لازالت دراسة الميزانيات الفرعية للمؤسسات الدستورية والمندوبيات السامية التي تتوفر على فصل خاص بالميزانية العامة للدولة مثيرة لإشكالية الملائمة الدستورية والقانونية للمنهجية البرلمانية العملية المعتمدة في تدبير هذه الدراسة خلال كل مناسبة للمناقشة السنوية لمشروع قانون المالية. وحيث من الملفت للنظر الموضوعي تسجيل احتجاج برلمانيين ودفعهم بعدم مواصلة أشغال لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب لمناقشة مشروع الميزانية الفرعية للمندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج برسم السنة المالية 2023، بحجة إلزامية حضور الوزير الممثل للحكومة لأشغال هذه المناقشة، في مقابل وجهة نظر برلمانية أخرى تدعم خيار عدم تقييد الحكومة بضرورة الحضور والمتابعة لأشغال تلك المناقشة التي تولى فيها المندوب العام للإدارة السجون وإعادة الإدماج تقديم عرض حول حصيلة عمل المندوبية العامة وآفاق عملها ومشروع ميزانيتها السنوية، علما أن ممثل الحكومة يقدم في بداية الاجتماع توطئة عامة في اجتماع مناقشة مشروع الميزانية الفرعية المذكورة وفي اجتماع مناقشة مشروع الميزانية الفرعية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير. وذلك تكريسا للنهج السابق الغالب، كما تثبته وثائق الممارسة البرلمانية والحكومية برسم عدة سنوات تشريعية، مع الإقرار باستثناء سجله وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان بتقديمه وحضوره ومتابعته للمناقشة كاملة وتفاعله معها لاسيما برسم الميزانية الفرعية للسنة المالية 2020 دون أن يقدم مسبقا عرضها التفصيلي بعد كلمته التقديمية العامة لها. ومن زاوية أخرى فإن ممثل الحكومة (وزير العدل) هو الذي يقدم الميزانيات الفرعية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وللمجلس الوطني لحقوق الإنسان كما تم ذلك مؤخرا في اجتماع لجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان بمجلس النواب. وخلافا لكل ذلك تبرز مفارقة راسخة ومثيرة تهم تولي رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي بنفسه تقديم الميزانية الفرعية لهذه المؤسسة الدستورية وتولي المندوب السامي للتخطيط بنفسه كذلك تقديم الميزانية الفرعية للمندوبية السامية للتخطيط، في حين نسجل واقعة تقديم الميزانية الفرعية للمجلس الأعلى للحسابات من لدن كاتبها العام بعدما كان رئيس المجلس السابق يتولى تقديمها بنفسه. لنصل إلى خلاصة إمكانية فرز تضارب الممارسة البرلمانية في كيفية تدبير دراسة الميزانيات الفرعية للمؤسسات الدستورية والمندوبيات السامية، حيث تقدم ميزانية المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجلس الوطني لحقوق الإنسان من لدن وزير العدل. أما ميزانيتي المجلس الأعلى للحسابات والمندوبية السامية للتخطيط فيتم تقديمها من لدنهما، كما أن ميزانيتي المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج والمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير فيتولى الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع البرلمان تقديمهما بتوطئة عامة، قبل أن يفسح المجال لمسؤوليها لتقديم عرضهما التفصيلي. وحيث إنه يتعين لفت الانتباه الموضوعي لملاحظة عدم دستورية استمرارية واقعة صرف النظر عن تحييد البرلمان للحكومة من مسؤوليتها القانونية والدستورية في تقديم الميزانيات الفرعية للمؤسسات الدستورية والمندوبيات السامية ومن بينها تلك التي تهم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي والمجلس الأعلى للحسابات والمندوبية السامية للتخطيط باللجان البرلمانية المعنية. وبالرجوع لاجتهاد القضاء الدستوري، نجد أن المحكمة الدستورية قد حددت البوصلة الدستورية والقانونية التي يتعين على البرلمان والحكومة عدم غض الطرف عنها وتجاوزها بأي حال من الأحوال، احتراما لأحكام الدستور وللقانون الصادر عن البرلمان، إذ سبق للمحكمة الدستورية أن أكدت في يوليوز 2019 بموجب قرارها رقم 93/19 بمناسبة فحصها لدستورية المادة 243 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين عدم دستورية استبعاد الحكومة من تقديم الميزانيات الفرعية للمؤسسات الدستورية والمندوبيات السامية. وورد في القرار البناء على حيثية " تقديم مشاريع أو مقترحات القوانين، يتم من قبل الجهات التي بادرت إليها، وفي الحالة، فإن السلطة الحكومية المكلفة بالمالية، هي التي تعرض مشروع قانون المالية السنوي في جلسة مشتركة لمجلسي البرلمان طبقا للفصل 68 من الدستور" للتأكيد على أن " أعضاء الحكومة يقدمون أمام اللجان الدائمة لمجلسي البرلمان الميزانيات الفرعية للقطاعات الحكومية أو المؤسسات، إعمالا بما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 24 من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، من أنه "يشارك أعضاء الحكومة في أشغال مجلس النواب ومجلس المستشارين كلما تعلق الأمر بتقديم ومناقشة مشاريع القوانين ومقترحات القوانين المسجلة في جدول أعمال أحد المجلسين…"؛ وتبعا لذلك فإن تخويل رؤساء المؤسسات الدستورية والمندوبيات السامية والوزارية التي تتوفر على فصل خاص بالميزانية العامة للدولة، تقديم ميزانيتها الفرعية مخالفا لأحكام القانون التنظيمي المشار إليه". ومن المعلوم أن النظام الداخلي للبرلمان قد عالج نظريا موضوع تقديم الميزانيات الفرعية للمؤسسات الدستورية والمندوبات السامية وأغلق باب تولي رؤسائها تقديم ميزانيتها ومتابعة ذلك بمناقشة عامة من لدن أعضاء اللجان الدائمة تكون محل تفاعل شفهي أو كتابي من لدن المؤسسات المذكور، فنجد المادة 216 من النظام الداخلي لمجلس النواب تلزم أعضاء الحكومة بتقديم عام لمشاريع الميزانيات الفرعية داخل اللجان الدائمة التي تختص بدراستها ومناقشتها. كما أن المادة 243 من النظام الداخلي لمجلس المستشارين تنص على أن أعضاء الحكومة يقدمون أمام اللجان الدائمة المختصة مشاريع الميزانيات الفرعية للمؤسسات والمندوبيات التي تتوفر على فصل خاص بالميزانية العامة للدولة. ومن جهة أخرى يتعين الإحالة في سياق السجال البرلماني والقانوني الرائج حول حضور الحكومة طيلة أشغال مناقشة الميزانيات الفرعية للمؤسسات والمندوبيات السامية إلى إفادة تذكير بكون الحق المخول للحكومة في تقدير استعمال ما كفله لها الدستور من إمكانيات وحقوق تتعلق بالمسطرة التشريعية وحضور الأشغال التشريعية للبرلمان انسجاما مع المادة 24 من القانون التنظيمي المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها المتعلقة بحضور الحكومة لأشغال البرلمان ، إنما يقتصر تبعا لاجتهاد القضاء الدستوري على مجال المبادرات التشريعية البرلمانية لأعضاء مجلسي البرلمان بموجب قرار للمحكمة الدستورية بتاريخ 11 مارس 2011 تحت رقم 115/21 بمناسبة مراقبة دستورية قانون رقم 24.92 يتعلق إلغاء وتصفية نظام معاشات أعضاء مجلس النواب .. وحيث إن مشاريع الميزانيات الفرعية تتعلق في كليتها بمشروع قانون المالية للسنة المالية ومندرجة جميعها قانونيا وموضوعيا ضمن مجال المبادرات التشريعية الحكومية، فإن ذلك يفرض من زاوية نظر إقرار المسؤولية الدستورية والقانونية والسياسية للحكومة في تقديم ومناقشة مشروع قانون المالية ومشاريع الميزانيات الفرعية المقترنة به ، مع ترجيح ضرورة تعزيز صدقية النقاش البرلماني والتفاعل الحكومي المستخلص من فحوى الفقرة الأولى من الفصل 6 من الدستور الذي ينص على "أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة" والحرص البرلماني والحكومي على إعمال متطلبات وشروط التعاون والتوازن بين السلط والمعتبرة من مقومات النظام الدستوري للمملكة، طبقا للفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور. ولئن كان من الملفت للنظر الإقرار بأهمية استحضار تفضيل السادة أعضاء البرلمان لخيار التفاعل البرلماني المباشر مع مسؤولي المؤسسات الدستورية والمندوبيات السامية، فإن المنطق الدستوري والقانوني الموضوعي يفرض تحقيق التقيد بالأحكام الدستورية والقانونية، الواجبة التطبيق قبل أي اعتبار، بما لا يمنع الوزراء المكلفون بتقديم ميزانياتها الفرعية من الاسترشاد بممثلي تلك المؤسسات في حالة اعتماد التفاعل الشفوي الحكومي للجواب على استفسارات وأسئلة أعضاء اللجان المعنية في نهاية أشغالها أو الإحالة على اعتماد التفاعل الكتابي الذي يتم به اعتماد عناصر الإجابة الضرورية والممكنة من لدن المؤسسات والمندوبيات المذكورة والتي يتم إرفاق فحواها في تقرير المناقشة. فهل سيعالج البرلمان والحكومة استمرارية إشكالية دستورية وقانونية، ستظل في بعد من أبعادها مثيرة لواقع إحراج موضوعي يهم حدود المسؤولية السياسية الحكومية والوزارية المقترنة بتقديم ومناقشة ميزانيات فرعية لمؤسسات ومندوبيات سامية لا تربطهم بها صلة تدبيرية أو علاقة مباشرة بنطاق الاختصاص القطاعي المنوط بهم؟