يثور فى هذه الأسابيع الحديث فى الصحف عن التحقيق مع عدد من القضاة بتهمة الاشتغال بالسياسة، وتتداول الأخبار فى الإعلام عن تواصل التحقيق، وان وزارة العدل تستبعد المحَقّق معهم من الترقيات انتظارا لنتيجة التحقيق، بمعنى أن الوزارة تفرض العقوبة قبل أن تحدد الاتهام وقبل أن تتبين التهمة وقبل أن يفصل مجلس التأديب فى مدى ثبوتها على من تثبت عليه، وهذا المسلك إن صح يكون فيه ما فيه من انكشاف عدم الحيدة فى مسلك الوزارة تجاه من تجرى معهم التحقيق، وفيه ما فيه من سبق اتخاذ القرار قبل ثبوت ارتكاب العمل المحظور.
يقال إن عدد هؤلاء القضاة يبلغ مائتى قاضٍ وعضو نيابة عامة، وقيل ان ثمة خمسة وسبعين قاضيا كانوا وقعوا بيانا وصف أحداث 3 يوليو 2013 بأنها انقلاب عسكرى. وطالب بعودة دستور 2012 المستفتى عليه شعبيا، وأثير عن بعض القضاة هؤلاء أنه «يتحدث فى السياسة»، وقيل عن بعضهم إنه شارك فى تجمعات «رابعة العدوية» وغير ذلك (يراجع على سبيل المثال، صحيفة الأخبار فى 25 أغسطس 2013).
والحاصل أن هذا الحدث الذى يجرى فى أيامنا هذه يستحق التعليق عليه والنظر فى مؤداه، مادامت تداولته وسائل الإعلام. ونحن كمواطنين نحرص كل الحرص على أن يبقى القضاء المصرى ورجاله بعيدين عن محاولات التهديد والتخويف، وأن ما يجرح اطمئنان أى قاضٍ من مسلك السلطة العامة، يتعين أن ننظر إليه بقلق شديد لما قد يثيره من أثر فى زعزعة استقلال القضاة وحصاناتهم.
والحاصل أن أول ما نراه يمثل افتئاتا على ضمانات القضاة قبل ثبوت تهمة وقبل صدور قرار إدانة وقبل التحقق من مدى حدوث أى فعل محظور، الحاصل أن ما يمثل هذا الافتئات هو ما صدر عن نادى القضاة ذاته عندما فصل عددا من هؤلاء القضاة من عضويته، حسبما ذكرت الصحف السيارة، وبالغ فى الأمر بذكر أنه سيسحب من هؤلاء القضاة ما كانوا حصلوا عليه بموجب عضويتهم بالنادى من مزايا. وأنا لا أعرف بأى قانون وبأى حق وبأية سلطة جنائية أو تأديبية أو مدنية، يستطيع النادى أن يسحب ما سبق ان حصل عليه عضو فيه، سواء من الخدمات كالعلاج مثلا أو من السلع الاستهلاكية، أو من الحقوق العينية التى حازها العضو امتلاكا أو انتفاعا مقررا. كما أننى لا أعرف أن للنادى سلطة تأديبية على أعضائه القضاة مثلما تملكه جهة العمل الرسمية حسب قانون السلطة القضائية.
على أن هذا الذى قيل هو أهون الآثار، ونحن نعلق عليه لأنه من شأنه أن يسىء إلى الجهة التى تتخذ مثل هذه القرارات العامة على مَن لم يثبت عليهم ما نسب إليهم. وأن ما يهم هو المركز القانونى لهؤلاء السادة القضاة فى وظائفهم القضائية، ومعرفة ما إذا كان ما ينسب إلى أى منهم من شأنه ان يعتبر إخلالا بواجبات وظيفته القضائية أم لا، وذلك حسبما نظمت ذلك قوانين السلطة القضائية وحسب معرفة سوابق العمل القضائى وأعرافه السارية منذ أجيال الآباء العظام لنا فى هذه الهيئة حتى الآن.
(2)
لنتجاوز أفعال النادى التى لا تمس المركز القانونى لشاغل الوظيفة القضائية، ولا المسئوليات الحقيقية له، مما تنحصر ولاية النظر فيه على التفتيش القضائى طبقا لقانون السلطة القضائية، ومدى ما يلزمه به من واجبات يتعين التقيد بها ومراعاتها، وهى المسئوليات التى يجرى تحريكها الآن. وأن فحوى ما يجرى تحريكه الآن ضد هؤلاء القضاة هو ما إذا كان ما ينسب إليهم من أفعال، ان ثبت يقينا تحققها فى أى منهم، يعتبر ذا صلة بنشاط سياسى ممنوع على القضاة أم لا.
والحاصل ان المادة 73 من قانون السلطة القضائية الصادر به القانون رقم 46 لسنة 1972، والسارية أحكامه الآن، قد أوضحت بأسلوب قانونى بالغ الدقة والتركيز، ما هو ممنوع على القضاء والقضاة بشأن السياسة. فقد نصت هذه المادة فى فقرتها الأولى على ان «يحظر على المحاكم إبداء الآراء السياسية»، ونصت فى فقرتها الثانية على ان «يحظر كذلك على القضاة الاشتغال بالعمل السياسى، ولا يجوز لهم الترشح لانتخابات مجلس الشعب أو الهيئات الإقليمية أو التنظيمات السياسية إلا بعد تقديم استقالاتهم».
وأن المفارقة بين عبارتى النصين الواردين فى هاتين الفقرتين يوضح مفهوم كل منهما، فالمحاكم محظور عليها «إبداء الرأى» فى المسائل السياسية. والمحاكم يتمثل عملها فى الجلسات التى تعقدها وفى الأحكام التى تصدرها. ففى هذين المجالين محظور إبداء الرأى فى الأمور السياسية، بمعنى ألا تشمل جلسات المحاكم ولا الأحكام الصادرة ولا الأسباب التى تبنى عليها الأحكام، لا إبداء رأى يتعلق بأمور السياسة. أما المحظور الثانى فهو يتعلق بالقضاة بذواتهم وليس بأعمال المحاكم فقط، أى يتعلق بممارسات القاضى وأنشطته السلوكية فى حياته كلها، داخل المحكمة وخارجها، وذلك ما بقى شخصا يتولى ولاية القضاء، وان المحظور على القاضى فى هذا الشأن ليس مجرد إبداء الرأى فى المسائل السياسية، ولكن المحظور هو «الاشتغال بالعمل السياسى». والقانون هنا دقيق فى تحديد ماهية الفعل المحظور وفى تبيان من يقع عليه الحظر، إبداء الرأى السياسى محظور على القاضى فى الجلسات وفى الأحكام التى يصدرها والأسباب التى يحررها. أما فى خارج هذا الإطار فالمحظور عليه هو «الاشتغال بالعمل السياسى».
(3)
ضرب المشرع مثلا للاشتغال بالعمل السياسى، وهو الترشح للمجالس النيابية والتنظيمات السياسية وأورد حكم ذلك فى النص التشريعى ذاته، وهى أمثلة تفيد مقصود المشرع من عبارة «الاشتغال بالعمل»، فهى تتعلق بانتماء أو انتساب أو طلب انتماء أو طلب انتساب أو اندراج فى إحدى المؤسسات التى تعمل بالسياسة، مثل المجالس النيابية أو التنظيمات السياسية، وهى لا تعنى محض ممارسة لعمل ذى شأن سياسى، كإبداء رأى، أو كممارسة حق التصويت فى الانتخابات للمجالس النياية. ولا شك أن ممارسة حق التصويت فى انتخابات هذه المجالس هو نوع من إبداء الرأى السياسى فى تشكيل ذى طبيعة سياسية. ولم يقل أحد إن هذا الأمر ممنوع عن القضاة.
إن الاشتغال بالعمل السياسى المحظور على القضاة، يتعلق بنوع عمل مقصود يجرى على سبيل العادة والدأب ويتخذه الشخص ديدنا له كما تقول معاجم اللغة العربية بالنسبة لما يماثله من اشتقاق لغوى كالاحتراف واتخاذ المهنة، أى يكون عملا له قدر معتبر من الاستمرار والتتابع. وهو بهذه الصفة إن كان يتعلق بالسياسة، فيكون من شأنه ان يدخل القاضى فى تحيزات وارتباطات مع أطراف وفى خصومات مع أطراف أخرى، حسبما تملى العملية السياسية مما يجرح لدى القاضى ما يتعين أن يتصف به من حياد وتوازن بين من عسى ان يحتمل ان يمثل امامه من متخاصمين ذوى توجهات مختلفة. وهو ما يُفضى بالقاضى فى ممارساته الحياتية إلى نوع من الانتماء لجماعة معينة أو تنظيم معين أو مؤسسة غير قضائية ولا تقتصر على القضاة.
أما محض إبداء الرأى السياسى أو غير السياسى، فهو لا يعتبر بذاته اشتغالا بالسياسة. بدليل ما سبق ذكره من أنه لا شبهة فى ان القاضى بوصفه مواطنا له أن يمارس حق التصويت فى الانتخابات والاستفتاءات السياسية، كما أنه فى غير عمله القضائى، له أن يكتب ما يشاء من دراسات تاريخية وفيها نوع من إبداء الرأى فى شئون سياسية، أو دراسات اجتماعية أو غيرها مما قد يكون له وجه تعلق بالشأن السياسى. لأن ذلك لا يدخله فى تحزُّب معين ولا فى تشكل مؤسسى يملى عليه انتماء أو اندراجا فى تكوين سياسى.
(4)
وثمة نص آخر ورد بقانون السلطة القضائية، هو نص المادة 72، وهو يمنع القاضى من القيام «بأى عمل تجارى» ولا «أى عمل لا يتفق مع استقلال القضاء وكرامته»، وأجاز هذا النص للمجلس الأعلى للقضاء ان يقرر منع القاضى «من مباشرة أى عمل يرى أن القيام به يتعارض مع واجبات الوظيفة وحسن أدائها». ومن الظاهر أن العمل التجارى الممنوع على القاضى، يتعلق بأمر واضح المعالم من الناحية القانوية، لأن هذا النوع من الأعمال له تعريفاته القانونية المحددة والمنضبطة وهى تدور حول الشراء بقصد البيع. ولا دخل لذلك بالشأن السياسى بطبيعة الحال.
أما ما كان عاما فى النص بوصفه أى عمل يتعارض مع استقلال القضاء وكرامته، فإن المرجع فى تحديد هذه الأعمال بالأعراف السائدة فى المجتمع، وليس منها بطبيعة الحال ما يتعلق بالسياسة لأن لها نصا خاصا بها أورد محدداتها فى المادة 73 سابقة الذكر. كما أن ما يمكن للمجلس الأعلى للقضاء ان يمنعه من أعمال، يكون ذلك بموجب قرار يصدر من هذا المجلس، وهو بالبداهة لا يسرى إلا على الوقائع التالية لصدوره تفاديا للأثر الرجعى غير المشروع لأى قرار.
(5)
تبقى نقطة مهمة، أريد أن أختم بها هذا الحديث، فإن الأعراف والسوابق والممارسات الحاصلة فى أى ظرف، هى مما يفيد فى إدراك وجوه الصواب وجوانب الإباحة ونواحى الحظر. لأن أحد الجوانب الأساسية فى انطباق نص حكم معين على حالة واقعة، أن ذلك لا يكفى فيه فهم النص الحاكم، ولكنه يتعلق أيضا بتكييف المسألة المراد انزال حكم النص عليها، أى ما يعرف لدى رجال القضاء بتحرير المسألة وإسباغ الوصف القانونى عليها.
فنحن فى ظروف ثورة بدأت فى يناير 2011 ولاتزال تتوالد أحداثها، وهى ثورة شعبية بدأت وتستمر بحراك شعبى تتتابع أحداثه، ولا يكاد يشبهها فى مصر الحديثة إلا ثورة 1919، ونحن نقرأ فى أحداث ثورة 1919 أن موظفى الحكومة أضربوا عن العمل حتى بدت أداة الدولة شبه مستحيلة فى بعض الفترات. وكان ذلك فى شهرى مارس وأبريل 1919، وفى هذا السياق نقرأ ما كتبه شيخ مؤرخى هذه الفترة الأستاذ الكبير عبدالرحمن الرافعى (كتاب ثورة 1919)، أثبت أنه فى يومى 13، 14 مارس 1919 أضرب المحامون فى المحاكم ووافق معظم القضاة على ذلك وأجلوا القضايا، فلما أصدرت وزارة الحقانية منشورا يبلغ القضاة بعدم الاستجابة للإضراب عند نظر القضايا «لم يعمل معظم القضاة بهذا المنشور» (ص180، 181 الجزء الأول) وأن القضاة فى المحاكم الشرعية استجابوا لمظاهرات المحامين وخرجوا من المحاكم، وكان منهم رئيس المحكمة العليا الشرعية (ص183) وأن الإضراب العام للموظفين فى الأيام الأولى من شهر أبريل شمل الجميع «عدا المحاكم المختلطة» التى تتكون من قضاة أجانب (ص254، 255)، وأن مظاهرة كبرى قامت يومى 7، 8 أبريل «انتظمت العلماء والقسوس والقضاة والمحامين والأطباء والأعيان وموظفى الحكومة وطلبة المدارس والمعاهد جميعا وطوائف العمال والصناع..» وكل طائفة ترفع علمها (ص6 الجزء الثانى).
ولم يقل أحد إن كان ذلك من القضاة اشتغالا بالسياسة، وذلك بسبب بسيط وهو قيام هذا الشعور الكاسح للشعب كله فى حدث يقر فقه القانون أنه من الأحداث التى تبلغ فى غلبتها مبلغ «القوة القاهرة» التى من شأن حدوثها أن تعفى أى ملتزم من التزامه إن غلبته على أمره.
(6)
وليس أصدق فى الدلالة على ذلك، فى أحداث ثورة 25 يناير 2011، أن هذه الثورة فى أولى نتائجها أفضت إلى عزل رئيس الجمهورية والوزارة وحل المجلس النيابى، ففقدت الدولة المؤسستين المختصتين بالشأن السياسى، ولم يبق من الدولة إلا مؤسستا القوات المسلحة والقضاء، وكلتاهما مؤسسة ممنوعة قانونا من العمل السياسى والاشتغال بشئونه.
ولكن متطلبات الأمر الواقع ألجأت القوات المسلحة إلى أن تتولى تنظيم الحكم فى البلاد خلال الفترة الانتقالية وحتى تتشكل المؤسسات النيابية ويوضع الدستور وتجرى الانتخابات وفقا له. وكانت ممارسة الحكم فى هذه الفترة عملا سياسيا بطبيعة الحال. كما ان ضغوط الواقع السياسى قد ألجأ كلا من الحكومة والأهالى إلى أن يزاحموا القضاء بدعاوى ذات شأن سياسى وذات ناتج سياسى مباشر، فاضطر القضاء إلى أن يمارس وظيفته فى ظل هذه الظروف، واستدرج عدد من المحاكم إلى إبداء آراء سياسية فى أحكامهم. والأمثلة كثيرة وواضحة على هذا الأمر، ولم تتحرك وزارة العدل لتثير موضوع التحقيق فى هذا الشأن إعمالا لحكم الفقرة الأولى من المادة 73 من قانون السلطة القضائية.
كما اننا نلاحظ ذات الأمر بالنسبة لنادى القضاة، فيما عقد من اجتماعات كثيرة مذاعة فى وسائل الإعلام لم تتضمن قضاة فقط، ولكنها شملت محامين وساسة ورجال إعلام شاركوا القضاة اجتماعاتهم واتخاذ القرارات ذات الشأن السياسى، وشاركوا فيما سمى بالجمعيات العمومية لأعضاء النادى.
إن ما تصنعه وزارة العدل الآن من إحالة هؤلاء السادة القضاة إلى التحقيق لما هو مزعوم من تواجد بعضهم بمظاهرات ميدان رابعة العدوية، إن هذا القرار بالإحالة إلى التحقيق لا يخلو من مضمون سياسى، لأن هذا القرار بالإحالة للتحقيق، لم يشمل الإحالة للتحقيق بالنسبة للقضاة الذين تواجدوا بميدان التحرير على طول وتعدد التجمعات التى جرت فى ميدان التحرير منذ 25 يناير 2011. إن هذا القرار بالإحالة يمثل انحيازا سياسيا لجانب دون جانب من طبيعة التجمعات السياسية التى جرت فى كلا الميدانين، لأن قرار الإحالة للتحقيق هنا إنما لا يصدر عن محض شبهة العمل السياسى فيما يدعى انه جرى من تواجد، ولكنه يشكل انحيازا سياسيا مسبقا لجانب دون جانب من جوانب العملية السياسية، وكل ذلك مع افتراض حدوث ما يدعى قرار الإحالة حدوثه من تواجد فى ميادين التجمعات السياسية.
نحن نهيب بالجهات المسئولة عن إدارة الهيئة القضائية الآن، أن تكون أكثر حيادا واستقلالية فى إدارتها للشأن القضائى وفى تعاملها مع القضاة، وإذا لم يكن من يدير الشأن القضائى هو الأكثر مراعاة لاستقلاليته فى تعامله مع القضاة، فمن يمكن ان يوفق فيه ويطمأن إليه فى هذا الصنيع؟