، بين المؤسسات السياسية في المجتمع ، هو الطريق الوحيد لإنتاج السلطة كأداة صالحة لتنفيذ العدل في المجتمع ، وليس من مجتمع آمن ومستقر بدون عدل عام . الإشكال الأكبر في المغرب ، أن التاريخ المعاصر جداً ، لم يسجل ذلك الحراك والصراع والتنافس ، بل العكس . انقلاب أبيض ، توافقت معه الأحزاب في جبهة واحدة ، وحتى بما في ذلك من أحزاب خارج تلك الجبهة ، وبالتالي فقدت كلها حيويتها ، بما فيها الحزب الحاكم هههه ، وذلك بفعل عدم التنافس ، فالحصص مقسومة ، والاستراتيجيات مرسومة ، وصارت السلطة والحكومة والمؤسسات السياسية الحزبية ( وهي لا تستحقّ هذه التسمية ) طرفاً ، والشعب هو الطرف الآخر ، لم يعد بيد الشعب أية وسيلة للتواصل مع السلطة والحكومة ، أدار الطرف الأول ظهره للطرف الثاني ، ومع أول اهتزاز ، وصلنا إلى ما وصلنا إليه . في حال التوافق على إنشاء حكومة وسلطة ، تقوم على قاعدة التنافس والصراع السياسي الديموقراطي ، بين المؤسسات السياسية في المجتمع ، فإن أي ضغوط خارجية أو مؤامرات أو حتى تهديد بالحرب ، هو شيئ في المحصلة النهائية حدث منطقي في حلبة صراع الأمم ، لكن حين تصبّ الضغوط والمؤامرات جام غضبها ، على كيان هو على خصومة مع ذاته ، على دولة ، أهم عناصرها يدير كل واحد فيها ظهره للآخر ، فمن المؤكد أنك لن تدري من أين تأتيك الضربة القاضية . كل الكلام عن الحوار الوطني ، لا يمكن أن يحصل بدون أدوات الحوار الممثلة للشعب ، لم يعد الأمر حدثاً يتوهم ( البعض ) أنه يمكن تجاوزه بدون البناء على قواعد راسخة ، كل من هو حريص على المغرب ، من الحكومة والسلطة والنظام ، من الشعب بمثقفيه ونخبه ومؤسساته القائمة اقتصادية واجتماعية ، عليه أن يبادر إلى الدفع بتشكيل المؤسسات السياسيةالغير مخزنية في المجتمع المغربي ، الدفع لتأسيس الأحزاب السياسية الغير مخزنية ، وحدها هذه المؤسسات ، في حال تكونت ، هي من تعبر عن الغالبية الساحقة من الشعب المغربي ، وبالتالي وحدها هذه المؤسسات المؤهلة للحوار باسم الشعب المغربي ، بغير ذلك : إما الفوضى ، أو العودة لانتظار الجولة القادمة . تقع الفوضى ، ثم المأساة ، حين لا يجد الشعب وسائل شرعية منظمة للتعبير عمّا يريد.