بقيت حالة الطوارئ بالأمر الواقع وبغير سند تشريعى، فلما حل 31 مايو 2012، أخبر الشعب المصرى أن المجلس العسكرى قد أنهى حالة الطوارئ، والحقيقة أنها انتهت من قبل أكثر من ثمانية أشهر, إن الحكم فى الدعوى لم يكتف بالقضاء بعدم دستورية الأحكام القانونية الخاصة بانتخاب الثلث الفردى, فيما اشتملت إليه من إجازة الترشح فى الثلث الفردى للحزبيين وغير الحزبيين، بدلا من أن يقتصر الترشح على غير الحزبيين وحدهم .إن الأحداث السياسية الأخيرة تنبىء عن أن ثورة مصر فى 25 يناير تدخل مرحلة جديدة مختلفة تماما عن الفترة السابقة عليها، والتى استمرت زهاء ستة عشر شهرا. هى مرحلة جديدة معاكسة للمرحلة الأولى فى سياساتها وأهدافها وفى طبيعة الصراع السياسى الذى سيقوم فيها. هذه المرحلة الجديدة تقوم على ثلاثة قوائم حسبما ظهر حتى الآن، أو أن من ملامحها وإرهاصاتها الأولى هذه القوائم الثلاثة، ولم نعرف بعد ماذا سيستجد فى الأيام المقبلة. أول هذه القوائم هو البيان الجديد بشأن استدعاء الجيش لحفظ الأمن الداخلى بعد حالة الطوارئ، وثانى هذه القوائم هو حكم المحكمة الدستورية العليا الذي اتخذ ذريعة لحل مجلس الشعب كله، وثالثها هو الإعلان الدستورى الأخير الذى وصف بأنه مكمل للإعلان الأول السارى وهو فى الحقيقة مناقض له وقد ألغاه. لقد فرضت فى 4 يونيو 2012 حالة طوارئ جديدة فور ما ذكر من انتهاء حالة الطوارئ التى كانت قائمة ونشر قرارها فى 13 يونيو.. كانت حالة الطوارئ تجدد فرضها آخر مرة فى عهد حسنى مبارك لمدة سنتين بدءا من أول يونيو 2010. فلما جرى استفتاء 19 مارس 2011 بعد الثورة أوجب أن تنتهى حالة الطوارئ بحد أقصى لها ستة أشهر وألا تجدد إلا باستفتاء شعبى، وورد هذا الحكم فى الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس. ونص فى المادة 62 منه على أن يبقى نافذا ما صدر قبله مما سبق أن قررته القوانين واللوائح، ومن ثم تسرى حالة الطوارئ المفروضة من قبل فى ظل الإعلان الدستورى، ولكن نص المادة 59 من ذات البيان الدستورى فى آخر فقراته (وفى جميع الأحوال يكون إعلان حالة الطوارئ لمدة محددة لا تتجاوز ستة أشهر ولا يجوز مدها إلا بعد استفتاء الشعب وموافقته على ذلك) ويقتضى الأثر المباشر لهذا الحكم التشريعى الوارد بالدستور أن تخضع حالة الطوارئ المفروضة سلفا لهذا الحد الأقصى الوارد بالمادة 59، وأن أى طالب بكلية الحقوق درس موضوع السريان الزمانى للقوانين، يعرف أن إعمال حكم المادتين 59 و62 من الدستور على حالة الطوارئ المذكورة، يفيد أنها تنتهى بأقرب الأجلين، الأجل المحدد بها وهو 31 مايو 2012 أو الأجل المنهى لمدة الستة أشهر منذ العمل بالنصوص المستفتى عليها فى 19 مارس 2011 والمعلن نتيجتها والسارى من اليوم الثانى وهو 20 مارس. ومن تم كانت تنتهى حالة الطوارئ يقينا بقوة القانون فى 19 سبتمبر 2012. وقد أذيع هذا الرأى فى حينه، ولكن أحد أعضاء المجلس العسكرى أعلن عكسه معتمدا على تطبيق المادة 62 من الدستور مع تجاهل المادة 59 منه. وبقيت حالة الطوارئ بالأمر الواقع وبغير سند تشريعى، فلما حل 31 مايو 2012، أخبر الشعب المصرى أن المجلس العسكرى قد أنهى حالة الطوارئ، والحقيقة أنها انتهت من قبل أكثر من ثمانية شهور، وأن إنهاءها لم يكن بقرار من المجلس ولكن من انتهاء مدة محددة سلفا، حتى وفقا للرأى الخاطئ الذى جرى به استمرارها. ثم ما لبث أن صدر من الحكومة، ومن المجلس العسكرى ما مفاده من الناحية الواقعية أن يستبقى للقوات المسلحة مكنات الطوارئ وأن يستبقى قراراته الفعلية على السيطرة على سلطات الضبط. ومن المعروف أيضا أن قانون القضاء العسكرى، ينطبق فى ثلاثة مجالات، أولها: ما يقع فى المعسكرات، وثانيها: ما يقع من أفراد القوات المسلحة، وثالثها: ما يقع إزاء المعدات العسكرية. وما دامت معدات الجيش فى الشوارع والأماكن الشعبية العامة، فإن الأحكام العسكرية تسرى إزاء التعامل معها فى أية حالة تجد وذلك بالنسبة للمدنيين ولذلك فإنه حتى إلغاء ما ورد من سريان القانون العسكرى على المدنيين فى حالة الطوارئ، فإنه يسرى بأحكامه وفى نظامه الأساسى بموجب الوجود الفعلى لمعداته وأفراده فى الحياة المدنية العامة. ويمكن محاكمة أى مدنى أمام القضاء العسكرى مع حالة وقوع أى نوع من التعامل أو فى حالة إدعاء ذلك عند الضرورة. وقد كانت الإجراءات المتخذة أخيرا مما يمكن اتخاذ إجراءات الضبطية القضائية بالنسبة لما قد يستجد من أوضاع. الأمر الثانى، أنه إذا كان قرار الضبطية القضائية الصادر من وزارة العدل فى 4 يونيو قد نشر بالوقائع المصرية فى 13 يونيو وأذيع بذات اليوم، فقد نظرت فى اليوم الثانى مباشرة أمام المحكمة الدستورية العليا دعوى عدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب، فيما نص عليه هذا القانون من أن ثلث المقاعد المتاح الترشيح فيها للمواطنين (انتخابات الأفراد لا القوائم الحزبية) شمل حق الترشح فيها المنتمين إلى الأحزاب ممن يمكن إدراجهم فى قوائم ثلثى المقاعد، ويشارك هؤلاء الحزبيون المواطنين من غير الحزبيين فى مقاعد الثلث المتاح للأفراد من المواطنين.وقد أصدرت المحكمة حكمها بعدم دستورية هذا القانون فى هذه المسألة فى ذات أول يوم نظرت فيه الدعوى، وهو يوم الخميس 14 يونيو 2012، وهو اليوم السابق مباشرة ليومى العمل التاليين مباشرة، يومى السبت والأحد 16 و17 يونيو المقرر أن تجرى خلالهما انتخابات الإعادة لرئيس الجمهورية وبنهايتهما يتحدد الرئيس الجديد لمصر وتتخذ إجراءات نقل السلطة التنفيذية إليه من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكان المقرر طبعا من ناحية خطة العمل التى يجرى بها الإعلان الدستورى المعمول به أن يتجرد المجلس العسكرى بذلك من صلاحيات الممارسة السياسية لشؤون الدولة، لاكتمال تشكل المؤسسات السياسية الدستورية بالطريق الديمقراطى، وهى السلطة التشريعية ممثلة فى مجلس الشعب والسلطة التنفيذية ممثلة فى رئيس الجمهورية. قضت المحكمة بعدم دستورية القانون المذكور فيما تضمنه من نصوص ذكرتها تتعلق بانتخاب ثلث مقاعد مجلس الشعب المتاح للانتخابات الفردية بغير القوائم الحزبية، ولكن المحكمة وإن استندت إلى ما رأته من عدم جواز إتاحة انتخابات الثلث الفردى للحزبيين وغير الحزبيين، إلا أنها فى أسباب حكمها لم تكتف بذلك ولا اكتفت بالإشارة إلى بطلان انتخابات الثلث وحده، وإنما عممت حكم البطلان على المجلس بثلاثة أثلاثه وبما يشمل الثلثين المنتخبين بنظام القوائم الذى لم تشكك أسباب الحكم فى أصل شرعية الانتخاب بالقوائم بالنسبة له. وإنما سندت شمول البطلان للثلثين لا لعيب تشريعى تنظيمى يلحقها وإنما لما معناه أن إزاحة الحزبيين من انتخابات الثلث الفردى من شأنه أن يغلق على هؤلاء الحزبيين فرصة الترشح بالقوائم، بما يعنى أنه قد يكون أحد الحزبيين يفكر فى الترشيح فى القوائم لو كان عرف بانغلاق الثلث الفردى من دونه، وحرصا على هذا الأمل المحتمل لأي من هؤلاء يتعين إبطال انتخاب مجلس الشعب كله بثلثيه الصحيحين فضلا عن ثلثه المصاب. إن الحكم فى الدعوى لم يكتف بالقضاء بعدم دستورية الأحكام القانونية الخاصة بانتخاب الثلث الفردى, فيما اشتملت إليه من إجازة الترشح فى الثلث الفردى للحزبيين وغير الحزبيين، بدلا من أن يقتصر الترشح على غير الحزبيين وحدهم، ونحن نعلم أن الولاية القضائية للمحكمة الدستورية تتحدد فى النظر فى صحة القانون من الناحية الدستورية والقضاء بعدم دستورية النص المعيب، وأن الدعوى لا تعرض عليها مباشرة من المتقاضين، ولكن بالإحالة إليها من محكمة موضوعية تنظر نزاعا بين المتقاضين، وتثار فيه ما يطعن بعدم دستورية نص تشريعى بشأن تطبيقه فى هذه الدعوى الموضوعية. لذلك يقتصر حكمها على مسألة الدستورية دون مساس بأصل المسألة المتنازع عليها أمامها فى الدعوى الموضوعية.ولا بأس للمحكمة أن يرد فى أسباب حكمها ما يتعلق بشرح أو إيضاح لما عسى أن يكون عليه وجة الرأى اجتهادا فيما يتصل بالمسألة المطروحة عليها، ولكن يتعين أن نلحظ بدقة نطاق ولاية المحكمة فيما تقضى به ونطاق ولايتها فيما يتصل بمنطوق حكمها من شرح فى الأسباب فيما يتصل اتصالا وثيقا لا ينفك عن هذا المنطوق ومما يدخل فى نطاق ولايتها القضائية لا يتجاوزها. وقد يكون ما ذكر فى أسباب الحكم من بطلان لتشكيل المجلس هو ما يتعلق بالثلث الفردى المطعون فى صحة انتخابه أمام محكمة الموضوع المحالة الدعوى منها إلى المحكمة الدستورية، ولكن الحكم الموضوعى أمام محكمة الموضوع هو ما يخص هذه المحكمة بالنسبة للدعوى المثارة أمامها، وهى تقضى فيه بموجب ولايتها على الدعوى الموضوعية وفى حدود طلبات المدعى فى هذه الدعوى، والقول بغير ذلك يعنى أن المحكمة الدستورية المحال إليها الفصل فى دستورية نصوص قانونية مثار النزاع بشأن الاستناد إليها، تكون هى من قضى فى موضوع دعوى لا تدخل فى اختصاصها. ولذلك فإن ما ورد بالأسباب من المحكمة الدستورية هو رأى فقهى لا يمس الاختصاص الموضوعى فى الدعوى الموضوعية المحال منها مسألة النزاع حول الدستورية. ومن جهة أخرى، فإن ما ورد بأسباب حكم المحكمة الدستورية متعلقا ببطلان الثلثين فى مجلس الشعب المنتخبين بنظام القوائم، هو اجتهاد فقهى منها ينظر فيه بحسبانه رأيا قانونيا يثور الجدل الفقهى بشأنه دون أن يكون متصلا اتصالا وثيقا بالمسألة الدستورية المثارة، ودون أن يكون متعلقا بموضوع الدعوى الموضوعية. والحاصل أن ورد بأخبار الصحف فى الأيام الأخيرة أن صاحب الدعوى الموضوعية التى رفعت بشأنها الدعوى الدستورية قد تنازل عن دعواه الموضوعية. وإذا كان ذلك كذلك فثمة مشكل قانونى يثور بشأن مسألة بطلان مجلس الشعب. وورد خبر هذا التنازل فى صحيفة المصرى اليوم عدد الخميس 12 يونيو 2012 فى صفحة 5 (والمدعى هو المهندس أنور صبحى درويش والدعوى الموضوعية كانت مرفوعة منه أمام محكمة القضاء الإدارى بالقليوبية وكان طلبه فيها حسبما ورد بحكم المحكمة الدستورية (وقف تنفيذ ثم إلغاء قرار اللجنة العليا للانتخابات بإعلان نتيجة انتخابات مجلس الشعب بالدائرة الثالثة فردى بالقليوبية، فيما تضمنه من إعادة الاقتراع بين مرشح حزب الحرية والعدالة ومرشح حزب النور على مقعد الفئات..) ونحن نعرف أن دعوى الدستورية بحسبانها دعوى إلغاء بالنسبة لنص قانونى، هى دعوى عينية يختصم فيها القانون المطعون عليه لذاته ويصدر فيها الحكم عينيا بإلغاء نص قانونى معين أو رفض الدعوى، وينشر حكمها المتعلق بالنصوص القانونية فى الجريدة الرسمية لتعلقه بقانون ذى تطبيق عام. ولكن وجه الملاحظة أن كل ذلك يتعلق بالقانون المحكوم بعدم دستوريته، أما ما يرد عن الآثار فهو أمر يتعلق بالولايات والصلاحيات المتاحة بجهات قضائية إدارية أخرى تتصرف فى إطار ولايتها القضائية أو الإدارية المتاحة لها وفقا لقوانين تشكيلها ونظمها. ومن جهة أخرى بالنسبة لهذه الدعوى، فقد نظرت فى جلسة واحدة يوم الخميس 14 يونيو 2012 فسمعت المرافعة وحجزت للحكم وصدر فيها الحكم فى ذات الجلسة وأودعت أسبابه فى ذات اليوم ونشر بالجريدة الرسمية بالعدد 24 تابع (أ) فى 14 يونيو 2012. وهى أول مرة فيما نعلم يحدث فيها كل ذلك (فى نصف نهار) كما يقول الشاعر صلاح عبد الصبور وقد تكون هذه همة مشكورة من المحكمة فى دعوى تتعلق بالانتخابات وللمحكمة أن تقدر وجه السرعة. ولكن وجه الملاحظة عندى يتعلق بالمدعى عليهم فى هذه الدعوى، فإن المدعى يمكن أن يكون ذا مصلحة فى الاستعجال، وهو قد بدأ دعواه ودرسها وأتاح لنفسه ما يستطيع به أن يقدم دعواه فى الإطار المدروس الذى رآه، ولكن بالنسبة للمدعى عليهم الذين سيصدر الحكم ضدهم، ماذا كان موقفهم من هذه العجلة، إننا لم نلحظ منهم طلب تأجيل للدعوى لنظر دفاعهم وإعداده وليدفعوا الدعوى بما يرون من دفوع، وهم من أصدر القانون المطعون فيه وقام على تنفيذه، والفرض أنهم يغيرون على عملهم ويعملون ما وسعهم للدفاع عنه وإبقائه، والمدعى عليهم فى هذه الدعوى كانوا ست جهات، وهى رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس مجلس الوزراء ووزير العدل ورئيس اللجنة العليا للانتخابات ووزير الداخلية ومحافظ القليوبية، وهم من أصدر القانون ونفذه وأشرف على الانتخابات به. من الممكن لنا أن نلحظ أن المدعى عليهم فى هذه الدعوى كانوا غير مبالين بالحكم الذى يصدر فيها بغير إبطاء وبغير حرص على الدفاع والتمسك بحقوقه وأوضاعه، بل يبدو أنهم كانوا حريصين على سرعة الفصل فيها ضدهم وبالذات يوم 14 يونيو 2012، وهو آخر يوم سابق على الانتخابات الأخيرة التى سيتعين بها شخص رئيس الجمهورية المنتخب فى الإعادة يومى السبت والأحد 16، 17 يونيو. لأنه بانتخاب رئيس الجمهورية وتعيينه فى هذين اليومين تبدأ فورا إجراءات نقل السلطة التنفيذية من المجلس العسكرى، ويكون المجلس العسكرى قد تم افتقاده السلطة السياسية بجميع أركانها الدستورية، لأنه فقد سلطة التشريع مع انتخاب مجلس الشعب، ويفقد السلطة التنفيذية مع انتخاب رئيس الجمهورية، ويكون المجلس بتمام هذين الأمرين قد عاد إلى التحرك فى نطاق قيادة القوات المسلحة وحدها، المشمولة بسلطات الدولة السياسية المذكورة. وأن هذا الحكم الذى حكم على قانون أصدره ونفذه المدعى ضدهم وعلى رأسهم المجلس العسكرى الذى كان أصدر هذا القانون، هذا الحكم هو ما استند إليه المجلس العسكرى واتخذه ذريعة ليقرر استرداده سلطة التشريع فى البلاد، وهو يعتمد عليه فى هذا الاسترداد فى ذات اليوم الذى تنتهى فيه ولايته على السلطة التنفيذية ويبدأ فى اليوم التالى تعيين رئيس لها آخر. إنه الحكم الذى يسترد به إحدى السلطتين السياسيتين فى مجال الحكم فى البلاد. أنا أود أن أشير هنا إلى أن حديثى عن حكم المحكمة الدستورية المذكور لا يتضمن تعرضا له من جهة طبيعته الفنية القضائية ولا من جهة الطابع العلمى المتخصص له قانونى، ولكن الحديث عنه يصدر عما يحيط به من أوضاع سياسية، لأن المشكل المطروح فيه لا ينفصم عن الظرف السياسى المعين، وتناول الخصوم له يصدر أساسا عن مواقف سياسية تصاغ صياغة فنية قانونية بقدر الإمكان، مع محاولة استدراج الجانب القضائى لهذه المواقف، ولأن الآثار المترتبة على الحكم هى آثار ليست آثارا سياسية فحسب، ولكنها تقف على الذروة من الوضع السياسى التاريخى الذى نعايشه فى هذه الأيام. والحقيقة أن الحكم القانونى الذى ألغته وأبطلته المحكمة، وهو يتعلق بجمع الحزبيين وغير الحزبيين لحق الترشح فى ثلث المقاعد الفردى فى مجلس الشعب. هذا الحكم لم يكن المجلس العسكرى منحازا إليه فى البداية، بل أكاد أقول إن المجلس العسكرى عندما انحاز إلى نظام القوائم الحزبية إنما كان يستجيب لضغوط الأحزاب والقوى المسماة بالليبرالية التى كانت تهدد بمقاطعة الانتخابات إن لم يكن نظام القوائم هو السائد، وأنها أصرت على زيادة نسب المقاعد للانتخابات بالقائمة وأصرت على وصولها للثلثين، وأصرت على مشاركة الحزبيين غيرهم فى الثلث المخصص للأفراد، فعدل المجلس العسكرى عن القانون الذى أصدره مخصصا الثلث لغير الحزبيين، عدل عن ذلك بقانون آخر كان هو مجال الطعن الأخير أمام المحكمة الدستورية. والمشكلة أن الأحزاب الليبرالية وعناصر النخب الليبرالية لبعدها عن العمل الجماهيرى والواقعى، كانت تطالب بما لا يعالج حقيقة الأوضاع الواقعية القائمة، وكانت تطالب بما يضر بمصالحها السياسية بدليل أن تأجيل الانتخابات من يونيو 2011 إلى نوفمبر 2011 أفقدها الكثير وجاء ضد حجم التمثيل الذى كان يمكن أن تحصل عليه مبكرا. ذلك أن السلفيين قويت شوكتهم السياسية كثيرا خلال فترة التأجيل. كما أن السلفيين كسبوا من نظام الانتخاب بالقائمة أكثر كثيرا مما كسب الليبراليون لصلات السلفيين بالجماهير الشعبية ولضعف التكوين الحزبى وحداثة الكثير منه بالنسبة للاتجاه الليبرالى. على أنه يظل القول صحيحا، أن القانون الذى ألغاه حكم المحكمة كان قانونا وافق عليه وأصدره المجلس العسكرى انحيازا منه لمن ضغطوا عليه لإصداره. وأن هذا الحكم من الناحية القضائية صادر بحق ضد صنيع المجلس العسكرى ويثبت عليه الخطأ فى تنظيم أوضاع الانتخاب. وهنا وجه الملاحظة التى أريد أن أثيرها هنا، وهى أن هذا المخطئ الذى صدر الحكم ضده هو أكثر من استفاد قضائيا من هذا الخطأ، وهذا مثل من الأمثلة النادرة التى تجد فيها مخطئا يثاب ويكافأ على الخطأ الذى ارتكبه، ووجه الاستفادة من ذلك أن المجلس العسكرى استغل هذا الحكم بأن قرر أن يسترد سلطة التشريع ويستعيدها لنفسه بعد أن كان فقدها بتشكيل مجلس الشعب فى 23 يناير 2012، وهو استردها فى اليوم السابق مباشرة على بدء تسليمه السلطة التنفيذية بانتخاب رئيس الجمهورية، وافتقاده السلطة السياسية جميعها فى الدولة، ليعود قيادة عسكرية بحتة. كما أن هذا الحكم بصدوره يوم 14 يونيو قبيل بدء تسليم المجلس العسكرى للسلطة التنفيذية بعد انتخاب رئيس الجمهورية، بصدوره فى ذلك اليوم، بادر المجلس العسكرى بأن يسترد به سلطة التشريع وهو لا يزال جامعا سلطة التنفيذ معها، وظهر بذلك بمظهر من يجمع بين السلطات السياسية كلها بما يمكنه باسم الثورة من إصدار إعلان دستورى جديد، واسترد بذلك السلطة السياسية كاملة على عموم مصر، كما سيجىء بيانه. هذه السرعة الخاطفة التى جرت بها الأحداث، تكشف أمرا ذا أهمية، وهو أن مجلس شعب نيابى ينتخب ُفى مصر بنزاهة كاملة واستقامة تامة ويعكس تعبيرا عن إرادة الشعب المصرى التى مارسها نحو ثلاثين مليونا من البشر، وهو أول مجلس شعبى ينتخب بهذه النزاهة والاستقامة منذ ستين سنة، وبإدارة المجلس العسكرى للدولة وبإشراف القضاء المصرى الكامل، وهذا المجلس تكاتفت أجهزة فى الدولة المصرية على وأده وإزهاق روحه قبل أن يكمل الشهر الخامس من وجوده، "وإذا الموءودة سئلت بأى ذنب قتلت". فكأن السلطة المصرية لا تحتمل مجلسا شرعيا ولد ولادة شرعية وطبيعية (فى الحلال) من الشعب المصرى بعد ثورة شعبية عظيمة حشدت أكثر من خمسة عشر مليونا من البشر فى عصيان مدنى مستمر وسلمى تماما ومصمم تماما. ونحن لم نعرف تاريخيا انتخابات بهذه النزاهة منذ انتخابات يناير 1950. أنا أدرك أن مجلس الشعب فى هذه الشهور أخطأ فى تقدير قوته وفى علاقاته بأجهزة الدولة الأخرى والقوى السياسية القائمة وفى التعامل مع هذه القوى، ولكن أقول إن عدم الخبرة كانت من العوامل المهمة التى أدت إلى ذلك، وإن الأمور مرجعها فى النهاية إلى اكتساب الخبرات من خلال التعاملات والضغوط المتبادلة التى تتحلى بفضائل المشاركة وتنجو من إثم الإقصاء لغيرها من القوى. والحقيقة أننا يتعين أن نقر أن إثم السعى للإقصاء كان موجودا لدى كل الفرقاء، وسببه الأساسى لديهم جميعا هو فى ظنى نقص خبرة التعامل السياسى. فالمسيطرون على الدولة آتون من خبرات مهنية أكثر منها سياسية، والإسلاميون آتون من خبرات دعوية أكثر منها سياسية، والليبراليون آتون من خبرات ثقافية سياسية أكثر منها تطبيقية. وكل ما هو مطلوب أن يحتمل بعضنا بعضا بغير إقصاء ولا استبداد. ومن هذا نلحظ أن أكثر الخلافات المستعرة إما أنها ناتجة عن وسائل كل فريق تجاه الفريق الآخر، أو لأن أيا من الفرقاء لم يعرف فى الواقع مدى حجمه السياسى وحجم غيره السياسى فى الواقع الفعلى بعد. وكل ذلك أساسه نقص الخبرة، وهو واقع لحظى نعانى منه جميعا. إن قرار الضبطية القضائية الذى أعاد من الناحية العملية حالة الطوارئ، صدر من وزارة العدل فى 4 يونيو 2012 ونشر فى الوقائع المصرية فى 13 يونيو، والحكم الذى نص فى أسبابه على إبطال مجلس الشعب بثلاثة أثلاثه صدر ونشر فى الجريدة الرسمية فى 14 يونيو. وفى 17 يونيو آخر يومى انتخابات الإعادة لرئيس الجمهورية، صدر إعلان دستورى معدل للإعلان السارى الصادر فى 30 مارس 2011. بمعنى أنه خلال خمسة أيام من 13 إلى 17 يونيو صدر من الوثائق ما تغير به الوضع السياسى فى مصر وتحول به إلى النقيض، كنا على أبواب إتمام تنظيم ديمقراطى شامل لمؤسستى السياسة فى الدولة المصرية، وهما السلطتان التشريعية والتنفيذية، وهى عملية استغرقت ثورة شعبية ثم عاما ونصف العام بعدها، ولكننا عدنا فى خمسة أيام إلى ما انتكست به هذه العملية، عدنا إلى 10 و11 فبراير 2011 عندما صدرت البيانات العسكرية الأولى التى أعلنت تولى المجلس العسكرى للسلطات السياسية مع الإطاحة بحسنى مبارك وحل مجلسى الشعب والشورى. مع فارق أساسى أننا فى فبراير 2011 كان ثمة أفق ديمقراطى ينفتح، وصار فى يونيو 2012 أفقا ديمقراطيا ينغلق. لقد كتبت من قبل فى 21 مايو 2012 أن المجلس العسكرى قد تجرد من إمكانية أن يصدر أى تعديل بالإضافة أو الحذف أو التغيير فى الإعلان الدستورى القائم خلال الفترة الانتقالية، لأنه كان يملك هذه الإمكانية فقط بموجب الضرورة الثورية قبل بدء نشوء التشكيلات الديمقراطية المنتخبة وعندما كان لا يزال يجمع سلطتى التشريع والتنفيذ وهى سلطات السياسة فى النظام الحاكم. وأنه مع تشكيل مجلس الشعب المنتخب واكتماله فى 23 يناير فقد المجلس العسكرى ,بموجب ما نص عليه الإعلان الدستورى, سلطة التشريع واستحال إلى سلطة تنفيذية فقط، ولا يجوز للمجلس العسكرى فى هذا الوضع أن يضع نصا دستوريا. والحاصل أنه حتى بعد أن صدر حكم المحكمة الدستورية وما يقضى إليه من بطلان الثلث الفردى من مقاعد مجلس الشعب، فإن مجلس الشعب يبقى قائما فى ثلثيه الآخرين ويحتاج إلى استكمال بالانتخاب دون أن تنتقل سلطة التشريع إلى المجلس العسكرى. وحتى إن قيل إن المجلس قد أبطل جميعه بثلاثة أثلاثه، فإن سلطة التشريع لا تعود إلى المجلس العسكرى، لأنه ليس أصيلا فى توليها وقد كان يتولاها على سبيل الاستثناء المحصن الذى أملته الثورة وحالة الضرورة التى نجمت عن زوال كل المؤسسات السياسية فى الدولة من تشريعية وتنفيذية، أما وأن انتخابات رئيس الجمهورية مقدر لها أن تتم يومى 16، 17 يونيو، فتكون وجدت سلطة سياسية فى الدولة هى منتخبة وتكتسب شرعية القيام من اختيار الشعب لها فى انتخابات حرة ونزيهة. ولذلك تنصرف حالة الضرورة إلى تولى هذه السلطة المنتخبة ما تلزم به بالضرورة من إصدار تشريع لازم حتى تتم انتخابات مجلس الشعب سريعا. ولكن المجلس العسكرى انتهز فرصة صدور حكم المحكمة الدستورية وما ورد بأسبابه (دون منطوقه) من إبطال مجلس الشعب كله وأن ذلك لا يحتاج إلى قرار يصدر به من جهة أخرى ولا ينتظر حكم محكمة الموضوع التى كانت أحالت الطعن بالدستورية إلى المحكمة الدستورية، انتهز ذلك ليعتبر نفسه قد استعاد الجمع بين سلطتى التشريع والتنفيذ بما يمكنه من إصدار أحكام دستورية جديدة، ينهى بها المسار الدستورى الذى كان مرسوما منذ 30 مارس 2011 ويبدأ مسارا جديدا مناقضا. إن الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 نص فى المادة 56 منه على سلطات المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى عشر فقرات، الأولى والثانية تتعلقان بسلطة التشريع. والفقرات الثمانى الأخرى تتعلق بالسلطة التنفيذية، ونص فى المادة 25 على أن رئيس الجمهورية "يباشر فور توليه مهام منصبه الاختصاصات المنصوص عليها بالمادة (56) من هذا الإعلان عدا المبين فى البندين 1، 2 منها?. ونص فى المادة 33 على أن ?يتولى مجلس الشعب فور انتخابه سلطة التشريع ويقرر السياسة العامة للدولة.." ونص فى المادة 61 على أن "يستمر المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى مباشرة الاختصاصات المحددة فى هذا الإعلان، وذلك لحين تولى كل من مجلسى الشعب والشورى لاختصاصاتهما، وحتى انتخاب رئيس الجمهورية ومباشرته مهام منصبه، كل فى حينه". وقد فقد المجلس الأعلى سلطة التشريع فور تشكيل مجلس الشعب وتوليه مهامه فى 23 يناير 2012، وبقيت للمجلس الأعلى سلطة التنفيذ حتى تمام انتخاب رئيس الجمهورية، ولكن قبيل أن يتم هذا الأمر بيوم عمل واحد صدر حكم الدستورية الذى أشار فى أسبابه إلى وجوب حل مجلس الشعب المنتخب كله وأنه ينحل بذاته ويعتبر غير قائم. فاسترد المجلس الأعلى سلطة التشريع لا ليمارسها بإصدار قانون ما ولكن ليصدر دستورا ونظاما دستوريا جديدا هو مناقض لنظام الانتقال السارى، وهو نظام دستور 17 يونيو 2012. إن إعلان 30 مارس 2011 ينظم تسليم السلطة التشريعية من المجلس العسكرى إلى مجلس الشعب، وإعلان 17 يونيو 2012 يقضى بتسليم هذه السلطة التشريعية من مجلس الشعب إلى المجلس العسكرى. والإعلان الأول يقضى بأن يشكل نواب مجلس الشعب والشورى المنتخبين، يشكلون الجمعية التأسيسية التى ستضع دستور مصر الجديد (م 60)، والإعلان الأخير يمكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة من أن يشكل الجمعية التأسيسية بالتعيين بقرار منه. والإعلان الأول يجرى وضع الدستور الجديد فى ظل مؤسسات حكم مشكلة بالانتخاب الشعبى، تشريعية وتنفيذية، والإعلان الأخير يقرر أن يجرى وضع هذا الدستور الجديد فى ظل هيمنة حكومة المجلس العسكرى، وبدلا من أن يكون المجلس العسكرى جزءا من السلطة التنفيذية كما هو أصل وضعه بين هيئات الدولة، صار بالدستور الأخير هو سلطة التشريع المهيمنة على السلطة التنفيذية دون أن يغادر مكانه فى السلطة التنفيذية، لأن المجلس العسكرى حسبما يجمع بين السلطتين فهذا الإعلان الدستورى الأخير ليس معدلا ولا مكملا لنظام دستور 30 مارس 2011 الذى انتجته الثورة وترجم مطامحها الديمقراطية فى صورة برنامج زمنى قابل للتحقيق. وإنما هو نقض للثورة وانتكاس بها. تضمن الإعلان الدستورى الجديد (17 يونيو) نصا برقم 53 مكرر يتعلق بالمسار السياسى الذى أراد المجلس العسكرى أن يسلكه وسعى لذلك حثيثا وبإصرار خلال الأشهر السابقة ويقضى هذا النص بأن "يختص المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالتشكيل القائم وقت العمل بهذا الإعلان الدستورى بتقرير كل ما يتعلق بشؤون القوات المسلحة وتعيين قادتها ومد خدمتهم".. "ويكون لرئيسه حتى إقرار الدستور الجديد جميع السلطات فى القوانين واللوائح للقائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع. وبهذا النص تبدو القوات المسلحة مستقلة عن إدارة الدولة المصرية". وأنا من متابعتى للتاريخ المصرى ولدولة مصر وتنظيم مؤسساتها وبالخبرات المتعلقة بمتطلبات الدولة المصرية، يمكن ملاحظة أن القوات المسلحة كانت ذات وضع فعلى له خصوصيته، حتى من قبل ثورة 23 يوليو 1952، وأن مؤسسة من هذا النوع وبهذه الوظائف المطلوبة منها فى دولة مهددة وأوضاعها الدولية غير مستقرة وغير مطمئنة والأطماع فيها أكبر من قدراتها على حماية الذات، كل هذا يمكن أن يكون مجالا للمراعاة وفقا لما جرت عليه العادات والأوضاع المرعية، وأن هذه الاعتبارات يمكن الرجوع فيها إلى سوابق الخبرات التنظيمية بغير أن يصل بنا الحال لتقرير مبادئ دستورية تقضى إلى استقلال تنظيمى لإحدى مؤسسات الدولة عن سائر الهيئات الأخرى، وتصير بذلك كالوطن المستقل عن مصر شعبا ومجتمعا ودولة. كما تضمن هذا الإعلان الدستورى الجديد (17 يونيو) ما يتعلق بالجمعية التأسيسية التى تضع الدستور الدائم الجديد، فنصت المادة 60 مكرر المضافة على منح المجلس الأعلى سلطة تشكيل الجمعية التأسيسية بالتعيين من جانبه لنضع مشروع الدستور "إذا قام مانع يحول دون استكمال الجمعية التأسيسية (الحالية) لعملها.. "وهذه الصلاحيات التى قررها المجلس العسكرى لنفسه تناقض تماما ما جرى عليه الإعلان الدستورى الأول (30 مارس 2011) والذى جعلها تختار من هيئة منتخبة من الشعب المصرى، وقد شكلت هذه الجمعية فعلا، ولكن جاء هذا النص الجديد ليجيز تشكيل غيرها بالتعيين دون ضبط لمعنى ما هو المانع الذى يحول بينها وبين استكمال عملها. ثم أورد هذا الإعلان الجديد أمرا آخر، وهو حالة ما إذا قامت بعملها الجمعية التأسيسية المشكلة الآن من الهيئة المنتخبة، فنص الإعلان الجديد على أن للمجلس الأعلى أن يعترض على مشروع الدستور، كما أن لأى من رئيس الوزراء أو رئيس المجلس الأعلى للهيئات القضائية أو لخمس أعضاء الجمعية التأسيسية أن يعترض على مشروع الدستور، وساعتها يحال الأمر إلى المحكمة الدستورية. ونحن هنا ألغينا تماما سلطة الجمعية التأسيسية المختارة من الهيئة الشعبية المنتخبة وفرضنا عليها وصاية بيروقراطية مزدوجة من هيئات حكومية معينة كلها، وجعلنا لخمس أعضاء الجمعية التأسيسية حق الوصاية والاعتراض على ما قرره أربعة أخماس الجمعية، وهذا حكم قانونى فيه من الشذوذ ما فيه، فلم يسبق أن صادفتنا صياغة تشريعية تصل إلى هذا الحد من الفجاجة والغرابة، وهى تستحق ملاحظة مهنية مما يوجهه التفتيش الفنى إلى العاملين بالمهنة حتى لا يكرروها، لأن سلطة الاعتراض لا يمكن أن تكون إلا من غير من شاركوا فى القرار. إن كل ذلك يفيد الانتكاس بالسعى الديمقراطى إلى المسعى البيروقراطى الذى تنحصر الإرادة السياسية فيه فى أجهزة الدولة البيروقراطية. وتذكر المادة 60 مكرر من الإعلان الجديد، أن الجمعية التى يشكلها المجلس الأعلى "تمثل كل أطياف المجتمع" والأطياف جمع طيف . ونحن نعجب من استخدام لفظ "طيف" فى نص تشريعى لأنه لا يعنى مفهوما قانونيا يمكن الاتفاق عليه وهو فى اللغة يعنى الخيال. وأطياف تختلف تماما عن لفظ الطائفة الذى هو مجموعة من الناس. إن من يتابع وقائع الثورة ومحاولات نواب رؤساء الوزارات المتعاقبة التى شكلها المجلس الأعلى فى القسم الغالب من 2011 يلحظ إن كانت ثمة محاولات دائبة لوضع قواعد وضوابط يتعين أن ترد فى الدستور الجديد وأن ثمة ضوابط وقواعد يتعين أن توضع فى تشكيل الجمعية التأسيسية حتى تلتزم بها الهيئة المنتخبة من الشعب التى ستشكلها، أى إن كان ثمة محاولات دائبة على فرض نوع من الهيمنة على مسألة الدستور الجديد، سواء بالنسبة للهيئة التى ستعده أو بالنسبة للأحكام التى سيتضمنها، نلحظ ذلك فيما حاول الدكتور يحيى الجمل تشكيله عندما كان نائبا لرئيس الوزراء، فشكل مجلسين عرفيين بالتعيين والاختيار ليضع قواعد حاكمة للدستور المرتقب، ولكن محاولته باءت بالفشل وسقطت الوزارة التى كان عضوا بها. وذات المحاولة تكررت فى عهد خلفه الدكتور على السلمى الذى تولى بعده نيابة رئيس الوزراء. وأذاع ما عرف بوثيقة السلمى التى تضمنت ما سمى بالمبادئ الحاكمة للدستور المقبل لتلزم بها أية هيئة منتخبة تعد الدستور الجديد، وتركزت هذه المبادئ الحاكمة فى نوعين من النصوص والأحكام، نوع يضع القوات المسلحة فى وضع مستقل عن هيئات الدولة كلها فلا تخضع لأى تعامل مع أى منها، ونوع يصنف الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور وفقا لفئات وجماعات معينة بحيث لا يستطيع أى اتجاه أن تكون له أغلبية ويمكنه بعد ذلك من إسقاطها وتعيين جمعية تأسيسية بالتعيين من المجلس العسكرى. ووضح من هذه المتابعة أن ثمة جهة أعلى من السيدين المذكورين تملى عليها هذا الموقف. وقد فشل هذا المسعى الأخير بوقفة الشعب ضده فى أيام 18 نوفمبر 2011 وما بعدها. اليوم يأتى الإعلان الدستورى الجديد (17 يونيو) بذات الأحكام. وهذا ما يكشف أن هذه الأحكام ليست وليدة اللحظة الحالية ولكنها موقف قديم مصمم عليه من المجلس العسكرى، أراد به منذ البداية إحكام التحول الديمقراطى المستفتى بها فى 19 مارس 2011 والواردة بالإعلان الدستورى 30 مارس 2011. إن نص المادة 53 مكرر من الإعلان الدستورى الجديد الخاص بالقوات المسلحة والمجلس الأعلى قد ورد به ذكر المجلس الأعلى واختصاصه وسلطاته مسبوقة بعبارة "بالتشكيل القائم وقت العمل بهذا الإعلان الدستورى". وهذه أول مرة فيما نعلم يرد نص دستورى يعين السلطة الدستورية فى أشخاص محددين بذواتهم، لأن النص التشريعى يتعين أن يشير إلى الأشخاص بأوصافهم لا بذواتهم، أى مما يتوافر فيهم من صفات موضوعية، ويتحدد الشخص فى التشريع بهذه الصفات الموضوعية التى تلحق بأى منهم، وهذا مقتضى ما يتعين الالتزام به فى أى تشريع من مراعاة العمومية والتجريد، وأن فقدان هاتين الصفتين يهبط بالتشريع إلى مصاف الأوامر والقرارات الفردية. ولم نلحظ فى الدساتير من باب أولى حكما يرد متعلقا بشخص بذاته، إلا أن يكون فى الدساتير "الملكية" عندما تنص مثلا على أن الحكم "الملكى" ينحصر فى أسرة "محمد علي مثلا"، وحتى مثل هذا النص لا يحصر الوصف الخاص بالحاكم فى شخص بعينه من الأسرة المسماة. وهذه سقطة لا أدرى كيف وقع فيها مصممو هذا الإعلان الدستورى. والملاحظة الثانية أن هذا النص يعطى حصانة كاملة لعين الأشخاص المشار إليهم والمشكلين حاليا للمجلس الأعلى، ويجعل كلا منهم صاحب ذات مصونة لا تمس، فلا يمكن إخراجه من عمله هذا وإن ارتكب ما ارتكب من وقائع. ولا يصح المجلس الأعلى إلا بهم "بالتشكيل القائم".. ولا يستطيع رئيس المجلس الأعلى أن يتصرف أو ينهى خدمة أحد أو يغير أوضاعهم. ونحن نعرف أن أحد حكمى المحكمة الدستورية الصادرين فى 14 يونيو 2012، كان يتعلق بعدم دستورية ما عرف بقانون العزل السياسى، وكان مما يستند إليه فى عدم دستورية هذا القانون هو افتقاده صفتى العمومية والتجريد، ولا شك أن هذا العيب يصدق من باب أولى على النص الدستورى الخاص بتعيين أشخاص المجلس الأعلى بذواتهم. ويمكن فى ظنى التعامل مع هذا النص بوصفه قرارا إداريا صادرا من المجلس الأعلى بشأن الأشخاص المحددين، فهو نص ليست له حصانة التشريع الدستورى ولا ضوابط التشريع القانونى. إن الإعلان الدستورى الصادر فى 17 يونيو 2012، هو إعلان دستورى جديد صادر من هيئة انحسرت عنها ولاية إصدار التشريعات القانونية والدستورية، وهو يتضمن نقضا وإبطالا كاملا (من حيث أحكامه) لأحكام الإعلان الدستورى الصادر فى 30 مارس 2011 من ذات الهيئة عندما كانت لها سلطة إصدار مثله ملتزمة بأحكام الاستفتاء الشعبى الحاصل فى 19 مارس 2011. وأرى أن يجرى التعامل على أساس الإعلان الدستورى الأول وحده دون اعتبار لما ورد بالإعلان الجديد، فإذا حدث خلاف فى هذا فيثار أمام المحاكم والجهات المختلفة كل فى حدود اختصاصه على أساس عدم شرعية النصوص الجديدة وسيحدث قريبا اشتباك فى مسألة محددة، وهى أن رئيس الجمهورية أُعلن انتخابه، وسيطالب باستلام السلطة بحلف اليمين، ومجلس الشعب لدى القائمين على الدولة يعتبر باطلا، والإعلان الجديد يعالج هذه المسألة بحلف اليمين أمام الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا حسب النص المضاف بموجب الإعلان الدستورى إلى المادة 30، فإذا حلف الرئيس الجديد اليمين بموجب هذا الحكم أمام الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية العليا يكون قد اعترف بالإعلان الدستورى الجديد بكل ما تضمن من أحكام، وبخاصة ما يتعلق بسلطات المجلس العسكرى واستقلاليته عن الدولة وسلطته على الجمعية التأسيسية للدستور، وإذا لم يحلف اليمين فلن يسلم المجلس العسكرى السلطة له. وإزاء الرأى الذى ينتهى إلى عدم شرعية الإعلان الدستورى الجديد، وإزاء أن مجلس الشعب معطل لعدم اكتمال تشكيله لبطلان ثلث مقاعده الفردية بموجب حكم الدستورية، بمعنى أنه موجود بثلثيه ولكنه غير مكتمل بثلثه الآخر، فإنه يجوز قانونا أن يمارس رئيس الجمهورية سلطاته دون حلف اليمين، لأن حكم حلف اليمين يكون حكما معطلا بتعطيل اكتمال تشكيل مجلس الشعب. وأن القاعدة الفقهية المعروفة فى مناهج الفقه، أن الحكم الشرعى يوقف إن ذهب محله ويعود بعودة المحل. وأن من تصاب إحدى يديه فهو يتوضأ بغسل يده غير المصابة ويوقف الحكم بالنسبة للمصابة حتى تبرأ فيعود الحكم عليها. وقديما كانت ثمة قوانين تشترط عضوية الاتحاد الاشتراكى لشغل مناصب معينة، فلما ألغى الاتحاد الاشتراكى سقط هذا الحكم بزوال محله.. وهكذا. ومن ثم فإن حلف اليمين يكون غير لازم لممارسة رئيس الجمهورية سلطته حتى يعود مجلس الشعب لاستكمال تشكيله وانعقاده فيعود الحكم.