إنها فكرة سهلة في شكلها ومضمونها، لكنها تفضح كسلاً ثقافياً وبدنياً مستحكماً، كسلاً يجعل المرء يفكر مستلقياً على قفاه في الطريقة التي تمكنه من ترميم البناء الذي يكاد يسقط عليه، من دون أن يتحرك من مكانه، إلا بالقدر الذي يسمح له بإرجاع الحجارة إلى الجزء الذي سقطت منه، ويجعله يؤمن، وهو يفعل ذلك، أن هذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ البناء ولإنقاذ نفسه. ولا بأس إذا مضت سنوات طويلة، وهو يحاول ذلك من دون نجاحٍ كبير، لأنه يتصور، في نهاية المطاف، أن بقاءه أطول فترة ممكنة تحت سقف لا يقع، في حد ذاته انتصار على شبح الانهيار، وتجسيد حي لإصلاح، لم يتطلب القيام بعملية بتر مؤلمة، ولم يتطلب، وهذا هو الأهم، إجراء قطيعة حاسمة بين زمن وآخر، بين أمكنة وأخرى. لذلك، ترى المرء يعيش وفق انفصام لا فكاك منه، في أزمنة متضادة وفي أمكنة متناقضة، يخلط الماضي بالحاضر، والمستقبل بالماضي، يعيش في مكان القبيلة الأصل، وفي أمكنة استيهاماته المجنونة، ينتقل بيسر مدهش بين الأنقاض، متصورا أن بقاءه، هنا، لابد أن ينقذ شيئا، لابد أن يعيد البناء كما كان، لأن الأهم دائما هو العودة إلى «ما كنا عليه»، أي إلى تلك الصيغة الباهرة من الوجود التي يشكل أفولها جرحا لا يندمل، وفقدانا لا يعوضه شيء. «رهاب التغيير» يعصف، كل يوم، بخيالنا وبأجسادنا، ويجعلنا مشدودين إلى الأمر الواقع بحبال خوفنا المدمر، نعيش ونموت في علاقات لا نحبها، وفي وظائف لا شغف لنا بها، وفي بيوت نكرهها، في مدن نخاف منها. ولا نتصور أن نستيقظ ذات يوم لنلقي بأنفسنا في قطارٍ نعبر من خلاله إلى شساعة العالم، لا يهم أن تكون الحياة التي سنعثر عليها أفضل أو أسهل، المهم أن نعثر خارج البناء الآيل للسقوط على عناصر لبناء حياة أخرى، لأن مغامرة البناء هي الصيغة الأجمل للحياة. أحيانا، يبدو لي أن الكيانات التي سعت إلى توسيع الجغرافيا، ببناء مجالات موحدة، أو فيدرالية، تلغي الحدود وتفتح الآفاق، قد فعلت ذلك بدوافع إنسانية، وليس بدوافع سياسية بحتة، فالإنسان الذي يبدأ حياته متحرراً من أقفاص الحدود، حرا في الانتقال بين الأقطار والمعارف واللغات والمدن والأحلام، هو الإنسان الأكثر قدرة على غزو المستقبل. وفي المقابل، فإن الكيانات السياسية التي تعتبر أن الخير كله لا يوجد إلا في الداخل، وأن التغيير من الخارج خيانة فكرية وروحية وسياسية، تدفع الناس إلى الهروب نحو الماضي، لأنه يوفر كذاكرة لا حدود لها، الشساعة المفقودة في معيش الحاضر. في كل ما نريد إصلاحه، يهيمن علينا «رهاب التغيير»، فنتصور أن الأمان المؤكد هو في احتفاظنا بالنظام الفاسد، وبالحزب الفاسد، وبالمؤسسة الفاسدة، والسعي إلى إصلاح كل ذلك من الداخل، بأقل ما يمكن من المخاطر والمجازفات، حتى ونحن نعرف أن النظام اللا ديمقراطي لن يقبل أبدا بإصلاحات تؤدي إلى دمقرطته، أي إلى زواله، وأن الحزب الفاسد القائم على الزبائن والولاءات وشراء الأتباع لن يقبل، أبدا، بإصلاح من الداخل، يحوله من «أصل تجاري» إلى فاعل سياسيٍ منتج للأفكار والنخب، وأن المؤسسة القائمة على رفض الكفاءة والاستحقاق والذمة النظيفة لن تقبل، أبدا، بإصلاح من الداخل، يخرجها من منطق «الريع» إلى منطق المصلحة العامة. ومع ذلك، نزين لأنفسنا بشتى أنواع المجاهدات البلاغية «أن الذي تعرفه أحسن من الذي لا تعرفه»، ونحاول تلافي الأرض المحروقة بالإقامة الدائمة في الأرض اليباب، ونقنع أنفسنا بأن التفاوض والتوافق والقبول بالحلول الوسطى أفضل من شد الحبل الذي يشتم المستقبل، وننسى أن هذه القواعد السليمة قواعد مؤسسات وأنظمة وأحزاب غير فاسدة، عندما تطبقها الأطراف المعنية في مقاربة للإصلاح من الداخل، فإن أي طرف لا يستعمل القواعد ليبتلع الآخر، أو لينفيه خارج الإصلاح، وخارج ما يريد إصلاحه. لذلك، تنجح المقاربة في تشغيل الآلة المعطوبة، وفي إنتاج القطائع الضرورية. وطبعاً، هذا الأمر لا يشبه في شيء ما نحاول القيام به أحياناً بسذاجة مذهلة، عندما نركب عجلات جديدة لسيارة سُرق محركها، في محاولة للقيام بإصلاح حكيم وصبور…من الداخل.