سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حبيب المالكي ونرجس الرغاي يتحدثان عن التناوب من الداخل (2) . .المالكي: تعييني رئيسا للمجلس الوطني للشباب والمستقبل لم يكن ممكنا لولا مساندة عبد الرحيم بوعبيد
الكتابُ الذي ننشر ترجمته الكاملة إلى العربية هو- كما أراد له صاحباه (حبيب المالكي ونرجس الرغاي)- ثمرةَ لقاء. لقاء ما بين رجل سياسة وبيْن إعلامية: الأوّل يريد أنْ يقدّم شهادة، والثانية تريد أنْ تفهم. ليس من عادة رجال السياسة أنْ يقدّموا شهاداتهم. قليلون جدا هُم الذين يَقبلون الانصراف إلى تمْرين تقديم الشهادة. ورَغم ذلك، فإنّ تاريخ المغرب المعاصر بإمكانه أن يشكّل تمرينا جيدا للشهادة. فمنذ مستهل التسعينيات، طوى المغرب صفحات مصالحة لم تكن دائما هادئة. إنها مادة رائعة أمام المُنقّبين الذين يرغبون في الذهاب أبعد من الطابع الآنيّ للمعلومةّّّ! كما أنّ هذا الكتاب هو كذلك ثمرة رغبة ملحّة في الفهم، فهم هذا الحُلم المقطوع التمثّل في التناوب التوافقي الذي دشّنه الوزير الأول السابق المنتمي إلى اليسار، عبد الرحمان اليوسفي. وهو أيضا رغبة في فهم ذلك الإحساس بالطَّعْم غير المكتمل للتناوب الديمقراطي. } من بين هذه المجالس، هناك إذن «المجلس الوطني للشباب والمستقبل». وقد فكر فيكَ الحسن الثاني أنت بالضبط، ثم عيّنك أمينا عاما عليه. وقتها لم تكن العلاقة بين الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والحكم على ما يرام. كيف جرى ذلك؟ وكيف بلغك الاقتراح؟ ثم كيف فكّرت في الأمر؟ لا ينبغي أنْ ننسى بأننا كنا في التسْعينيّات، وهي فترة جد متوترة طبعتْها حركة اجتماعية صلبة ومكافحة. ومن بين الظواهر الجديدة التي لم يسبق للمغرب أنْ عرفها في الماضي هي ظهور بطالة الشباب الحاصل على الشهادات. وقد كانتْ وسيلة لتحْسيس جميع الفاعلين بمسؤوليتهم. إنّ بطالة الشباب الحاصل على الشهادات، هي نتاج منظومة التربية والتكوين، وهي نتاج على الخصوص للسياسة الاقتصادية والاجتماعية المتّبعة، غيْر أنّ الرّدّ يجب أن يكون وطنيّا. وأظنّ أن الحسن الثاني بهذه الطريقة فتح فجْوة سمحت له بفتح حوار، بصورة مباشرة أو غير مباشرة مع الجميع، وبخاصة مع الشباب. } وكان يتيعيّن إذن تعيين وجْه من وجوه المعارضة على رأس هذه المؤسّسة المكلّفة بتشغيل الشباب؟ كان ينبغي قلْب العادات القائمة، وزعزعة الرّتابة، والبحث عن حلّ جديد، لا عن حلّ كلاسيكيّ يمرّ عبْر الحكومة، التي لم تكن في وضعية سهلة. وقد كان لعبد الرحيم بوعبيد حسّ استباق الذات وتجاوزها في المنعطفات الحاسمة. وقد ساندني لأنني طلبتُ موافقته. } لكنْ، كيف طلب منك الحسن الثاني هذا الأمر؟ هل أرسل إليْك مبعوثا خاصا؟ المبعوث أُرْسل إلى عبد الرحيم بوعبيد، وكان هذا المبعوث هو إدريس البصري، الذي كان قد اتّصل بعبد الرحيم من أجل أنْ أتحمّل هذه المسؤولية. وكان اتصالي الثاني بعبد الرحيم بوعبيد قد انتهى بموافقته. وقْتها، كان هذا سلوكا يفرض نفسه بحكم أن الحزبَ كان في المعارضة. وبقدر ما ساندني، فإنّ بوعبيد، باعتباره رجل سياسة يقظ، عبّر عن حذَر شديد في الوقت ذاته. وكانت النقاشات التي خُضناها معاٌ تنصبّ بالأساس على الشباب، وعلى دوره في سياق التحوّلات التي ترتسم في الأفق. غير أنه ذكّرني في الآن نفسه بأنّ العلاقات مع الجهاز التنفيذي لنْ تكون سهلة. } هل هذه طريقة يقول لك من خلالها : «اذهبْ، لكنْ استعدّ أنْ تغادر»؟ هذا صحيح بصيغة من الصّيغ. لقد نصحني في الحقيقة بتوخّي الحيطة والحذر بسبب موقف الحكومة، وقراءته لدوْر الجهاز التنفيذي أنذاك. كان يستشعر بأن الحكومة لنْ تنخرط في هذا المشروع. بحيث يصعب عليها فهم رهانات هذه المؤسسة الجديدة التي هي «المجلس الاستشاري للشباب والمستقبل». وهو المجلس الذي كان يُنْظَر إليه كأنه سيشغل الفضاء الخاصّ بالحكومة. ولهذا السبب، فإنّ جميع مناقشاتي مع عبد الرحيم بوعبيد انصبّت على هذه المسألة بالظبط. ولم يكن يتوقّف عن ترديد العبارة التالية :»يجب أن تتحمّل الحكومة كلّ مسؤولياتها، وأنتَ من جانبك، يجب أن تهيّء إجراءات ملموسة لا تطرح إمكانية تطبيقها أيّة مشكلة»، ليضيف بأننا «باعتبارنا مسؤولين عن «المجلس الوطني للشباب والمستقبل»، ينبغي أنْ نكونَ هيْئة عمَلية بنوعيّة المقترحات التي نقدّمها، وذلك حتّى لا نقول يوما بأنّ ثمّة مشكل الإمكانيات». ولم يكن عزّ الدين العراقي، الوزير الأوّل آنذاك، ينظر بعيْن الارتياح إلى «المجلس الوطني للشباب والمستقبل». وبمناسبة الدورة الأولى للمجلس، التي انعقدتْ بالبرلمان، اعترض العراقي على إعلان مشروع ميثاق حول الموارد البشرية من شأنه الإجابة على الأسئلة التالية: كيف يمكن تدبير الموارد البشرية بالمغرب؟ كيف يمكن تحقيق ترْشيد أفضل؟ ما السبيل إلى تعبئة الموارد البشرية من أجل انخراط الجميع؟ ولقد رأى عز الدّين العراقي في هذا المشروع نوعا من النّقد موجّه إلى عمل الحكومة التي يقودها. كان هذا هو الحادث الأول الذي جرى في الدورة الأولى للمجلس الوطني للشباب والمستقبل، والتي كانتْ تتعلّق بمسألة دقيقة، أيْ بالموارد البشرية في بلادنا. } ماذا قلتّ في قرارة نفسكَ في تلك اللحظة بالذات؟ هل قلتَ بأن المشاكل قد بدأتْ بالكاد؟ أجل، كانت المشاكل بالكاد قد بدات، غيْر أنني كنتُ دائما أحظى بالثقة التي كان يعبّر لي عنها الحسن الثاني. كان يدعم بكيفية مستمرّة العمل الذي شرعنا فيه. كما كان هناك أيضا دعْم عدة مكوّنات في المجلس، أيْ المكوّنات الأكثر حساسية، أقصد الشباب والنقابات والمُنتَخَبين. } حين استقبلكَ الحسن الثاني، بمناسبة تعيينكَ على رأس المجلس، ماذا قال لكَ؟ وما هي الذكرى التي تحتفظ بها عن هذا الاستقبال الملكي؟ هل ما زلتَ تحتفظ في ذاكرتكَ ببعض الجمل في صورة رسائل من الملك الراحل؟ كان الحسن الثاني يريد أستاذا جامعيّا ملتزما، له معرفة بالواقع، ويحظى بثقته، وله القدرة على فتح مسالك جديدة للتفكير من شأنها أنْ تفضي إلى تقديم مقترحات ملموسة. وقد ذكّرني بأنه خلال الفترة التي كنتُ فيها أستاذا للأمير مولاي رشيد، في مادة الاقتصاد السياسي، لاحظ إلى أيّ حدّ كنتُ مقتنعا بأفكاري. هذه على وجْه التقريب هي الكلمات التي تلفّظَ بها الحسن الثاني، والتي ما تزال عالقة بذهني إلى اليوم. وقْتَها، سعى الملك بكلّ تأكيد إلى مضاعفة قنوات الاتصال مع هيئتنا السياسية. وبالنسبة لي، فقد كنتُ منضبطا. } هل أثار تعيينكَ على رأس «المجلس الوطني للشباب والمستقبل» جدلا داخل الحزب؟ حصلتَ على دعم عبد الرحيم بوعبيد، لكن كيفَ كان ردّ فعل المناضلين والقياديين والجهاز الحزبيّ؟ بالنسبة لي، كان تحمّل المسؤولية رهانا محفوفا بالمخاطر، وكان من الصعوبة بمكان إنجاح هذا الرهان بدون مساندة من الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد. وهذا الاشتراط المتعلق بقبول العرض المَلكيّ عبْر الإدارة لم يكن أمْرا مألوفا. وقد أثار نقاشا في صفوف الحزب وأجهزته. وهكذا، فإن الذين كانوا منخرطين في دينامية التغيير وافقوا، أما الذين كانوا يعتبرون بأنّ المهمة التاريخية للاتحاد الاشتراكي تكمُنُ في لعب دوْر المعارضة كاملا فقد اعترضوا. والخلافُ ذاته فرَضَ نفسه حين شرعنا في مناقشة الموقف الذي يتعيّن اتخاذه بشأن الاستفتاء المتعلق بدستور سنة 1996، وظهر بصورة أكثر حدّة حين طرحنا للنقاش مسألة قبول مشاركة الحزب في حكومة 1998. } هل خامركَ وقتها إحساس بأنك أصبحت من أصحاب المشاركة قبل الأوان؟ هل كان لديكَ إحساس بأنك فتحت الطريق إلى حدّ ما، مع كل ما يمكن أنْ ينطويَ عليه ذلك من تبعات؟ لقد قررت بأن أذهب في هذا الرهان إلى نهايته، متحملا هذه المجازفة رغم تبعاته غير المتوقّعة. كانت تلزم الجرأة! لكن الجرأة بدعم من الإدارة من أجل الدخول بشكل مفيد في المشروع. فبدون مساندة الإدارة، لنْ تكتسي العملية أيّ معنى سياسي. إنه مجازفة في السياسة. يجب على المرء ان يعرف كيف يقوم ببعض المجازفات من أجل المصلحة العامة. إن التمسّك بالمواقف السهلة، فضلا عن نزعة المحافظة، لم يكن من شأنهما أن يفضيا إلى الذهاب أبعد. في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، كان العالم يعيش حالة غلَيان. وفي كلّ جهات المعمور كانت الاهتزازات تعمل على تشكيل ما سيكون عليه النظام العالمي والأنظمة الجهوية والوطنية. وأعتقد بأن الكتلة، وجميع العمليات التي صاحبتها، علاوة على المناخ الذي خُلق حول الكتلة الدّيمقراطية، كل هذا مهّد الطريق التي سمحت للمغرب بتجاوز أزمات من الخطورة بمكان. } لنَعُدْ إلى المجلس الوطني للشباب والمستقبل، الذي حاولت من خلاله، صحبة فريقك، ترسيخ طريقة جديدة للعمل، وللتفكير في إشكالية الشباب. شباب مصدوم، ومنهك، وبدون آفاق كبيرة. وفي الوقت ذاته، فإنّ حساب الماضي لم يكن قد صُفّي بالكامل. فهل تمكنتَ من تدبير الثنائية التالية: إنجاز شيء ما مع الشباب، والاشتغال مع المخزن؟ في وذلك الوقت، تحدث الناس كثيرا عن الخيانة بشأنك؟ كيف دبّرت هذا؟ وكيف عشته؟ كان العمل في اتجاه الشباب يندرج في إطار عملية شمولية. ولا ينبغي أنْ ننسى العمل الذي كان قد شرع فيه «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان». إن المرحلة الأولى من المصالحة الوطنية تعود إلى هذه الفترة بالضبط. ولم يكن الإعفاء التام عن المعتقلين السياسيين سنة 1994 معزولا عن العمل الذي قام به هذا المجلس. وبتزامن مع ذلك، كانت اللجنة المكلفة بالحوار الاجتماعيّ توفّر إطارا مؤسساتيا من أجل إجراء حوار اجتماعي منتج. كان الأمر إذن يتعلق بمناخ جديد، وبمُحيط جديد، وبقواعد لعب جديدة. لهذا السبب، فإنّ الوظيفة الاستشارية طيلة التسعينيات ( بل أقول «السلطة الاستشارية»، بدون أنْ تنطوي هذه العبارة على أيّ تناقض) نجحتْ في تيسير المسار الذي أفضى إلى الإصلاح الدستوري سنة 1996، وإلى الانتخابات التشريعية لسنة 1997، التي تعرّضتْ نتائجها لانتقادات، غير أنّ الجميع رضيَ بها بشكل أو بآخر، والتي على أساسها تمّ تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أوّلا لحكومة التناوب سنة 1998. لقد لعبت السلطة الاستشارية في بلادنا دوْرا جوهريا طيلة هذه المرحلة. وبما أنني كنتُ فاعلا من الداخل، وبالنظر إلى النتائج التي حصلنا عليها في مجال حقوق الإنسان، والحوار الاجتماعي، وسياسة الإصلاحات من خلال دستور 1996، ومجيء حكومة التناوب، فإنني أعتبر الرهان قد كُسبَ. } تتحدث عن الرهان الذي أخذته على عاتقك. الآن، وبعد مرور عشرين سنة على إنشاء «المجلس الوطني للشباب والمستقبل»، ماذا تبقّى لديك منها؟ البعض يتحدث عن إخفاق كبير، وتبذير هائل. فماذا أسّس العمل الذي قمت به؟ في المقام الأوّل، كان يتعيّن، شرح الرهانات الاقتصادية والسوسية-ثقافية التي كانت تطبع الشبيبة المغربية خلال هذه المرحلة. لم يكن ثمة أي اهتمام خاص بالشباب خارج التنظيمات الشبابية التي كانت تؤدي وظيفتها كاملة والتي كانت منتسبة إلى أهمّ الأحزاب الوطنية الديمقراطية. وفي المقام الثاني، تلبية رغبات الشباب تستدعي القيام بإصلاحات عميقة في جميع الميادين. هنا تكمن الرسالة الكبرى التي نجح المجلس في تبليغها. القيام بإصلاحات في جميع الميادين: في التربية والتكوين؛ في المقاولة سواء أكانت عمومية أم خصوصية، من هنا مفهوم المقاولة المواطنة الذي اعتمدناه آنذاك؛ في إحداث تغييرات على مستوى عدّتنا التشريعية بهدف تشجيع توظيف الشباب من خلال إجراءات ضريبية تحفيزيّة؛ في إعداد قانون شغل يكون أكثر ملاءمة؛ وفي إعداد التراب الوطني. جميع هذه الخطوات كانتْ تتضمنها كلّ التدابير التي عملنا على بلْوَرَتها بمناسبة انعقاد عشرات الدورات التي انصبّتْ على موضوعات ما فتئتْ تنطوي على راهنية كبيرة: ندوة «الجهة والجهوية» المنعقدة بمدينة العيون سنة 1995، ندوة «تنمية الأقاليم الشمالية» المنعقدة بالحسيمة سنة 1996، «إصلاح منظومة التربية والتكوين»، ندوة «الشباب وإنشاء المقاولات»، «الشباب والتشغيل في الوسط القروي». هنا يكمن بنك حقيقيّ من المقترحات والتدابير والمشروعات التي لم تُؤخذ جميعها بعين الاعتبار. } هل توجد إمكانية ما لكي يُعاد أخذ بعض من هذه التدابير بعين الاعتبار اليوم؟ لقد أُخذَ بعضها فعلا في الاعتبار، وخصوصا ما يتعلق بإصلاح منظومة التربية والتكوين. فبضل التشخيص الذي أجريناه، ومشروع الإصلاح الذي أعددناه، في إطار أشغال المجلس، تمكّنّا من تشكيل هذه اللجنة الموسّعة التي عكفتْ على إصلاح منظومة التعليم. لا بدّ، في رأيي، من فهم أن كلّ ما يتعلق بالشباب، يمرّ بالضرورة عبْر القيام بإصلاحات عميقة. هناكَ التباس في ذهن الكثيرين بشأْن المهمّة التي أوكلتْ إلى «المجلس الوطني للشباب والمستقبل». فقد كان البعض آنذاك يعتبره وكالة للتشغيل، في حين أن المجلس هو هيئة استشارية. فهو لا يقوم مقام الحكومة، التي هي جهاز تنفيذي، ولا يقوم مقام البرلمان الذي هو جهاز تشريعيّ. وإذن، فإنّ هذا اللبْس، مع ما صاحبه من مُضمرات، هو الذي يفسّر الأحكام التي وجّهها البعض إلى الأعمال التي أنجزها المجلس، وإلى النتائج التي توصل إليها. وقد كانت الدورة الأخيرة حول «مغرب التغيير واختيارات المستقبل» بمثابة عملية تركيب لكل ما أنجزناه خلال السنوات الماضية، لكن مع استشراف ما ينبغي أن يكون عليه المغرب في السنوات القادمة. وق ابتكرنا معجما جديدا، مثل «الأوراش الكبرى»، «اختيارات المستقبل»، «الانفتاح». وكان معجما جديدا غير مسبوق، لا نجده في الخطاب السياسي ولا في الخطاب الاجتماعيّ. } كنتم تخاطبون مَن؟ هل كنتم تخاطبون الأحزاب السياسية؟ أم الحسن الثاني؟ بهذه المفاهيم الجديدة، وهذه الدعوات إلى الإصْلاح، مَن كان مخاطبكم؟ كنا نُخاطب المجتمع بجميع مكوّناته. وبصورة أدق، كنا نخاطب الفاعلين السياسييّن والاجتماعييّن والاقتصادييّن. فَعَبْر «المجلس الوطني للشباب والمستقبل»، كنا نقول: «لقد حان وقت الإصلاح. والشيء نفسه مع «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان» على وجه الخصوص. إنها الضرورة الأخلاقية والضرورة السياسية وضرورة المواطنة التي تقتضي بألاّ يظلّ المرء أسيرا لأخْطاء الماضي وإكراهاته، بل ينبغي أنْ يتحرّر منه من أجل استشراف المستقبل. ولهذا السبب تمكّنتْ سائر هذه المؤسسات من تأسيس ثقافة جديدة لم تكن موجودة في الماضي: ثقافة التعرّف على بعضنا البعض. هلْ تعلمين بأنّه إلى حدود نهاية الثمانينيات، لم يكن الفاعلون الأساسيّون يعرفون بعضهم البعض بشكل مباشر، ولم يكونوا يتكلمون مع بعضهم البعض، ولم يكونوا يتحمّلون بعضهم البعض؟ كانوا بتعبير آخر، يعملون على إقصاء بعضهم البعض. كان الإقصاء، في الحقيقة، هو الثقافة والعقلية السّائدتيْن!. لقد وضع كلّ من «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان» و»المجلس الوطني للشباب والمستقبل» أسُسَ ثقافة جديدة، أيْ ثقافة الحوار والتفاهم والإنصات بهدف الوصول إلى بلورة المقترحات الأكثر ملاءمة، على أساس توافقي، والكفيلة بالذهاب في اتجاه الإصلاح. فَقَبْل إنشاء «المجلس الوطني للشباب والمستقبل»، لم يكنْ أحد يتصوّر يوما ما جلوس الشباب أمام أرباب العمل، وأمام المُنتخبين المحلّيين والبرلمانييّن. إنّ وجود شباب يناقش مع أعضاء الحكومة مشاكلهم، كان أمرا جديدا كلّ الجدّة! وقد سمحت هذه الثقافة الجديدة للجميع بالتعرّف على بعضهم البعض. وانطلاقا من هذه التجربة، تمكّن الكثيرون من الشعور بوجود نقط التقاء مشتركة، وقواسم مُوحّدة، ومن الشعور بأنّ الرأي دائما هو شيء مشترَك. لقد استطعنا بالفعل أنْ نجعل من المجلس الوطني مُختبرا لشيء جديد هو الذي هيّأ وخلق شروط المساهمة في تنقية الأجْواء. إنّ مضاعفةَ قنوات التواصل، من خلال اتّصالات منظّمة، هي الوسيلة المثلى لبثّ الروح في المجتمع المغربي الذي كان وقتها على حافة الاختناق. } وفي الجانب الآخر، أيْ جانب السلطة والقصْر، كيف كانت نظرتهما إلى هذا العمل المُنجَز؟ هل أحسستَ بأنّ السلطة كانت مستعدة للإصلاح؟ وأنها سوف تنخرط في اتجاه التغيير؟ كان الحسنُ الثاني يحرص، عند نهاية كلّ دورة من دورات «المجلس الوطني للشباب والمستقبل»، على أنْ يقوم عبد اللطيف العراقي، بصفته رئيسا للدورة، وأنا شخصيا، بصفتي أمينا عاما للمجلس، بتقديم النتائج إليه، وإخباره بما جرى. وغالبا ما كان يسألنا عن الأولويات، وعن التدابير التي تبدو لنا أكثر أهمية من حيث الإنجاز. لقد كان دعم الحسن الثاني لعمل المجلس دعما ملموسا وفعليّا طيلة تلك المرحلة. } لكن بالنسبة للإصلاح، هلْ لمستَ لدى الحسن الثاني استعداداً للقيام به؟ الدليلُ على ذلك هو أننا عشْنا منعطفا في تاريخ المغرب المستقلّ. ففي سنة 1998، عُيّنَ عبد الرحمان اليوسفي على رأس حكومة التناوب. وبقدر ما كان اليوسفي رجلَ الانفتاح على المشاركة في الحكم، بقدر ما كان عبد الرحيم بوعبيد هو مهندس العملية الديمقراطية، وخصوصا منذ مؤتمرنا الاستثنائي المنعقد سنة 1975. } لقد عرف عقد التسعينيات كذلك وفاة الزعيم عبد الرحيم بوعبيد. وقد كانت مراسيم دفنه شعبية، كما رافقته جماهير غفيرة إلى مثواه الأخير. ما هو الدور الذي لعبته، في نهاية المطاف، وفاة ومراسيم دفن الزعيم بوعبيد في ذَوَبان الجليد بين الحُْكم والمعارضة؟ لا ينبغي أنْ ننسى بأنّ الحسن الثاني كانَ قد أشاد بعبد الرحيم بوعبيد بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية في أكتوبر 1991. ففي سياق إلقائه لكلمته، التفت الملك في اتجاه المقعد الذي اعتاد أن يجلس عليه الزعيم الرّاحل. وتذكرين أنّ جماهير غفيرة رافقتْ بوعبيد إلى مثواه الأخير. وقد كانت هذه، بالنسبة للمغاربة، طريقة للتعبير عن تعلّقهم بواحد من أهمّ رموزهم. أي تعلقهم برجل ديمقراطيّ قاوم كلّ أنواع الانحرافات في المجال السياسي، وندّد بها وحاربها. لقد ظلّ بوعبيد وفيّا للمثال الديمقراطي. ولم يكنْ هناك، بالنسبة له، فصلٌ بين الأخلاق والسياسة. كان حاملا لمشروع حداثيّ سواء على مستوى المؤسّسات أو على مستوى الحزب. إنّ التكريم الذي حظيَ به بالإجماع من طرف أصدقائه، وحتى من طرف خصومه، وَهُمْ كُثُر، ليس غريبا عمّا عرفه المغرب خلال عقد التسعينيات. } كانَ الناس يتحدثون فعلا عن الزعيم الشعبي عبد الرحيم بوعبيد وهم يتابعون مراسيم الدفن. أودّ أن أضيف هنا استطرادا صغيرا: هل يمكننا اليوم تصوّر بروز زعماء لهم نفس الشعبية؟ ما الذي تغير في مفهوم الزعامة؟ هل هناك مشكل يتعلق بالكاريزمية؟ الزُّعماء لا يهبطون من السماء! بل إنّ الشروط التاريخية هي التي تفرز قادة تاريخييّن. المرحلة الحالية هي مرحلة إدارة وتدبير. ذلك أنّ طبيعة المشاكل تختلفُ اختلافا جذريا بالقياس إلى ما عاشه المغربُ منذ ثلاثينيات القرن الماضي. ينبغي أنْ نقبل بذلك، هناك بالفعل أزمة زعامة، إلا أنّ أزمات التحوّل التي نعيشها من شأنها إفراز مواصفات جديدة لقائد يستطيع الاستجابة أكثر إلى العصر، وإلى متطلبات الواقع الحالي. } هل ما زال بإمكان رجال السياسة أنْ يُصبحوا أبطالا؟ لكن ما هو البطل؟ هل البطل هو الشخص الذي يقطع السباق بمفرده؟ البطل وحيد بطبيعته. وإذا حدّدنا البطل بواسطة الزعيم والقائد المتشدد على صعيد المبادئ وعلى الصعيد الأخلاقي، نعم سيبرز هذا البطل يوما ما. أما إذا حدّدنا البطل بمعناه الإغْريقي، الذي يعني الشهيد، فلا أتصور بأنّ رجال السياسة سيصبحون أبطالا. فالبطل، بالمعنى التراجيدي الإغريقي، يمثّل مرجعا لا ينبغي نسيانه. } لنرجعْ إلى هذا العقد، عقد التسعينيات، الذي جعل كل شيئ ممكنا. كان هناك العفو الشامل، بناء على توصية من «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان» آنذاك. وأصبحَ التواصل مع المعارضة ممكنا. فهل في هذه اللحظة فكّر الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في المشاركة في الحكم؟ وهل كانت هذه هي البدايات والخطوات الأولى نحو التناوب؟ كانتْ سنة 1998 تتويجا. كانت تتويجا لذلك المسار الذي انطلق مع الكتلة، وبإنشاء الهيئات الاستشارية والدور الذي لعبته، وبالتصويت الإيجابي على الاستفتاء المتعلق بإصلاح الدستور سنة 1996، وتهييء انتخابات 1997، وأخيرا محطة 1998. وحدهم الذين لا يتوفّرون على الحسّ السياسي، ووحدهم قصار النظر، بالمعنى السياسي للكلمة، لم يستشعروا ما كان يَعدُ به عقد التسعينيات. لقد كانت المعالم الأُولى تكمن مسبقا فيه. } وداخل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كيف عشتم هذه البوادر الأولى؟ هل كان هناك كذلك قصار النظر؟ لنْ أقول بوجود قصار النّظر داخل الاتحاد الاشتراكي، بقدر ما كان هناك بالأحرى بعض الحزبييّن الذين لهم رؤية ملتصقة بالماضي، بماض مجيد وبطوليّ، ولم تكن لديهم الثقة . لقد كانت السياسة في المغرب موسومة كثيرا بالحذر والتّهيّب الشديد، وذلك بسبب عدم احترام قواعد اللعب. ولا يجب أنْ ننسى بأنّ الاتحاد الاشتراكي كان طيلة عقود ضحيّة محاولات تهميش متعددة. كما لا ينبغي أنْ ننسى بأن الاتحاد الاشتراكي قد تحمّل العبء الثقيل لجميع الحملات القمعيّة التي عرفها المغرب. لقد كان لمدّة طويلة حزبا معرّضا للتنكيل والتعذيب. وبالتالي فإنّ مَنْ عاش كل هذا داخل الحزب لا يمكنه إلا أن يكون حذرا. بل يمكنني القول بأن الأمور لم تكن لتسير مثلما كنا نتمنّى، لكن في لحظة أو في أخرى يجب على القائد السياسي أنْ يعرف كيف يجازف، وخصوصا حين تكون بلاده معرّضة للخطر. وقد كان المغرب على حافة انفجار داخليّ. وكان الحسن الثاني قد تحدّث بصورة مجازية عن خطر السّكتة القلْبية. وينبغي الاعترافُ اليوم بكوْن عبد الرحمان اليوسفي قد اتخذ، بعد سلسلة مناقشات مع أجهزة الحزب، قراراً في منتهى الشجاعة، قراراً يقوم على فتح صفحة جديدة هي صفحة الأمل. غيْر أنّ مثل هذا القرار لم يكن بالأمر الهيّن، لأنّ اليوسفي رجُلٌ خَبَرَ المقاومة، رجل حُكمَ عليه بالإعدام، رجل عاش غربة المنفى. وبالتالي فإنّ قرار طيّ الصفحة والمشاركة في الحكم لا يمكنه أن يكون إلاّ قراراً مُفكّرا فيه برويّة وتأنّ. في الحقيقة كانتْ أمامكم سنوات لاتخاذ مثل هذا القرار، كان أمامكم عَقد بكامله... كانتْ هناك عمليّة إنضاج هي التي سمحتْ باختبار الإرادة السياسية للجميع، وأظنّ بأنّ منطق المصلحة العامّة هو الذي تغلّب خلال هذه المرحلة. لقد تصرّف عبد الرحمان اليوسفي كرَجُل وطنيّ، وكرجل دولة. غيْر أنّ الحزب لمْ يساير ذلك مسايرة كاملة.