في كل تاريخ دموي، في كل حرب عرفت كيف تدافع عن اسمها أو فشلت في أن تبرر صوت رصاصها وهوية عنفها كانت هناك فئة لا يتحدث عنها أحد، فئة تكتفي بالبحث عن طاغية تكتب باسمه وبمفردات وجوده قصة قتل أو رواية دم. الجماعة قصيدة لمديح العلاقة، لكنها أيضا في سياقات تاريخية كثيرة يمكن أن تكون قصيدة لمديح الانفصال والقطائع ولنتذكر هنا كيف اعتبر «غوستاف لوبون» أن «أرذل أنواع الأوغاد يمكنهم أن يتحلوا بمبادئ أخلاقية صارمة بمجرد أن ينخرطوا في الجمهور». لكل قتل جماهير ولكل دم نبلاء وهذا هو النوع المتدثر من الطغاة. أولئك الذين يختبئون في التفاصيل ويسكنون في سماح الصغائر، تلك الصغائر التي تغذي مصب الطاغية بجداول الدم. اللامبالاة طغيان، قتل بطيء ذكي، يمص الدم من جسم الحياة، انسحاب ذوات مختنقة بأنانيتها، موبوءة بثقل نفعيتها البغيضة. انسحاب من الفعل بحجة أن لا أحد ينبغي أن يقوم بشيء نيابة عن دولة انسحبت من أدوارها. بوسعك أن تمر على مرفق عام وتنتبه لحال مرافقه لتقرأ مفردات البؤس وأمارات الإهمال وإذا راودتك شهوة طرح السؤال، فستجد كثيرا من الذوات انبرت لتسفح دم دولة أهملت ومسؤولين انشغلوا برغائبهم عن نداءات الحاجات. لكن لن تجد أحدهم يمتشق سيف المبادرة ويقرر في لحظة توافق مع وعي لا يساوم أن يصلح حال تلك المرافق. وحده العمل يحرج الدول الكسولة، وحدها المبادرة تنزع عن مؤسسات الشخير، قناع الرقاد وتوقظ في شرايين المجتمع صوت الغد. الوقوف على أكتاف الذين يعملون في صمت لأن ضمائرهم تتنفس من روح العقل هو طغيان آخر، تذاك مذموم، حتى إنه بات من البديهي في كثير من مؤسساتنا أن تعرف أن أمورها موكولة بسواعد وضمائر قلة معدودة، بينما يضبط الآخرون من الزملاء أوقات انسحابهم على التماع أنوار اليقين والحق في ضمائر وعقول تلك القلة المؤمنة المحتسبة. ساعات عمل أقل وأجر أكبر هذا هو تعريف الدرجات العلمية في بلادنا وهو تعريف سخيف تفضحه الحقيقة وتذيب شمعه حرارة البرهان. واصلوا الضغط على الشرفاء، واسحلوا طيبوبتهم على نتوءات المكر والخديعة وستتسع ثقوب سفينة وطن لا يشرف إلا بهم، أولئك الذين لا يقبلون مهانة، الذين يذكروننا بقول نيتشه: «لو وجد أحدهم في كيس من المنافع مثقال ذرة من الإذلال فإنه لن يتحمل تلك المنافع»، والخديعة إذلال الانتهازية المتعالية الصراخ إذلال. الذين يستفيدون من حالة الطغيان هذه يشعرون دائما أنهم يستفيدون ففي كل طغيان قدر كبير من اللذة، إن الطغاة لا ينظرون لأنفسهم كطغاة، إنهم يعتبرون أنفسهم ضحايا لذة لا يعرفون كيف يوقفونها، يتطلب ذلك قدرا كبيرا من ممارسة العنف على الذات لاستعادتها واسترجاع صوت الحياة فيها، الحياة الحقيقية التي لا تنبت في أرض تشرب من ماء العنف والطغيان. للطغيان أوجهه الخفية ففيه قدر كبير من المشاركة، مشاركة لا يخلقها فقط المستفيدون، بل الذين لا يجرؤون على إعلان رغبتهم في ذلك فيكون إعلانهم خفيا في صورة صمت كريه تضوع منه رائحة الولاء. آن لهذا الوطن أن يتبرأ من كل طغيان ما ظهر منه وما بطن، ما أطل من قمة ونبت في سفح.